السياسة الخارجية للنظام السوري... منتجة للحصانة والدور والمال
حازم نهار
2020-09-05
أخذت تصورات خاطئة حيزًا كبيرًا من اهتمام سوريين كثيرين ونقاشاتهم، خلال مرحلة ما بعد الثورة السورية، وصرفوا فيها وقتًا بلا طائل، وأنتجوا مشكلاتٍ جديدة، في الخطاب والممارسة، بحكم إيمانهم بها والدفاع عنها والعمل وفقها أو في ضوئها، تُضاف إلى كارثتهم الكبرى بوجود نظام سياسي لم يتورّع عن فعل أي شيء في سبيل بقائه. منها وجود قناعة راسخة لدى نسبةٍ لا بأس بها من "النخب السياسية" بإمكان بناء "دولة إسلامية" في سورية، أو الاقتناع بتصوّر أن النظام يسعى إلى بناء، أو يستطيع بناء "دولة علوية" في حال اشتدّ عليه الخناق. لكن أهم التصورات الخاطئة التوقع المحسوم بإمكان حدوث تدخل عسكري غربي ضد النظام السوري، وفي مصلحة الثورة، وتوقع سقوط النظام خلال أيام أو أسابيع أو أشهر.
يقود هذا إلى القول إن أكثر مسألة كانت غائبة لدى مجتمع الثورة و"نخبها"، عمومًا، هي نقص المعرفة بسورية وبالنظام السوري وبنيته وتوازناته وعلاقاته الإقليمية والدولية، وكان طرح شعار "إسقاط النظام" يقتضي، على الأقل، وبالضرورة، المعرفة بالنظام وطبيعته وعناصر قوته من أجل تحويل الشعار إلى برنامج عمل سياسي واضح. ويمكن، بالطبع، تفسير نقص المعرفة هذا بتغييب المجتمع السوري عن السياسة والثقافة خمسة عقود على الأقل، بدءًا من انقلاب حافظ الأسد في عام 1970، لكنه يبقى تفسيرًا غير كافٍ بالتأكيد؛ فالمشكلة أيضًا تطال "النخب السورية المعارضة"، من حيث بنيتها وأنماط تفكيرها وخطابها وأدواتها.
بنية داخلية تسلطية
النظام السوري بنية تسلطية ارتكزت على عناصر في الداخل، وعلى مجموعة من الخيارات في الخارج، شكلت سياسته الخارجية، وأسهمت جميعها في الحفاظ على أمن النظام وبقائه واستمراريته. ويمكن الحديث طويلًا عن بنية النظام وسياساته الداخلية، وقد تناولها باحثون غربيون متميزون تفصيلًا، وأصبحت في خطوطها العامة معروفةً لدى قطاع واسع من السوريين بعد الثورة. لكن يمكن القول إنها ارتكزت على إعادة هيكلة الجيش السوري، ليكون في خدمة النظام والحفاظ عليه فحسب، وبناء أجهزة أمنية موثوقة وقادرة على ضبط المجتمع والتحكم فيه، وعلى حزب البعث بوصفه "قائدًا للدولة والمجتمع"، الحزب الذي فقد عقائديته تدريجًا، وخسر قدرته على التعبئة الشعبية، وتحول إلى أداة للرقابة وشبكة للوصاية، يُضاف إليه "الجبهة الوطنية التقدّمية" التي لم يكن لها من دور سوى قطع الطريق على تشكل أي معارضة حقيقية محتملة، و"مجلس الشعب" الذي صُمِّم لإعطاء الشرعية لسلوكات النظام في كل مرة يحتاج إليها، وللضمان أكثر، أُبعدت عنه القضايا السياسية والأمنية في الداخل والخارج، واقتصرت وظيفته على أداء دور إداري واقتصادي، مع إبقاء القرارات الاقتصادية الكبرى خارج صلاحياته، بما فيها الميزانية.
