قصة / الصّمت
2007-04-01
خاص ألف
لو لم أفعل ذلك .
لم يكن أحد يتوقّع ذلك , ما حدث لا يصدّق , بلمح البصر تلاشى الصّمت من القاعة , و حلّت الفوضى , بعد أن أخرج شريف من جيبه مسدّساًَ حربيّاً , و أطلق منه رصاصة هشّمت رأس السيّد وجيه , الجالس قبالته , و أردته أرضاً .
اندفع الأعضاء وسط الصراخ نحو الجثّة , رفعوها , و وضعوها ممدّدة , فوق الطاولة التي كانوا يجتمعون إليها قبل لحظات .
بدت الجثة ضخمة أكثر من المعتاد , بعد أن تشوّه الوجه ,
و اختفت نظرات السيّد وجيه الحادّة , و حاجبيه الكثيفين , و ابتسامته الدّمثة التي طالما امتاز بها .
وحدها الآنسة جميلة , هربت إلى ركن بعيد مخفية وجهها بين كفيها , و هي تعول منتحبة , بعد صرخة الذّعر المرعبة التي أطلقتها .
عاد شريف للجلوس بهدوء , وضع مسدسه الحربي على الطاولة , و هو يحدّق بالجثة الممدّدة أمامه بنظرات ثابتة , و قد هدأت أنفاسه , التي طال اضطرابها قبل هذه اللحظة .
بعد أن سوّى الأعضاء الثلاثة الآخرين وضعية الجثّة , وقفوا ذاهلين لا يجرؤ أحدهم على النظر إلى الآخر , و عاد إلى القاعة صمت مريب - إذا ما تجاهلنا نحيب الآنسة جميلة المتواصل - .
تحرّكت شفتا شريف ببطء شديد , و دون أن يرفّ له جفن , أو يحيد بنظره عن الجثّة المشوهة , لفظ عبارته الحازمة :
- لو لم أفعل ذلك , لفعله هو .
لم يستغرق كلّ ذلك أكثر من ثوان قليلة , فُتح بعدها باب القاعة , و ولج إليها عدد كبير من الموظفين , محدثين جلبة عالية من العويل , و الصراخ , و اختلطت أصوات الاستنكار , و الاستهجان , بنظرات الذعر , و الذهول , دون أن يفهم أحد ما حدث , لكنّ إجماعاً عاجلا صدر بضرورة إبلاغ الشرطة , التي وصل رجالها بعد ساعة واحدة , بلباسهم الرسميّ , و بنادقهم الطّويلة , روسيّة الصنع , فاقتادوا شريف مكبّل اليدين , صامتاً , يمشي بثقة المنتصر , و حمل أحدهم المسدّس داخل كيس ورقي ّ , بينما لحق بهم أعضاء المجلس ذاهلين , بما فيهم الآنسة جميلة , التي سالت كحلة عينيها ممزوجة بدموعها المنهمرة باستمرار , ممرّغة وجهها .
عاد الصّمت إلى القاعة , يشوبه وقع أقدام الشرطيّ , الوحيد الذي بقي ليحرس الجثّة , ريثما يصل الطبيب الشرعيّ .
تجوّل الشرطيّ في أرجاء القاعة , متفحّصاً المكان ببلاهة , ثمّ وقف يحدّق بالجثّة , مستغرباً ضخامتها .
استدار حول الرأس المهشّمة عدّة مرّات , محاولاً تبيّن ملامحها , دون جدوى , مطّ شفتيه أخيراً بلا مبالاة , و جلس بعيداً متكئاً إلى بندقيته الطّويلة ..
- ما يزال الوقت مبكّراً , مؤكّد أنّ هذا الرّجل لم ينتحر .
تمتم بذلك , و هو يغمض عينيه المنهكتين , مستسلماً لخدر يسري فيه منذ الصّباح , سعيداً بما استطاع استنتاجه .
نظرية الصّمت .
