كان الأجدر به أن يعتني بقلبه؛ لأنه عزيزٌ على أحبَّته. كان عليه أن يهتمَّ بصحته؛ لأن فراقه سيوجعهم. وربما لأني من مدمني النصائح الطبية التي أقرأها هنا وهناك، فأذكر دراساتٍ كثيرة كشفت أن الرجال يموتون بقلوبهم أكثر من النساء، فعلى الرجال أن يسمعوا تلك النصيحة الخرقاء التي لن تمنع قدرًا، ولكنها تحمل حذرًا: اعتنِ بقلبك، ولو أن جدَّاتنا الحكيمات قلن قديمًا: الرجل يحمل ولا يلد .. وحين تلتفت، بكلِّ استغراب؛ لتسأل الجدَّة عن تفسير ذلك القول الغريب، تقول بحكمة: نحن النساء نبكي، ونشعر بالراحة بدموعنا، لكن الرجال يكتمون آلامهم وحزنهم في قلوبهم، ولذلك يموتون فجأة، والتفسير الطبِّي الجاهز لحادثة موت أحد الرجال المفاجئة أزمة قلبيَّة حادَّة.
مات في غرفة في فندق، في أثناء نومه. هذا هو ملخَّص خبر وفاة المخرج حاتم علي. وبذلك طوينا صفحة إخلاص ووفاء، أمام الخيانة والغدر، والتطبيع المهين المهدر لقضية العرب، وهي قضية فلسطين. وأكاد أجزم أن كثيرين مثلي قد سارعوا إلى مشاهدة التغريبة الفلسطينية، من جديد، وأنهم شعروا بأنهم يشاهدونها، كما لم يفعلوا ذلك، في المرَّة الأولى، ولسان حالهم يقول إن هذه التغريبة العربية، وليست الفلسطينية فقط، فكأنما كان المؤلف وليد سيف والمخرج حاتم علي يقرآن مستقبل الأمة العربية المهين، وحيث تحوَّلت الشعوب إلى قوارب لاجئين، ويوم أن هُجِّر الشعب الفلسطيني من أرضه، في عام 1948، كان يسطّر الحلقة الأولى لحلقاتٍ تاليةٍ من التهجير، وكلُّ واحدٍ ترك خلفه متاعًا، وحمل مفتاحًا، مثلما فعلت جدَّاتنا، وحيث أودعت أمُّ أحمد، في مسلسل التغريبة، مفتاح بيتها في صدرها، ودقَّت عليه بكفِّها؛ لتطمئن على وجوده، في أمان؛ أملًا بعودةٍ قريبة، وطال الأمل، ورحل الكبار، وتناقل الصِّغار مفتاح الدار.
ترك خبر وفاة المخرج حاتم علي سؤالين؛ أحدهما لا يحتمل عدة توقعات: كيف مات في غرفة في فندق، بعيدًا عن بلده، وقد تنقَّل بين منفى ومنفى، وعاش التغريبة مرَّتين؟ أما السؤال الأهم الذي يحتاج إجابة عملية: مَنْ يكمل بعده المشوار، بعد أن قدَّم "التغريبة الفلسطينية"، قبل ستَّةَ عشر عامًا؟ ففي أثناء تشييع جثمان الراحل، صاحت امرأة دمشقية، بأعلى صوتها: كثِّر خيرك يا حاتم. والحقيقة أننا يجب أن نشكره، كثيرًا وطويلًا؛ لأنه لو كان كلُّ رصيده الفنِّي مسلسل التغريبة الفلسطينية فهذا يكفي؛ لأنه أعاد صناعة الوعي الفلسطيني والعربي بالقضية الفلسطينية، وأمسك بتفاصيل حياة الفلسطيني، زمن النكبة، فكأنما يروي حكاية كلِّ لاجئ.
مات حاتم علي بقلبه، وغيره كثر من القادة والسياسيين والشعراء والكتَّاب الذين ماتوا في غرف فنادق غريبة، وظلَّ السؤال حائرًا: من قتل فلان؟ وربما قتله الخذلان، والخذلان أقوى مفعولًا من سُمٍّ مدسوس، أو عقارٍ مُذابٍ في شراب، وتبقى الحقيقة غائبة، ولكن حاتم علي مات بقلبه المثخن بحنين، وقلَّة حيلة على الفراق.
قلب حاتم علي خذله، كما قلوب كثيرين، أُثقِلوا بهموم أوطانهم، ولم يعتنوا بقلوبهم؛ فوقعوا ضحية موتٍ، بسكتةٍ قلبية، في الجزء الأخير من الليل، كما يفسِّر العلماء ذلك، وينامون مطمئنِّين لتفسيراتهم. وبالمناسبة، كلَّما مات رجلٌ بالغٌ أشدَّه بقلبه، أتذكَّر حادثةً مؤلمة، ففي صغري، تطيَّر الناس من حولي، من سيدة توفي زوجاها الاثنان، تباعًا، أمام التلفاز. وفي كلِّ مرِّة، تكون القصة المختصرة لحادثة الوفاة: أنَّ الزوج قرَّر أن يمضي سهرته، أمام التلفاز، مع زوجته، فغافله النوم، وظنَّت زوجته أنه نائم، وتابعت مشاهدة التلفاز، حتى إذا ما قرَّرت أن توقظه؛ ليخلدا إلى سريرهما، اكتشفت أنه قد مات، وقد تزوَّجت زوجها الثاني، وهو شقيق زوجها؛ لتتكرَّر معه القصة نفسها، وفي العمر نفسه تقريبًا، حتى كشفت دراسة أميركية أنَّ من أسباب الموت، في أثناء النوم، عواملَ وراثية مرتبطة بكهرباء القلب، ولكنك لا تستطيع أن تمسك بكلِّ شخص في الجوار، وتشرح له هذا التفسير العلمي، لتُبرِّئ الزوجة المتَّهَمة بأنها "وشّ نحس".
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...