في عهد بشار الأسد، لم يحدث تغيير كبير في بنية السلطة، واقتصرت طريقته على القيام بنوع من "التحديث السلطوي" بحسب تعبير فولكر بيرتس، إذ سار خطواتٍ نحو الأمام في اتجاه التحرّر الاقتصادي الذي بدأ بطيئًا وحذرًا في أوائل التسعينيات، فأصبح القطاع الخاص، إلى حدٍّ بعيد، في الصدارة بدءًا من العام 2000، فحدث اختلال اقتصادي كبير، وزادت حدّة التفاوت الاجتماعي، وظهرت طبقة جديدة من الأثرياء جدًا، وطبقة فقيرة في أسفل الهرم الاجتماعي، وتحول الفساد الذي " كان مرضًا في عهد حافظ الأسد" إلى "سرطان في عهد الأسد الابن". وكان لا بدّ لهذه الأوضاع السياسية والاقتصادية المتأزِّمة في البلاد أن تتفجّر في أي لحظة مواتية، وكان الربيع العربي في تونس ومصر قد أوجد المناخ الملائم لانطلاق الاحتجاجات بشكل واسع في سورية.
فوجئ النظام والمعارضة التقليدية والمراقبون الدوليون بالاحتجاجات في سورية، فقد كان التوقع ألا يطرق الربيع العربي أبواب سورية، بحكم الخوف الذي زرعه النظام في المجتمع السوري بعد قمعه التمرّد الإسلامي في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات، فضلًا عن حالة نزع السياسة من المجتمع السوري، وتحطيم النخب الثقافية والسياسية نحو نصف قرن.
وكثيرًا ما أعلنت نخب سياسية وثقافية في سورية نهاية النظام أو اقتراب سقوطه، وقد حدث ذلك في محطات عدة، لكنه تجاوزها دائمًا؛ فبعد وفاة الأسد الأب، ساد انطباع بعدم قدرة الأسد الابن على ملء الفراغ وتثبيت سلطته، وتوقع سياسيون ومراقبون كثيرون انهيار النظام في إثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، والانسحاب السوري من لبنان، والحصار الأميركي والأوروبي والعربي، لسورية بدءًا من عام 2005. وبعد الثورة، كثيرًا ما سمعنا، في مناسبات عديدة، تصريحات إقليمية ودولية، فضلًا عن تصريحات المعارضة السورية، باقتراب سقوط النظام، لكن النظام كان يتخطى الأزمات تلك، وما زال مستمرًا. ولعل السرّ يعود، بصورة أساسية، إلى سياسته الخارجية، على الرغم من معرفتنا بالبيئة الداخلية المحكمة التي بناها خلال نصف قرن، والتي لا يُتوقّع منها كثيرًا إنتاج ثورة قادرة على مواجهته.
شكلت السياسة الخارجية السورية، على مدار عقود، أحد أهم مصادر شرعية النظام السياسي السوري وقوته منذ استيلاء حزب البعث على السلطة في 8 مارس/ آذار 1963. لذلك تُعدّ عملية مقاربة هذه السياسة، بمرتكزاتها وآلياتها وممارساتها وأهدافها، وقراءة تاريخها الطويل في التعامل مع الأزمات الخارجية المختلفة، وخلفيات قدرتها على استثمار الوقائع والعلاقات في سبيل بقاء النظام وتحصينه، مسألة مهمة جدًا.
أهداف السياسة الخارجية
في خطابه العلني، يُصدِّر النظام السوري سياسة خارجية تستند إلى عقيدة قومية، هدفها تحقيق الوحدة بين البلدان العربية، ومواجهة مشاريع الإمبريالية في المنطقة، وتجعل من القضية الفلسطينية وبناء توازن استراتيجي شامل مع إسرائيل القضية المركزية، مع التشديد على تثبيت الهوية السورية للجولان المحتل، ودعم المقاومة بجميع الوسائل، والوقوف ضد أي تسويةٍ منفردة بين الفلسطينيين وإسرائيل، وتمتين العلاقات السورية اللبنانية، وغيرها.
وانطلاقًا من الأهداف المعلنة هذه، وسّع النظام، خلال الثلاثة عقود قبل 2011، دائرة نفوذه الإقليمي، وتأثيره الدولي، وتدخل سياسيًا وعسكريًا في الشؤون الداخلية للدول والحركات السياسية والعسكرية، العربية والإقليمية، مثل النزاع العراقي الإيراني، والنزاع التركي الكردي، والصراع الفلسطيني/ العرب الإسرائيلي، والصراع اللبناني الإسرائيلي، وغيرها.
وفي موازاة الأهداف المعلنة هذه، صدّر نفسه، في الداخل والخارج، بوصفه نظامًا حاميًا للأقليات، على الرغم من اضطهاده الأكراد تحت سياط الأيديولوجية البعثية، وبوصفه نظامًا علمانيًا، على الرغم من وجود شواهد كثيرة تقول عكس ذلك، أقلّها الامتيازات التي قدمها لفئة من الطائفة العلوية والتسهيلات التي قدّمها لمجموعة القبيسيات الدينية، واستثماره الكبير دور رموز دينية إسلامية.
