أنتيغون، أمثولة المواجهة والتمرّد
نجوى بركات
خاص ألف
2021-02-13
(إلى رشا الأمير)
قد تكون "أنتيغون" من أشهر المسرحيات التراجيدية القديمة التي ألّفها سوفوكليس (496 – 406 ق. م) وتمّ اقتباسها وإعادة كتابتها في أكثر من حقبة، على يد كتّاب كبار، من بينهم جان راسين، وهولدرلين، وجان أَنُويْ الذي اعتبرها تراجيديا المواجهة بامتياز، إذ ترفض البطلة أن ترضخ لقوانين السلطة الحاكمة، وهي بذلك تمثّل بروز الفرد المتمرّد حين تواجَه إرادتُه بقوانين السلطة الجائرة.
"لم يعد العالمُ يُحصي روائعه، إلا أن الإنسان هو رائعة الروائع"، يقول الكورس، في حين تبدأ المسرحية بحوارٍ بين أنتيغون وأختها إيسمين، حيث تطلب الأولى من الثانية مساعدتها على دفن أخيهما بولينيس، على الرغم من أوامر ملك طيبة، كريون: "أريده أن يُترك هنا، جثّة من دون كفن، قوتا ولعبة للطيور أو الكلاب". يُبلغ أحدُ الحرّاس كريون أن الجثة قد دُفنت، فتقع مواجهةٌ عنيفةٌ مع أنتيغون التي تصرخ في وجهه: "ليس الموت هو ما لا يُحتمل بنظري، بل أن أدع جسدَ شقيقي يهترئ من دون قبر، أجل، هذا هو ما لا يُحتمل بالنسبة لي. إنما الآن، فضميري مرتاح. أنت تحسب أني مجنونة، إنما المجنون الحقيقي هو ذاك الذي ينعتني بالجنون". هكذا يُرسل دفنُها أخاها بأنتيغون إلى ملاقاة حتفها ("الأخ غير قابل للاستبدال، على عكس الزوج أو الابن")، وبكريون إلى حضن الكراهية والانتقام...
ما إن وردني خبرُ مقتل لُقمان سليم صباح 4 فبراير، وهو الخبر الذي أشعرنا، نحن اللبنانيين، بأننا ضُربنا على قوائمنا من الخلف لتنكسر فنقع، كما تُضرب الدَّواب لكي تُركّع، لأن ثمّة من أراد أن يُعلِمَنا عبر قتل الرجل الجميل، الألمعيّ، المثقّف الحرّ والناشط السياسي، الذي حمل بين يديه من المشاريع ما لا تستطيع دولٌ ومؤسساتٌ كبرى إنجازه، أننا لسنا أحرارا، بل عبيد لقراراته وسياساته التي، على الرغم من وضوحها وسلاحها وترهيبها، ما زالت لا تُخيف البعض أو تسكته. وهؤلاء "البعض" حين يكونون من البيئة الحاضنة، ولا يرضخون للتهديد بكاتم الصوت، ولا يخافون المضيّ في قول الحقيقة، ويستمرّون يضربون بأجنحتهم ليرتقوا ويسموا، ويتمرّدون على سلطةٍ غاشمة، فاسدةٍ، قاتلة، دفاعا عن العدالة وعن لبنان نحبّه ونسعى إليه، هؤلاء لا بدّ من سفك دمهم، وجعلهم أمثولةً لمن لم يعتبر بعد.
خمسُ رصاصاتٍ في الرأس المشعّ بذكائه الجميل بأفكاره، وواحدةٌ في الظهر الذي لم ينحن ولم يطأطئ. خمسُ رصاصاتٍ في الرأس المعاند الشجاع المواجه متحدّي الخوف والترهيب، قائل الحقّ والمدافع عنه، ورصاصة غادرة في الظهر المنتصب، الصامد، المستقيم، المتقدّم دوما إلى الأمام. لقد عمل لقمان سليم طويلا على ذاكرة الحرب، وعلى ملفّ المفقودين، وملف المساجين اللبنانيين في سورية. عبر جمعية "أمم" ودار نشر "الجديد"، أراد أن يوثّق ويجمع ويؤرشف لكي لا ننسى. لكي تجد الأجيالُ القادمة من بعدنا مَن يقول لها الحقيقة بعد أن يتمّ تزوير التاريخ كما يجري دائما، وتناسي الضحايا والمقهورين لصالح من يقتل ويربح. ما أنجزه (وشقيقته وزوجته) في هذا غيرُ قابلٍ للتقييم، لأنه يعدو كل التوقّعات، كل الطموحات، كلّ الآمال، ولا ريب في أن مشروعه سيبقى يشغله حتى من بعد مماته.
كُتب الكثير عن لقمان سليم وقيل عنه الكثير. لكنّ الكلامَ لا يَشْبَعُ منه. الكلام كلّه لا يُجزيه حقّه، ولا يكفي لرثائه. ثمّة من شمتوا وتشفّوا بالطبع، لكنّ الأكثرية بَكَتْه. كنا نتهاتف ونسرّ لبعضنا بعضا كم نحن حزانى ومصدومون ومتألّمون. نقول مدى خسارتنا، فجيعتنا، خوفنا على القلّة ممّن ما زالوا يرفعون الصوت، وذعرنا على ما بقي من وطننا. ثم نسمّي قاتلَه بالاسم، وقد سمّى نفسَه بنفسه، نسلسلُ إجرامه، تحريضاته، تهديداته، استباحته الدماء، غياب الضمائر، سفاهة السفهاء ممن لا يفتحون أفواههم/ الأبواق إلا لكي يسمّوا قتلاهم المقبلين.
بعد غد الخميس، سنأتي لنشارك "أنتيغون" مراسم دفن شقيقها في دارتهم في الضاحية. سنكون كثرا ولن نخاف، إذ سنستمدّ شجاعتنا من لقمان، وممّن سبقوه على درب الحرية الطويل. وسوف نشهدُ جميعا أننا رأيناه وقد نبتت له أجنحةٌ عملاقة رفعتْه عاليًا ليصيرَ نجمًا في السماء.