تسارعت إلى ذاكرتي، ومخيِّلتي، صورة السيِّد عبد الجواد، في "ثلاثية" نجيب محفوظ، عندما رأيت صورة الكعكة التي تعلوها رموزٌ، ومجسَّمات لأعضاء جنسية، فهذه الصورة تشبه تلك كثيرًا. كان السيِّد عبد الجواد في الثلاثيَّة شخصًا مزدوَج الوجه، يظهر أمام الناس، في تجارته وبيته، بشخصيةٍ حازمة صارمة، ويهابه كلُّ مَن حوله. أما عندما يجنُّ الليل فهو شخص ماجن، يتنقَّل بين أحضان الغواني، ولذلك تداعت صورته كأقرب مثال، للمقارنة مع سيِّدات مجتمع راقيات، وقد بلغن من العمر مبلغه، وهن ينتمين لعائلاتٍ ذات اسم، ويشغلن مناصب مرموقة، ويقرّرن الاحتفال بعيد ميلاد إحداهن، فيطلبن كعكة عيد ميلاد مزيَّنة بمجسَّماتٍ صغيرةٍ لأعضاء جنسية، فكانت الفضيحة، وكُشف المستور. الإيحاءات الجنسية ظلَّت، على مرِّ التاريخ، في شعر العرب وطرائفهم ومجالسهم ونوادرهم، كما ظهرت في رسومات الفراعنة، على جدران المعابد. ولكنها ربما صارت تصل إلى أطفالنا في أسرَّتهم؛ بسبب ثورة التكنولوجيا وغزو مواقع التواصل الاجتماعي، وربما هناك من يرى أن أطفالنا يشاهدون ما أهو أشدُّ قذارة من صور هذه الكعكة اليوم، وإذا كان الأمر كذلك، علينا ألا نزيد الطين بِلَّة. وربَّ قائلٍ، أو مُدافعٍ يرى مثل هذه الأمور محض حرية شخصية، وأن المخطئ هو الشخص الذي استباح خصوصية نساء، في خريف العمر، قرّرن الاحتفال، وتزجية الوقت، والمرح بطريقتهن الخاصة. والمتلصِّص على خصوصية الناس هو الذي يستحقُّ العقاب؛ لأنه التقط صورًا لهذا الاحتفال، وانتشرت الصور سريعًا، على مواقع التواصل الاجتماعي، وتناقلها الناس؛ ما بين مؤيِّد ومعارض، فهناك من رآها شائنة وخادشة، وهناك من رآها حريةً شخصية، وطريقة طريفة للمزاح، ومفاجأة الأصدقاء. المدافعون عن الحرية الشخصية لهؤلاء النسوة المنحدرات من الطبقة المخملية للمجتمع، ربما لا يُعيرون التداعيات الاجتماعية كبيرَ اهتمام. وبالمناسبة، حتى وقت قريب، كنت أتخيَّل دائمًا أن واحدةً من علامات الثراء في مصر أن تكون عضوًا في النادي، فعبارة "أنا رايحة النادي" تتردَّد كثيرًا في المسلسلات والأفلام، علاوة على الأحداث التي تقع في ذاك النادي، وتصوير بعض المشاهد التي توحي أن هناك نساءً ثريَّات لا يفعلن شيئًا سوى اللقاء بصديقاتهن في النادي والثرثرة، وتصيُّد الأزواج، والخوض في أخبار البيوت ومغامرات أصحابها، وكشف المستور منها. ولأن هذه الأفعال تحدث في كلِّ مجتمع، بحسب طبيعته وتكوينه، مثل أن تعقد جلسة في حارة، بين نساء الحيِّ، في يوم من الأسبوع، فيما كان يُدعى قديمًا بيوم الاستقبال، فلا يمكن الجزم أن هذه الاجتماعات كانت ثرثرة خالية من الإيحاءات الجنسية، وعمَّا يدور في غرف النوم المغلقة، على سبيل المباهاة، أو تزجية الوقت، أو السخرية من زوجةٍ قد تقدَّم العمر بزوجها، ولم تعد تسمع في الغرفة سوى صوته شخيره. ولأن الحرية الشخصية التي يتحدَّثون عنها كان يمكن أن تبقى كذلك، ما لم يتوقَّع المنادون بها أن هناك من يتلصَّص، وسوف يلتقط صُوَرًا لمثل هذه الأفعال التي بسببها لن يستطعن أن يرفعن رؤوسهن، أمام أولادهن وأحفادهن، ما لم تكن شيمة أهل البيت الرقص؛ لأن ربَّ البيت بالدُّفِّ ضارب، وحتى لو كان الأمر كذلك، فالغالب على مثل هذه المجتمعات أنها تعشق مظهرها الخارجي، وصورتها، وتحرص عليها. ونشر مثل هذه الصور المخزية سوف يترك أثره فيها، مهما ادَّعت، وتبجَّحت، وتعلَّلت بأنها حرَّة، وإنّما العتب على من اقتحم خصوصيتها. ليست تلك الكعكة إلا دليلًا على أن سكوتنا على الباطل قد أوصلنا إلى هنا، وأن المجتمع ينحدر، بكلِّ طبقاته، وبأن عفَّة الأسرة العربية قد نال منها الزمن، وقوَّض أركانها. كما أن هذا السلوك ما هو إلا علامة على نضج ثمار مسمومة، بدأت من أعلى الهرم في المجتمع، وعلى من يدَّعُون أن هذه الحادثة هي وسيلة لإشغال الرأي العام عن قضايا الفساد، فمِن باب أوْلى سدُّ منافذ جديدة مستحدثة على مجتمع يتداعى، بسرعةٍ رهيبة.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...