في خارج سورية، جعلت هذه السياسات والآليات النظام قويًا في المحيط الإقليمي، ومؤثرًا في العلاقات الدولية، وقادرًا على المناورة وتجنب الضغوط الخارجية. وحققت هذه الآلية في الداخل السوري شكلًا من أشكال الاستقرار، لكنه استقرار سلبي، يرتكز على الحفاظ على ركود الحياة السياسية والاقتصادية، استقرار غير منتج للتقدّم في أي مستوى؛ فقوة الدول، كما هو معروف، لا تحقِّقها المناورات والتكتيكات الجزئية للسياسة الخارجية، بل تنبع من وجود بناء داخلي راسخ، يعكس نفسه في التعامل مع القضايا الإقليمية والدولية، ما يعني حضور المصلحة الوطنية، بصورة مكثفة، في تحركات السياسة الخارجية، وهو ما لم يكن في جدول أعماله.
آليات وأدوات
لعل أهم ثروة يملكها النظام السوري هي سياسته الخارجية؛ فهي كانت أداته لتحصين نفسه ضد التهديدات، ووسيلته لتعظيم دوره الإقليمي وإزعاج خصومه، وأحد مصادره الأساسية لتحصيل المال والمساعدات من محبيه وكارهيه على السواء، وقد استند في بناء سياسته الخارجية وترسيخها إلى عددٍ من الآليات والاستراتيجيات المتضافرة، منها البراغماتية والدور الوظيفي، التخريب واللعب في ساحات الآخرين، سياسة الانتظار وكسب الوقت.
البراغماتية والدور الوظيفي: ليس من الصعب اكتشاف أن تنقلات هذه السياسة بين "الممانعة" المتطرفة والبراغماتية البحتة، غير المستندة إلى مبادئ راسخة تتعلق بالمصالح الوطنية، لا تهدف إلا إلى تثبيت نظام الحكم في الحصيلة؛ فالأهداف المعلنة لم تكن إلا غطاءً لسياسة خارجية محرّكها الفعلي خدمة النظام وتحصينه وتأمين دفاعاته ومصالحه.
ترتكز سياسته الخارجية، أساسًا، على استراتيجية الموازنة بين المصالح المتناقضة للدول، ليتحوّل النظام بفضلها إلى نظام وظيفي، يعبِّر عن نفسه بالخدمات التي يقدمها في الإقليم والعالم، وهذا جعله متداخلًا بصورة معقدة في بنية النظامين، الإقليمي والدولي، وجعل مسألة الاستغناء عنه، من دون تفكيك هذه البنية، وإعادة صوغها على أسس جديدة، أمرًا صعبًا جدًا. بنى النظام علاقات مع دول ومحاور متناقضة، للعب على خلافاتها وصراعاتها من جهة، ولتقديم الخدمات لها من جهة أخرى، علاقات مع أميركا وروسيا في وقت واحد، علاقات مع إيران ودول الخليج العربي وتركيا في آن معًا... إلخ، فضلًا عن تداخله في صراعات المنطقة كلها، قديمًا وحديثًا: النزاع العراقي الإيراني، النزاع التركي الكردي، النزاع الخليجي الإيراني، الصراع العربي الإسرائيلي، ووحده هذا الأخير أتاح له تفاهمات، فوق الطاولة وتحتها، تُسهم عمليًا في بقائه.
كان اعتداء العراق على الكويت عام 1990 فرصة ذهبية للنظام لتحسين علاقاته بالولايات المتحدة، وبحكم أن الودّ كان مفقودًا أصلًا بين النظامين، السوري والعراقي؛ قرر حافظ الأسد الانضمام إلى التحالف الدولي ضدّ العراق، ليصبح الطرف العربي الأول في المنطقة في غياب صدّام حسين، ولفتح صفحة جديدة في العلاقات السورية الأميركية. كان مهمًا أيضًا لأميركا وتحالفها آنذاك مشاركة حكومة عربية معروفة بعدائها للسياسة الأميركية، ما يعني تحسين شرعية حملتها العسكرية وصورتها العامة في المنطقة. كان حافظ الأسد، في اللحظات الحاسمة، يُظهر درجةً عاليةً من البراغماتية والمرونة في تكييف سياسته مع الوضع الدولي، لكن نجله بشار الأسد لم يكن كذلك في عام 2003، عندما وقف ضد الهجوم الأميركي على العراق، على الرغم من أنه كان قد جعل من سورية، في وقتٍ سابق، شريكًا لأميركا في الحرب ضد الإرهاب، وسمح باستقبال بعض الذين أحضرتهم أميركا من بلدان أخرى، ليجري التحقيق معهم في سورية، على أساس كونهم إرهابيين.