لم يمض سوى أسبوع واحد على تسلّم الأستاذ سمير مهامه كرئيس للمجلس , خلفاً لوالده الذي توفي قبل شهرين , بعد أن ترأس المجلس لعشر سنوات متتالية , وبعد أن اختلف الأعضاء طويلاً حول تسمية رئيس جديد لهم , و لم يُحسَم الخلاف إلا بعودة السيّد سمير - غير المنتظرة – من ألمانيا , بعد أن أتمّ فيها دراسته للفلسفة , عندئذ أجمع الأعضاء على تسميته رئيساً , حفاظاً على سيرورة المجلس التي كرّسها والده .
كان سمير أوّل شابّ يدخل المجلس منذ تأسيسه , فهو لم يتجاوز الثالثة و الثلاثين , بينما تجاوزت أصغر أعضاء المجلس - الآنسة جميلة - السابعة والأربعين منذ أسبوع , و قد حاول في اجتماعه الأوّل بالأعضاء أن يلمّ بأعمال المجلس , و أن يفهم حيثيات المهام الملقاة على عاتقه , بعد أن طلب منهم استبدال كلمة السيّد , التي يستخدمونها للمخاطبة , بكلمة أستاذ لدى مخاطبته , فهو لم يكن بعد مستعداً للتخلّي عن اللقب الذي أمضى سنوات من الدّراسة المرهقة للحصول عليه .
بدأ الأعضاء حديثهم , فارتفعت أصواتهم كالعادة , و تحوّلت إلى غوغاء بدا الأستاذ سمير تائهاً فيها , غير قادر على فهم شيء , سوى التحالف الواضح بين السيّد شريف , و السيّد وجيه , اللذين بدا صوتهما هو الأقوى , بينما كان السيّد سميح - ذو العين الواحدة – يفرض مع السيّد ساهر ( حليفه ) جوّاً من السخرية اللاذعة , تثير السيّد شريف بشكل واضح , أمّا الآنسة جميلة فقد بدت محايدة تماماً , تؤيّد الجبهة الأولى تارة , و الثانية تارة أخرى , دون أن تصرّح برأيها الخاص مطلقاً , كما أنّها التزمت الصّمت لفترات طويلة , بدت خلالها شاردة الذهن , بعيدة عما يدور حولها .
في لقائه الأول بالأعضاء وجد الأستاذ سمير صعوبة بتمييز الآنسة جميلة , إذ كانت تشبه زملاءها بطريقة ارتدائها للثياب الأقرب إلى الذكورة , و ألوان ربطات العنق القاتمة التي تختارها , و شعرها المرفوع , المخبأ تحت قبعة بنية , تشبه ما يعتمره العجائز من الرجال , و الملامح القاسية لوجهها الذي تكاثرت فيه التجاعيد , و بدا الشاربين واضحين فيه فوق شفتين دقيقتين , غائرتين , و صوتها الأجش , المبحوح , الشبيه بأصوات المدخنين من الرجال .
بعد أن انتهى الاجتماع الذي ارتفعت فيه وتيرة الصراخ إلى حدّ تبادل الشتائم في بعض الأحيان , التزم الأستاذ سمير الصّمت برهة , أدرك فيها أنّه لن يتمكن من فهم ما يدور حوله بهذه الطريقة , و أنه الوقت الملائم للاستفادة مما تعلّمه طوال سنوات دراسته , شدّ ظهره إلى الكرسي , بعد أن تناول عن الطاولة قلماً راح ينقله بين أصابعه , ساهماً , مانحاً لنفسه هيئة القائد التي لم يستطع احتيازها بعد , ثمّ تقدّم من الأعضاء باقتراحه الغريب , في أن تقسم اجتماعات المجلس إلى ثلاث مراحل :
- جلستان يلتزم فيهما الجميع الصّمت , لنتمكن من فهم اقتراحاتكم , و دراستها , و من ثمّ نخصّص جلسة لمناقشة تلك الاقتراحات , بعد أن يكون كلّ منكم قد سجل ملاحظاته , و حدّد أهدافه بدقّة .
