الاحتمالات قائمة، متراوحة ما بين قليلة وكثيرة. لأجل ذلك، قرّرت أن أتعجَّل كتابة مقالي هذا، وإرساله إلى الصحيفة. لست أدري، عندما ينشر؛ هل سيكون القصف الإسرائيلي قد توقف، وتم الإعلان عن هدنة، أو تهدئة، أم أنه سيكون مستمرًّا، وأنا ما زلت على قيد الحياة ويعضُّني الندم؛ لأني تسرَّعت؛ فلم أكتب ما جرى بعد كتابة هذا المقال، وربما أكون قد متّ، فيصبح هذا المقال آخر ما أكتب. تقلّ الاحتمالات وتكثر، ولكن كل شيء أصبح محتملًا وجائًزا. وأنا كامرأة كبرت أَسرع ممَّا يجب، وصار عمرها أكبر ممَّا هو مسجَّل في أوراقها الرسمية. أقول كما كلَّ مرَّة: هذه المرَّة أصعب من كلِّ مرَّة، ولكن المشاعر نفسها تنتابني، والاحتياطات والاستعدادات نفسها، وكأن ما حدث في العدوان ما قبل الأخير لم يتوقف، وكان يوم أمس، وها هو يستمر اليوم وغدًا.
حَيْرةٌ ليس بعدها حيرةٌ تنتابني، البيت أم الروح، فإذا نجونا وانهار البيت، أين سنذهب؟ وإذا مُتنا فمن سيعيد رواية ما حدث لنا، مع أنفاسنا الأخيرة ولحظاتنا الأخيرة. أعتقد أن اللحظات الأخيرة الفاصلة، والتي تتكرَّر كلَّ ساعة تكون مهمة، وبمشاعر مختلطة، فهناك صوتٌ في داخلك، يقول لك: هذه المرَّة الأخيرة، وهناك صوتٌ يقول لك: مرحى لا تقلق؛ فسوف يمرُّ هذا الوقت، ويمضي مثلما مضت الأيام الأخرى، وكنتَ وقتها تعتقد أنها النهاية.
بطَّارية صغيرة تربطني بالعالم، بعد انقطاع الكهرباء. وفحصت خيط الماء في الصنبور فوجدته يتداعى، ولكني لم أفكر كثيرًا، إلا بعمر هذه البطارية التي تخبر العالم أنني لا أزال على قيد الحياة، وبأنني سوف أكتب، وأُخبرهم عمَّا يحدث حولي. وفجأة أقول لنفسي: سوف تنفد البطارية، وربما يعتقدون أنني قد متُّ تحت الأنقاض، لا أريدهم أن يحزنوا، ماذا أفعل؟
قرّرت أن أُواسي نفسي، فهاتفت صديقتي في مدينة غزة نفسها، وحيث أَقطن أنا في الجنوب. قلت سوف أواسيها؛ لأنها في وضع أصعب، وقد تحوَّل شمال غزة إلى محرقة حتى صباح السبت. لم أُخفِ مخاوفي من أن الدور سوف يصل إلى الجنوب، فهناك أصوات قصفٍ وانفجاراتٌ هنا؛ ما يعني أن الأمور قابلة للتصعيد، وربما تصبح هناك محرقة في الجنوب أيضًا، وغالبت هواجسي، وتحدّثت معها، وكان صوتها مشروخًا يشبه صوت عجوز سبعينيَّة، وقالت باقتضاب: الوضع سيئ، أسوأ من كلِّ مرَّة .. وسكتت، فاختصرت المكالمة بصوت مبحوح، وقلت لها: كوني بخير.
تعاود التفكير في شأنك الخاص، يلفُّك الفراغ والحيرة، وتستمر كما أنت، تأكل كيفما اتفق، وتنام كيفما اتفق، وتتذكّر أنماط نوم عجيبة وغريبة، ولكنك تكتشف أنك تمارسها. المهم تشعر أنك في حاجةٍ لنوم مسروق لكي تستمر، وتعرف أن قلَّة النوم سوف تؤثر على أعصابك وقواك العقلية، وأنت يجب أن تبدو متماسكًا أمام نفسك، والآخرين الذين يستمدُّون القوَّة منك.
وحيدة في فراغ البيت الصغير، أتجوَّل، ومع ساعات الصباح التي تولد بعد مخاض عسير، وأصوات بعيدة، تقول لي إن كلَّ الاحتمالات متوقَّعة، ولكني أُفرِغ شحنةً من بكاء سريعة، وأمسح وجهي بكفي، وأُبلِّله من الخيط الرفيع المنزلق من الصنبور، فهذه الدموع حُرَّة وحارَّة، استَرَقتُها قبل أن يستيقظ الباقون؛ فينهاروا، إذا لمحوها.
كيفما اتفق، تقرِّر أن تفعل كلَّ شيء، مرَّة تطالع الهاتف، وتقرأ الأخبار، وتلوم المراسلين الذين لم يكتبوا عن خيط الماء المتسلِّل من صنبور البيت، وكيف أنه قد غسل دموعك، وعجْزك؛ يجب أن يكتبوا، ويخبروا العالم بأنك ما زلتَ قادرًا، ويبدو أن هذا الخبر سوف يكون خبرًا عاجلًا، إذا كُتِبت لي الحياة، حتى موعد نشر هذا المقال.
لا تراهن على شيء، وأنت في قلب المعركة، ولا تنتظر أيَّ شيء، وعش لحظتك، بخوفك وضعفك وأملك ورجائك، كيفما اتفق. اصنع لك حلمًا، حديقة وبيتا على الشاطئ، وأولادا يلهون في أمان، أمان .. أربعة أحرفٍ أحتاجها أكثر من خيط الماء المحتضِر من صنبور المطبخ.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...