بنى الأسد الأب تحالفًا مع إيران، على الرغم من الاختلاف العقائدي مع نظامها، وبنى عداوةً مع العراق على الرغم من التماثل العقائدي مع نظامها. وقد انعكس تحالفه مع إيران إيجابًا على ثبات النظام ورسوخه، وأرغم الآخرين على إعادة حساباتهم تجاهه، ومقايضته في مسائل عديدة، لكنه أضرّ بسمعة سورية وأساء إلى صورتها في المجتمع الدولي قبل 2011، خصوصا في ظل الخطاب الأيديولوجي غير العقلاني للسياسة الإيرانية في العلاقات الدولية، كما أفسح المجال لإيران للدخول إلى عمق النسيج العربي، والتدخل في الشؤون الداخلية لبلدان عربية عديدة، واستخدامها أوراقًا في صراعها مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.
التخريب واللعب في ساحات الآخرين؛ النظام السوري أخطبوطي، له أيدٍ ومنظمات وجماعات تتبعه أو تناصره في دول الإقليم كلها؛ حزب الله وحركة أمل في لبنان، بعض القوى والجماعات اللبنانية القومية واليسارية، حركتا حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، حزب العمال الكردستاني في تركيا، منظمات ومليشيات متنوعة في العراق، أحزاب اليسارية (القومية والشيوعية) في بلدان عربية مختلفة... إلخ، وهذا أعطاه القدرة على ممارسة الضغط على جيرانه، وسمح له باللعب في ساحات الآخرين، وابتزازهم وتهديدهم، وأبرز مثال على ذلك علاقة سورية بحزب العمال الكردستاني (PKK) التي أوشكت أن تجرّ تركيا وسورية إلى حرب في 1998.
في لبنان مثلًا، كانت السياسة الخارجية للنظام مافيوية، ترتكز على أدوات استخبارية بحتة في الفعل والتأثير، في وقتٍ قدم فيه لبنان للنظام السوري، على الدوام، مجالًا واسعًا لحلّ معضلاته الاقتصادية، وكانت أرضه ساحة حرب، في لحظة، بين إسرائيل وسورية. وبذلت السياسة الخارجية السورية أيضًا جهدًا كبيرًا لاحتواء العمل الفلسطيني، ودخلت في مواجهات مسلحة مع منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وسعت إلى تفكيك الصف الفلسطيني في محطات عديدة، وانحازت صراحة إلى القوى الفلسطينية المعارضة لياسر عرفات، ورعت التنسيق بينها، وحوّلتها إلى أوراقٍ تضغط بها على خصومها السياسيين، ما أعطاها هامش مناورة في العلاقات الإقليمية والدولية.
في عهد الأسد الأب، استضاف النظام بعض معارضي صدّام حسين، ليعود الأسد الابن ويشجع المقاتلين ضد حكومة ما بعد صدّام في العراق التي شكلها معارضو الأخير الذين كانوا في دمشق وطهران، حتى أنه سمح للمتطرّفين الإسلاميين بالعمل في الأراضي السورية، والمرور منها إلى العراق. وعلى العموم، تبدو هذه الرغبة في القيام بدور تخريبي جزءًا أصيلًا في السياسة الخارجية السورية.
نجح النظام السوري في تثبيت دوره في المحيطين، الإقليمي والدولي، وفي تخفيف الضغوط الخارجية عليه باستخدامه أوراق الضغط التي يملكها في الملفات الإقليمية كافة، في لبنان والعراق وفلسطين، واللعب في ساحات الآخرين، وكفّ أيديهم عن التأثير في الأوضاع الداخلية في سورية، وساعده في ذلك وضع سورية التاريخي والجغرافي بوصفها بلدًا أساسيًا في المنطقة، ومرتبطًا بجميع أزماتها وملفاتها، بوجود نظام الأسد أو غيره، كما ساعده أيضًا فشل الحسابات الغربية في المنطقة، خصوصا الأميركية.