اعتلت الدّهشة وجوه الأعضاء , و تبادلوا نظرات الاستغراب , لكن الأستاذ سمير لم يلحظ ذلك , فهو لم يتجرأ بعد أن ينظر مباشرة إلى وجوه الأعضاء , التي تشبه إلى حدّ كبير وجه والده , الذي لم يجرؤ يوماً أن يرفع رأسه أمامه , إضافة إلى كونه اندفع بحماس كبير لشرح نظريته حول الصّمت , محاولاً استعراض معارفه التي اكتسبها جراء دراسته للفلسفة , و نتيجة صداقة وثيقة جمعته مع يهوديّ ألماني يعمل محلّلاً نفسيّاً , راح يكرّر اسمه الطويل مراراً أثناء الحديث , دون أن يتمكن أحد الأعضاء من حفظه .
- ليس مهمّاً أن نتكلّم , الكلام سهل جدّاً , علينا أن نتعلم كيف نصمت , بذلك فقط يمكننا التخلّص من الفوضى , الصّمت سيمنحنا مساحة من الإمعان , و التركيز , تزول معها كلّ العوائق التي تسبب خلافاتكم ....
أسهب الأستاذ سمير في شرح نظريته , محاولاً إضفاء الكثير من الأهميّة على حديثه , عبر فواصل صغيرة من الصّمت بين جمله الطويلة , يعود خلالها لمداعبة القلم بأصابعه , و تقليب بعض الأوراق الموضوعة أمامه دون أن ينظر إليها , و دون أن يلحظ الابتسامة السّاخرة التي اعتلت وجه السيد وجيه وهو يراقب غيظ السيّد شريف الذي رغب عدّة مرّات أن يصرخ بوجه رئيسه الجديد : ( لو أنّك تؤجّل ألعابك السّخيفة إلى البيت , فأطفالك كما أعتقد أحوج إليها )
أمّا السيّد ساهر , و السيّد سميح فقد اكتفيا بالتغامز كلّما أعاد الأستاذ سمير ذكر اسم صديقه اليهوديّ .
وحدها الآنسة جميلة كانت تحدّق بوجه الأستاذ سمير دون أنت يرفّ لها جفن , لم تكن مصغية إليه , بل إلى صوت رقرقة عذبة تعتمل في صدرها للمرّة الأولى منذ كانت مراهقة , وقد انشغلت بإخفاء شاربها بأصابعها , و مدارات وجهها كلّما نظر إليها هذا الشاب , الذي يتقن جيداً مداعبة القلم , و الذي جعلها تشعر للمرّة الأولى بأنوثة ظنت أنّها تحررت منها منذ زمن بعيد , كانت تحدّق بوجهه الذي بدا وسيماً , قوياً , مثيراًُ , إذا ما قارنته بوجوه العجائز المحيطة بها .
استمرّ حديث الأستاذ سمير ساعة طويلة جدّاً , أحسّ بعدها بنشوة عارمة , و هو يسمع الثناءات المتلاحقة حول أهمية نظريته , و التأكيد على حاجة المجلس إلى مثل تلك الذهنية العلميّة الدّقيقة , المصحوبة بعنفوان الشباب الواضح , عندها فقط رفع رأسه , و نظر مباشرة إلى وجوه الأعضاء , الذين يعلمون جيّداً أنّ ما يقترحه رئيسهم واجب التنفيذ دون نقاش , عملاً بما أسّس له , و كرّسه والد الأستاذ سمير - رئيسهم المتوفى - .
خرج الأستاذ سمير من القاعة محتفظاً بنشوته , بينما غادر الأعضاء متّحدين بشعورهم بالخيبة , جرّاء ألعاب طفوليّة يعلمون جيّداً أنّها لن تفضي إلا إلى إطالة زمن الاجتماعات المملّة , أمّا الآنسة جميلة فقد غادرت القاعة بعد أن تحوّلت الرقرقة العذبة إلى خرير شلالات صاخبة تندفع في عروقها , حاملةً إيّاها على جناحين من الغبطة نحو فرح موعود , يقطن في ثنايا تحوّل جذريّ سيأتي .
التّحوّل .