م في وضع هذه المرتكزات للسياسة الخارجية انطلاقًا من قراءته لأوضاع سورية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حين كانت موضوع نزاع دائم بين الدول الأخرى، العربية والإقليمية والدولية، الأمر الذي جعلها بلدًا غير مستقر، وتكثر فيه الانقلابات السياسية، وتتبدل الأحوال بين ليلة وضحاها.
سياسة الانتظار وكسب الوقت؛ اعتاد النظام السوري، في محطاتٍ عديدة، مع اشتداد الضغوط الخارجية عليه، اللجوء إلى سياسة الانتظار وكسب الوقت إلى أن تتغير الأحوال، أحوال الضاغطين عليه، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، بحكم أن الانتخابات الدورية في هذه البلدان ستأتي كل مدة بأشخاص آخرين وطواقم عمل مختلفة، ما يعني أن الحكومات الجديدة ستحدِّد، بالضرورة، أولويات مختلفة، ومن ثمّ تحتاج إلى بعض الوقت لترتيب نفسها وجدول أعمالها، كما يمكن أن تتغير سياساتها تجاهه، على الرغم من عدم تغييره سياساته، وقد نجا النظام السوري بفعل سياسة الانتظار هذه من أزمات عديدة. فبعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005 مثلًا، كان النظام محاصرًا وتحت ضغط شديد، لكن الحال تغيَّر بعد مدة من دون أن يُضطرّ إلى تغيير مواقفه.
السياسة الخارجية في مواجهة الثورة والمعارضة
تجسّدت آليات السياسة الخارجية ومرتكزاتها في مرحلة ما بعد مارس/ آذار 2011، واستخدم النظام أوراقه الإقليمية كافة في بلدان المنطقة، واستدعى حلفاءه جميعهم لمؤازرته ودعمه، لمواجهة الثورة والمعارضة والمجتمع الدولي، وما زال ثابتًا في موقعه، على الرغم من هشاشته، ومن تحوّل سورية إلى أسوأ بؤرة في العالم من حيث الفوضى والعنف، وزيادة التدخل الإقليمي والدولي، وسوء أوضاع شعبها الاقتصادية والحياتية، وتمزّق هويته إلى هويات عرقية وطائفية وعشائرية وجهوية.
عمل النظام على تغيير رؤية العالم وقسم من السوريين تجاه الثورة السورية، وكانت لديه وسائل عديدة في هذا الإطار؛ فقد استخدم مخاوف الأقليات أداةً، موحيًا بأن مصير العلويين والمسيحيين والدروز في سورية يتوقف على بقاء النظام، بينما كان، في الوقت نفسه، يحرِّض التوترات العرقية والطائفية على الأرض. كما استثمر قلق الجمهور الغربي وخوفه من الإسلاموية وتنظيم القاعدة وأمثاله إلى الحدّ الأقصى، ما أسهم في منع الدول الغربية من رمي كامل ثقلها لدعم الثورة في البدايات، قبل أن يصبح السلفيون جزءًا مهمًا من حركة التمرّد بمدة طويلة.
ولتسهيل عسكرة الثورة وأسلمتها، عمل على إطلاق جماعات متطرفة عنيفة ومساندتها، فركّز وجود قواته في المناطق الحيوية، في المدن الأساسية، وسحب قواته من الحدود، ما سهل كثيرًا دخول المقاتلين الأجانب إلى سورية تحت رايات جهادية، فيما كانت دول في الخليج تدعم، بقصر نظر على أقل تقدير، هذه الجماعات، على الرغم من وضوح أن أكثرية السوريين في صفّ الاعتدال. ولم يجد في ذلك خطرًا على نفسه، لأنه كان يعلم أيضًا أن الدول ستساعده في المآل في التخلص منها، ولن تسمح لمثل هذه التنظيمات بالوصول إلى حكم سورية أبدًا.
وفي بداية الثورة، استخدم النظام السوري حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، وهو الفرع الكردي السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا؛ متيحًا له فرض سيطرته على أجزاء من شمال سورية في مواجهة القوى الكردية السورية الأخرى، والمعارضة وفصائلها، كما استخدمه أيضًا في إرباك وتهديد أنقرة وتغيير أولوياتها في ما يتعلق بالوضع السوري.
كما كانت إحدى استراتيجياته في المواجهة الاستمرار في القتل، ولو لم تكن هناك ضرورة له، لتعويد المجتمع الدولي على تقبل الأمر، وربما لإشعار المجتمع الدولي بأنه تنازل نوعًا ما عندما يمرّ يوم واحد بلا قتل. وكان الهجوم الكيماوي على الغوطة في أغسطس/ ىب 2013 أيضًا مدخلًا لعودته إلى الساحة، وتحوله إلى طرفٍ في اتفاق دولي، بعد أن كان معزولًا. في الحقيقة، كان النظام السوري قادرًا على تخطّي الخطوط الحمراء كلها التي فرضها المجتمع الدولي، وكان يشعر دائمًا بأنه قادر على الإفلات من المحاسبة، إلى درجة تجعلنا نطلق عليه صفة "النظام المدلَّل"، وعلى ما يبدو، لا يشبهه في هذه الصفة سوى إسرائيل.
حاول النظام استرضاء خصومه الإقليميين والدوليين، في بدايات الثورة، بالإعلان عن التزامه جهدَ الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، لإنهاء العنف، لكنه عمليًا لم ينفذ أيًا من المتطلبات والاتفاقات، وذلك كله كان لتأخير الإجراءات الدولية، بهدف كسب الوقت وإعداد نفسه جيدًا. وكما هو الحال في الأزمات السابقة، استخدم النظام السوري سياسة الانتظار في تعامله مع المجتمع الدولي، عندما بدأت مرحلة الضغوط الخارجية، واختار إدارة الظهر لها، وانتظار تغيّر القيادات في الدول الضاغطة، أو الانتظار إلى أن يتركّز الانتباه الدولي على أزمة أخرى أو صراع آخر، وقد آتت هذه السياسة أكلها مرّة أخرى، وظلّ النظام قائمًا، على الرغم من خساراته وتهشّمه خلال العقد الفائت.
كان تعقيد الوضع السوري، ووجود عددٍ كبير ومتداخل من المصالح الدولية والإقليمية، حجتين قويتين ضدّ التدخل الدولي في البدايات، لكن العامل الحاسم في منع التدخل كان عدم وجود رغبة أو مصلحة أميركية أصلًا في التدخل، فضلًا عن المقايضات التي دخلت فيها أميركا مع إيران في هذا الشأن، ورغبة أميركا في التوصل معها إلى اتفاقٍ يتعلق ببرنامجها النووي. ولا ينسى، بالطبع، كيف سارعت إسرائيل، في أوائل العام 2011، إلى إرسال إشاراتٍ باستعدادها للتوصل إلى اتفاق سلام مع سورية؛ مفترضةً أنه على الرغم من تصلب النظام، إلا أنه سيبقى مستقرًا وتحت السيطرة، وأعلنت في مناسباتٍ عدة تفضيلها التعامل مع "الشيطان الذي تعرفه" على القلق من خلفائه المحتملين أو "الشياطين الذين لا تعرفهم".
كان النظام يدرك هذه المعادلات السياسية التي تمنع حصول تدخل دولي حاسم، ما أعطاه مزيدًا من القدرة على مواجهة الضغوط، والسير في سياسة الانتظار إلى أقصاها، فيما المعارضة، عمومًا، وضعت ثقلها كله في خانة انتظار التدخل الدولي، ولم تفعل شيئًا ذا وزن على مستوى بنيتها وخطابها وتنظيم نفسها. مع الزمن، تعسكرت الثورة و"تغيّرت نكهتها"، وتبعثرت قوى المعارضة السورية، وزادت مساحة القوى المتطرّفة فيها على حساب القوى الديمقراطية، ومن ثمّ بات المجتمع الدولي، شيئًا فشيئًا، أكثر تشككًا بشأن قدرة المعارضة على تولي المهمات وبسط السيطرة في بلدٍ مدمّر، فضلًا عن عجزها عن احتضان الشباب الذي قامت الاحتجاجات على عاتقه، على الرغم من أن المجتمع الدولي نفسه مسؤول أيضًا عن هذه الحال، بحكم موقفه غير الحاسم من النظام. لم يفعل شيئًا وازنًا من أجل سورية، واكتفى بمراقبة النظام متخطيًا الخطوط الحمر واحدًا تلو الآخر، ما أدى إلى تزايد نشاط الجماعات المتطرّفة، وتزايد التدخل الإقليمي، وتفسّخ المجتمع، وارتفاع حدّة الخذلان لدى الشعب السوري، وحوّل سورية في الحصيلة إلى معضلة إقليمية كبيرة. وفي هذه الأجواء المغلقة، دفع المجتمع الدولي باتجاه التفاوض بين النظام والمعارضة، وقد أدار النظام المفاوضات مع المعارضة، ومن خلفها الدول الداعمة، بالطريقة ذاتها التي تديرها إسرائيل مع العرب؛ فبحكم أوراق عديدة بين يديه، وإدراكه عدم وجود تدخل عسكري جدي ضده، لم يبدِ أي تنازل، وعمل على دفع الجميع (الدول والقوى) للتفاوض على النتائج الحاصلة في سورية بعد 2011، وليس التفاوض حول عدوانه على المجتمع السوري، وأسس الدولة ونظام الحكم والانتقال السياسي، أي التفاوض بهدف إعادة الإعمار وإعادة سورية إلى ما كانت عليه.