قطع الأعضاء الأربعة قهقهتهم المرتفعة بعد أن دخلوا القاعة , و فوجئوا بالأستاذ سمير , الجالس خلف الطّاولة , صامتاً , يقلّب أوراقه , غارقاً بالتفكير , تبادلوا نظرات الاستغراب , و السخرية بعد أن نظر كلّ منهم إلى ساعته , ثمّ جلسوا حول الطّاولة ملتزمين الصّمت , كاتمين غيظيهم , بينما بقي كرسيّ الآنسة جميلة شاغراً لأكثر من نصف ساعة , عبقت بعدها في الجوّ رائحة عطر مغرق بالأنوثة جعل الجميع – باستثناء الأستاذ سمير – يلتفتون ناحية الباب لتتسع عيونهم دهشة , و هم يرون الآنسة جميلة تدخل القاعة بفستان قصير ذي ألوان زاهية , و على كتفيها ينساب شعرها مسدولاً , بعد أن صبغته بلون ذهبيّ لمّاع , و قد أخفى طلاء الوجه الكثير من تجاعيدها , كما اختفى شاربيها , و بدت شفتاها المصبوغتان بأحمر الشفاه مكتنزتين , نضرتين على غير العادة .
ابتسمت الآنسة جميلة ابتسامة الفوز , و مشت نحو كرسيها بخطوات واثقة , مغناج , بينما تعلّقت الأنظار بكعبي حذائها المرتفعين بشكل مبالغ فيه , و هما يصدران إيقاعاً رتيباً يكمل أنوثة المشهد .
جلست الآنسة جميلة بثقة تحت عيون زملائها , الذين تبادلوا نظرات الاستغراب , و السخرية بصمت حفاظاً على قانون الجلسة , أمّا الأستاذ سمير فظلّ مستغرقاً بأوراقه , غير آبه لما يدور حوله .
تململ السيّد سميح , و أراد أن يصرخ بوجه الآنسة جميلة : ( إنّك تبدين كرأس يقطين يابسة ) , لكنه اكتفى بأن يدوس قدم السيّد ساهر , معبّراً له عمّا يجول في خاطره – لعدم قدرته أن يغمز له بعين واحدة - , ابتسم السيّد ساهر - و قد فهم ما أراد حليفه – ابتسامة مبتورة مخافة أن يلحظه أحد , غير منتبه إلى أنّ أحداً لم يكن ينظر إليه سوى عين حليفه الوحيدة , أمّا السيّد شريف فقد أومأ إيماءة سخرية سريعة , وعاد يحدّق بوجه السيّد وجيه , لمعرفته بخطورة ما اتفقا عليه , وكم يحتاج من تركيز كيلا يفتضح أمرهما في جلسة النقاش , لكن السيّد وجيه لم يعد مبالياً بذلك , و تحوّلت عيناه إلى مرآتين صغيرتين تعكسان صورة الآنسة جميلة , التي يحدّق بها بشهوة واضحة , استطاع السيّد شريف التماسها فاعترته رعشة الغيظ و أراد أن يصرخ بوجه الآنسة جميلة : ( ليس هذا وقت ملائم لعرض مفاتنك ) , لكنه التزم الصّمت مرغماً , كاظماً غيظه , محاولاً إيجاد وسيلة للخلاص من ورطة ستوقعه فيها هذه الفاتنة الشمطاء.
ارتسمت ابتسامة الغبطة على وجه الآنسة جميلة عدّة مرّات , وهي تتأمل أصابعها الطويلة , ذات الأظافر المطليّة حديثاً بلون أحمر مثير , و بدأت تشعر بحرارة النظرات المنزلقة على جسدها , فرفعت رأسها بهدوء , و نظرت مباشرة إلى الأستاذ سمير , لتفاجأ بوجه أملس , صلب , رخاميّ , لا حياة فيه , و قد تحوّلت عيناه البنيّتان إلى قطعتين من الزجاج الكتيم , تدور فيها بنود المشاريع , و الاتفاقيات , و الصفقات , التي لم يستطع فهمها بعد .
تلاشت ابتسامة الآنسة جميلة , و خبت نظرتها دفعة واحدة , و انبعث من أعماقها صفير قديم طالما اعتادت سماعه , صفير يشبه صوت ريح تعصف في غابة من الأشجار العارية , أو صوت قاطرة بخارية تعبر أرضاً صحراويّة قاحلة , دون أمل بالوصول إلى أيّ مكان .