في مواجهة سياسة النظام، افتقرت المعارضة إلى رؤية مشتركة والتزام قيادة واستراتيجية واحدة، وكانت ولا تزال منقسمة على نفسها، وكان واضحًا للغرب أن غضّ النظر عن خلافاتها ومشكلاتها، وتأجيل أي أسئلة صعبة حتى انهيار نظام الأسد، سيكون خطأً. كان من المشروع والضروري أن تسأل المعارضة نفسها الأسئلة الجوهرية قبل أن يسألها أحد، بوصفها سلطةً بديلة أو محتملة، خصوصًا الأسئلة المقلقة للمجتمع السوري، وللغرب أيضًا؛ طبيعة النظام السياسي الجديد، حقوق الأقليات، السيطرة على العنف والسلاح... إلخ.
ولكن الغرب المعذور في رؤيته إلى المعارضة السورية، كان ينبغي له أيضًا أن يتوقع أنه من دون عمل المعارضة تحت أفق دعمٍ مضمون وحاسم لها في مواجهة النظام، وهذا ما لم يحصل، فإن إجاباتها وأعمالها لن يُكتب لها النجاح المشتهى في المآل، ما ترك المعارضة منفعلةً بالدول التي تقدِّم لها السلاح والمال، الأمر الذي أدّى تدريجًا إلى تغير بنيتها وخطابها بطريقة لا تخدم الأهداف الحقيقية للثورة، ولا المصلحة الوطنية السورية؛ فالاعتراف الغربي بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بوصفه "الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري" لم يتجاوز الاعتراف اللفظي، ولم يكن له أي تبعات قانونية أو عملية، وهذا أدّى، تدريجًا، من جهة أولى، إلى تمزّقه وهشاشته وسيطرة الشخصيات والمجموعات التي لا تجد حرجًا في تنفيذ التوجيهات الصادرة من تركيا وقطر أو السعودية والإمارات، حتى لو كانت لا تصبّ في خانة المصلحة الوطنية السورية، وأدّى، من جهة ثانية، إلى الاستمرار مثلًا بتوزيع كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية في المناطق التي يسيطر عليها النظام، ووفقًا لأولوياته وحاجاته، بوصفه المعترف به قانونيًا في الأمم المتحدة والهيئات الدولية.
أخطار ومخارج
لم يكن لدى النظام السوري، بدءًا من عام 2011، إلا استراتيجية واحدة؛ هزيمة الثورة والمعارضة. فقد عطّل كل الطرق والأدوات الأخرى الممكنة، وهذه نقطة ضعف أساسية في سياسته العامة. وفي سياق ذلك، اعتمد سياسة الانتظار التي حافظت على وجوده، ولكن ليس على الوجود الذي يشتهيه؛ إذ يُظهر الوضع الحالي أن التجربة السابقة ليست كفيلةً بتأكيد أن الأمور ستسير دائمًا بالطريقة نفسها، فقد أخفق في استخدام هذه المدة لوضع استراتيجية تمكّنه من الخروج من هذا الوضع بأقل خسائر ممكنة، ما يعني أن استراتيجية الانتظار انعكست عليه أيضًا بصورةٍ سلبية، إلى درجة أنه بات غير قادر على أداء وظائفه في الداخل، وتحول في المستوى الخارجي إلى جسمٍ منفعل، وغير قادر على العمل بالطريقة السابقة ذاتها، على الرغم من أنه ما زال يحتفظ بفائضٍ من القدرة على التخريب في الداخل والخارج.