عادت الآنسة جميلة بكرسيها إلى الوراء , و هي تعضّ شفتيها المرتجفتين , مغمضة عينيها , لإخفاء خيبة لم يلحظها غير السيّد وجيه , الذي ارتسمت على وجهه ابتسامة الفوز , و سرت في جسده رعشة تشبه نشوة طارئة , فشمل الجميع بنظرة واحدة لتستوقفه عينا السيّد شريف القلقتين , ابتسم له بودّ , و غمز بعينيه مشيراً إلى الآنسة جميلة , ما أثار حنق السيّد شريف خشية تحالف جديد يكون هو الحلقة الأضعف فيه .
السيّد وجيه .
في منزله الذي يعيش فيه وحيداً منذ وفاة زوجته الثالثة قبل أربع سنوات , جلس السيّد وجيه يحتسي كأساً من النبيذ بجوار الموقد , شاعراً بالغبطة كلّما استعاد تفاصيل جسد الآنسة جميلة , و يعتريه شيء من الغبن , فلا يتوانى عن لطم كفّيه ببعضهما آسفاً :
- كيف لم أنتبه لها قبل اليوم ؟ هل يكون ذلك من علائم الشيخوخة ؟
ثم يستدرك مبتسماً :
- لا يهم , يكفي أنني رأيت ذلك قبل أن أفقدها , عندئذ كان الندم سيقتلني .
بدأ السيّد وجيه يشعر بالامتنان للأستاذ سمير , و صديقه اليهوديّ , و لكلّ النظريات الفلسفية , هو المعروف عنه خبرته الواسعة بالنساء , و علاقاته العاطفية المتشعبة , و التي لم تتوقف يوماً رغم تجاوزه الستين من العمر , لكنّه احتاج كلّ ذلك ليكتشف امرأة حقيقية تجاوره الكرسيّ منذ ستّ سنوات , فصار يتعجّل الوصول إلى جلسات الصّمت , و قد أدرك منذ اللحظة الأولى أنّ منافسه الوحيد – الأستاذ سمير – خارج اللعبة , فهو ما يزال شابّاً , قويّاً , عائداً مؤخّراً مع زوجة ألمانية شقراء , و لن يتاح له أن يلحظ مفاتن الآنسة جميلة الخاصّة جدّا , و التي لا يلحظها غير خبير بالنساء مثله , فراح يمضي جلسات الصّمت و هو يتأمّل كفّيها الساحرتين ذات الأصابع الدّقيقة , و عنقها الطّويل الممتلئ , الذي ينضح شهوة إذا ما أضاف إليه امتلاء جميل في الخدّين , و نعومة , و دقّة في شكل الأذنين , حتى قرّر أخيراً أنّ هذه المفاتن مجتمعة تكفي لتغطية عيوب الوجه , الذي لم يعد يراه قبيحاً .
الكف .
اعتاد الأستاذ سمير أن يبدأ جلسات النقاش بشرح مستفيض لفضائل الصّمت , متجاهلاً المتاهة التي أوقع نفسه فيها , حيث تحوّلت القضايا التي رآها شائكة في البداية , إلى قضايا معقّدة لا قدرة له على حلّ طلاسمها , و بدأت ملامح الانقسام الذي رآه واضحاً في السّابق تتموّه بشكل يثير الدّهشة , فالسيّد شريف يستهلك الجلسات بالصراخ , محاولاً فرض اقتراحات لم يعد السيّد وجيه يبذل أيّ جهد لتأييده فيها , بينما راح السيّد سميح , و السيّد ساهر يحصدان ثمرة ذلك بخبث طالما عرفا به , أمّا الآنسة جميلة فقد التزمت الصّمت في كلّ الجلسات , غير معنيّة بكلّ ما يدور حولها , مكتفية بمراقبة السّاعة , بانتظار حلول الخامسة مساءً , موعدها الذي أصبح يوميّاً مع السيّد وجيه في منزله الجميل .