اليوم، على أقل تقدير، يمكن أن تكون المرحلة السابقة محرِّضا للمجتمع الدولي، للانتباه إلى أن استمرار الوضع الحالي يعزِّز التوترات المباشرة وغير المباشرة في الدول المجاورة، ففي غياب التدخل الإيجابي الفاعل، ازداد الوضع في المنطقة كلها سوءًا، وحصل كل ما قيل عن مخاوف يمكن أن تحصل بحدوث التدخل، حصلت العواقب والمشكلات نفسها التي تخوّف مراقبون كثيرون من حصولها فيما لو حصل التدخل، وبطريقة أشد وأكثر رعبًا. ففي تركيا، مثلًا، يستمر التناغم بين حزب العمال الكردستاني والأتراك العلويين بإحداث حالةٍ من الاستقطاب لدى الشعب التركي، وإرباك السياسة التركية. كما أن على تركيا التعامل مع مئات آلاف من اللاجئين الذين فرّوا من سورية، ومن شأن اللاجئين السوريين في لبنان أيضًا التأثير في استقرار هذا البلد الذي يشبه سورية في تركيبته المجتمعية، وتزداد فيه حدّة الاستقطاب السياسي بين القوى الداعمة للنظام السوري والمعارضة له، فضلًا عن أن بيئة الفقر والمليشيات وغياب الدولة في سورية مستمرّة، وهي البيئة الملائمة والمثالية لإنتاج، وإعادة إنتاج، الفوضى والتطرّف في المنطقة والعالم.
ربما وصلنا أو سنصل قريبًا إلى الفصل الأصعب في سورية؛ كانت السنوات الخمس الأخيرة (2015-2020) فصلًا ضائعًا ومجانيًا إلا من قتل وتشريد مزيد من السوريين. الفصل الأصعب هو الفصل الذي يسبق المرحلة الانتقالية، وتتحدّد في ضوئه طبيعة المرحلة الانتقالية. وهنا، لا ينبغي لنا التفاؤل بسياسات الدول، ولا الاستهتار بقوة النظام السوري الذي ما زال يحمل في جعبته أوراقًا تطال المنطقة كلها، فضلًا عن دعم شركائه الوثيق، روسيا وإيران وحزب الله. ومع ذلك، تبقى هناك مفاجآت في حقل السياسة تخرق تحليلاتنا وفهمنا، خصوصًا أنه لا أحد قادر على إحاطة الواقع في كليته.
بالنسبة إلينا نحن السوريين، ليست المشكلة الأساسية حقًا في القوى الإقليمية والدولية التي تتصارع على الأرض السورية، بقدر ما هي في فهمنا سياساتها وتوازناتها ومصالحها وحدود قوتها وتأثيراتها والضغوط الواقعة عليها. نريد أن نفهمها، على ما يبدو، بحسب رغباتنا وأمنياتنا ومصالحنا فحسب، وكثيرًا ما نعتمد على التصريحات الإعلامية لمسؤوليها في توقعاتنا سياساتها، مع أن التصريحات هي آخر ما يُعتمد عليه في محاولة معرفة سياسات الآخرين، وتوقع مسارات المستقبل.
وفي سياق محاولة التعرّف إلى سياسات الآخر وتوجهاته، لا نحتاج أبدًا إلى ممارسة التأليه أو الشيطنة، ولا إلى التقديس أو التدنيس، ولا إلى الحب أو الكره، ولا إلى المديح أو الذم؛ فكل هذه المقاربات تنتمي إلى ما دون السياسة، أو إلى العصر القبلي، أو إلى عقلية الانتظار والكسل، أو إلى آلية الاتكال على ما تجود به علينا توافقات وصراعات الآخرين.
أيًا تكن السياقات الإقليمية والدولية، سلبًا أو إيجابًا، نحن في حاجةٍ إلى طرف سوري، أو في الأحرى لن يكون لنا مستقبل إيجابي محتمل أبدًا من دون وجود طرفٍ سوري: وطني، ديمقراطي، منظم، قوي، سياسي، غير أيديولوجي، صبور ومتّزن وعقلاني؛ لأن أهم قاعدة ما زالت غائبة لدينا هي الاقتناع والإيمان بأن هزيمة النظام سياسيًا، وثقافيًا وقانونيًا وإعلاميًا بالضرورة، أهم وأجدى وأسهل وأقل تكلفة من الطرق الوعرة الأخرى كلها، ولهذا المسار شروطه ومعاييره العديدة التي يجب أن تأخذ المساحة الأكبر من تفكيرنا جميعًا.