لم يجد السيّد وجيه عناءً باستمالة الآنسة جميلة , بعد الخيبة التي ألحقها بها الأستاذ سمير , و تأكّد بعد ليلة الحبّ الأولى التي أمضياها معاً , أنّ غباء الجمال يحكم الرجال , فيحرمهم لذّات يتوقون دوماً لاستشعارها , فبات يشعر بالفخر لأنّ ذلك لم يفته , وراح يجاهر به لحليفه - السيّد شريف - , فيرفع كفّه مفرودة الأصابع أمامه , مرّة ليبلغه بموعده مع الآنسة جميلة , و مرّة ليخبره بعدد الأيام التي أمضياها معاً , و في المرّة الأخيرة , حين غمز بعينيه مشيراً إليها , أراد أن يبلغ حليفه أنّه تمكّن من مضاجعتها خمس مرّات في يوم واحد .
كان السيّد وجيه يشعر بالفخر كلّما رفع كفّه أمام حليفه , بينما تتورّد وجنتا الآنسة جميلة خجلاً و هي تلحظ ذلك خلسة , أمّا السيّد شريف فقد بات قلقاً , متوتّراً , خائفاً , يشعر بالاختناق كلّما رأى كفّ السيّد وجيه مرفوعة أمامه .
السيّد شريف .
لم يكن يخطر ببال السيّد شريف , الذي احتفل بعيده الثالث و الخمسين قبل شهر واحد , أنّه سيضطر بعد كلّ تلك السّنين إلى استخدام سلاح حربيّ , و بما أنّه لم يمتلك يوماً سلاحاً كهذا , فقد طلب مساعدة من قريب له في الجيش , يعمل أميناً لمستودع أسلحة , فاستجاب الأخير له بكلّ سرور , هو الذي كان ينتظر مناسبة كهذه يعبّر فيها عن امتنانه لما أغرقه به السيّد شريف من خدمات طيلة سنوات وظيفته , و في اليوم التالي أحضر له سلاحاً جديداً , قدّمه إليه بسعادة :
- سلاح حربيّ ممتاز , لم يستعمل مطلقاً , و لا تقلق لذلك , فأنا متأكّد أنّه لن يستعمل يوماً للغرض الذي جيء به من أجله , لقد نظّفته , و هيأته لك , أعلم أنّك جاهل بذلك .
شكر شريف قريبه , غير مستغرب سرعة تلبيته لطلبه , لمعرفته المسبقة بعدد الأسلحة التي كان قريبه يبيعها سرّاً خارج حدود عمله .
أخذ شريف المسدّس , مع عبوة صغيرة تحتوي خمسة و عشرين رصاصة , تخلّص منها حال عودته إلى البيت , محتفظاً برصاصة واحدة داخل المسدّس , إذ أدرك أنّ قتل السيّد وجيه يجب أن يتمّ بمحاولة واحدة ناجحة , و في حال الفشل بذلك فلن يترك لنفسه متّسعاً يقتل فيه شخصاً لا يرغب بقتله .
استلقى شريف على السّرير مغمضاً عينيه , و هو يداعب المسدّس بكفيه , و في مخيلته ترتسم كفّ السيّد وجيه الذي اعتاد مؤخّراً رفعها أمامه مفرودة الأصابع , مذكّراً إيّاه بالملايين الخمسة التي اتفقا على اختلاسها , و عاد إليه صوت السيّد وجيه حين دنا منه قبل يومين , مبتسماً , و همس في أذنه :
- غداً سأتحرّر من الرقم خمسة , لقد بات يحكم كلّ ما أقوم به يا رجل .
قال ذلك و هو يغمز بعينيه مشيراً إلى الآنسة جميلة , التي احمرّت وجنتاها مجدّداً , ليدرك السيّد شريف أنّها باتت حليفة السيّد وجيه , و شريكته في صفقة الملايين الخمسة , و أنّه خسر بذلك حليفه الوحيد الذي يعلم خفاياه , و يستطيع أن يفقده وظيفته , و ثروته التي جمعها على مدى سنوات من عملهما غير المشروع .
ارتجفت أصابع شريف حين استعاد كلّ ذلك , فضغط بكفّيه على المسدّس الرّاقد على صدره , و قد حسم أمره , و كادت ابتسامة الفوز ترتسم على شفتيه عدّة مرّات قبل أن يغفو .
08-أيار-2021
23-تموز-2016 | |
25-آب-2015 | |
25-كانون الثاني-2011 | |
01-نيسان-2007 | |
15-شباط-2007 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |