قصة ـ رحلــة ذكــــــور النمــــل /
2008-06-23
ضرب على غير هدى، وترك قدميه تقودانه حيثما تعرجت الطرقات والسبل، لم تكن مسالكه معتدلة ولا ميادينه فسيحة،لم يلتفت لشتائم سائقي السيارات أو سائقي عربات الكارو والحناطير ، يشاغله دبيب النمل ينغل في رأسه يلاحق فريسته، ويتشبث بحشوة الجمجمة، يطارد كريات الدم الحمراء، ويقاتل الكريات البيضاء, وينتظر عند بوابات الصمامات في الأوعية الدموية يحتال على إرادة ضربات القلب المجهد مع تعاقب الشهيق والزفير، تطرق جيوش النمل شرفات الصمامات عند انقباض عضلة القلب, وتندفع عند انبساطها مع ذبول سريان الدم وهزيمة تدفقه.. أبلغه الطبيب يوماً، أن صداع الرأس ناتج عن ارتفاع الضغط الناجم عن قوة الدم, وكثافة الهيموجلوبين، وعندما ذهب اليوم يتخلص من وحده الدم, التي تسحب معها صداع الرأس كما تعود أن يفعل.. حذره الطبيب بعد إجراء الفحص اللازم:
- الضغط هابط والدم ضعيف والتبرع بوحدة يؤدي إلى الأنيميا الحادة ...
وصرف له مسكنات الصداع, ومنظمات الضغط، وحذره من كثرة المقبلات والمخللات, وفي إشارة خفية صريحة أرعبه من غوايات زجاجاته في الليل, فانتصبت أمامه تلك المكورة البطينة ذات العنق النحيل، الرابضة في سلة القنب، تسيل بعض دمعاتها تتسرب في خيوط الشبكة, تلونها بحواف صفراء تجف كطمى الفيض.. وود لو يرشق بعضاً من دمه على رداء الطبيب، وقد تيقن أنه يتآمر عليه.. يقهره ويحقنه بجيوش النمل التي تغزوه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه.. كور ورقة الطبيب, وطرحها بعيداً بكل وصفاته ووصاياه.. واستسلم للشوارع .. لم يلتفت إلى وجوه الناس كعادته, ولم ينسق إلى عيونهم، ينـتزع حكاياتهم، ويردها إلى تجعدات الوجوه ،لم يتتبع الصبية والفتيات أو حتى العجائز اللواتي ينتظرن من يعبر بهن طرق الحياة ، من رصيف إلى رصيف.. وأطاع قدميه إلى حيث لا يدري.. ومضى يتجاهل ضغط الدم المرتفع أو المنخفض, ولم يأبه بالصداع, ودبيب النمل الذي وزع طوابيره ، ونظم سيره مع دورة الدم المؤكسج الفاتح, ودورة الدم غير المؤكسج الكابي والمحمل بنفايات الزفير المتجه إلى كيس الرئة, حيث يطرد قطعان النمل المتوثبة ذكورها لقضم ذؤابات الشعيرات الدموية.. يرعبها الخروج مع هواء الزفير فترتد ثانية إلى حويصلات الرئة، لا يهمها أن تضل الطريق طالما بقيت في قنوات الأوعيّة..
قهقة ماجنة، وصوت حديث عهد بالبلوغ، وورقة كلنكس ناعمة طرية تلتصق بصفحة خده وسيارة سبور صيفية، تقشر جلد الإسفلت تمرق عنه.. تطير، بالفتية الصغار يحتضنون صبيتهم التي تطير ضفيرتها خلفها ريش حمام عشق الطيران مبكراً.
ورقة ندية ناعمة طرية, يرطبها دم أحمر الشفاه يطفو على لزوجة بقايا مخاط أو لعاب.. كورها وداسها ومضى لم يمسح بقاياها عن صفحة خده, عسى أن تستدرج ذكور النمل الشبقة ويخف عبئها على عضلة القلب.. لم يتخلص من اللزوجة التي التصقت بكفه.. وانحدر مع الطريق.. قادته المسارب إلى قاع المدينة حيث الميدان الذي تصب فيه الشرايين والطرقات والأزقة, وقف وسط الميدان مسمراً، وتوقف رجل المرور عن تنظيم العبور في الميدان, وراح يدور حول نفسه يغطي وجهه بيديه يتقي ضربات وعصى تنهال عليه من كل صوب, ويتأوه تحت لسعات كرباج يفسخ جلده بينما الميدان خال إلا منهما.. صرخ رجل المرور :
- هيّا اعبر الميدان إلى الرصيف .
- ......
-أنا لست المذنب..
- هيا اعبر الميدان وكفّ عني .
صاحت زاعقات السيارات، وانتشرت قهقهات الناس في المركبات, ومن على ظهور العربات وداخل مظلات الحناطير.. اقترب رجل المرور نهره بتـقزز :
- ما بك.. وكيف تتألم في ساعات العمل .؟
- كف عني بجاه النبي الحبيب .
- انتبه إلى عملك .. نظم المرور حتى يصل الناس قبل هبوط الظلام .
- اذهب لأي رصيف تريد.. حتى انظم المرور .
-كيف ؟
- حتى لا يسحقونك, ويصهروا لحمك صمغاً يسدون به مسامات الحفر.. وتضيع أسفل البنية التحتية التي يسعون إليها.. ألا تسمع عنها.
- كيف أسمع عنها ؟ وأين يتحدثون بها؟ .
- أعطني الأمان !
فاعت جيوش النمل، وعلا صوت طقطقات شعيراته الدموية, واشتاق لبطن ذات العنق النحيل الرابض في كيس القنب, وشتم الطبيب.. فتكومت في جوفه سعلة قوية وقفت ما بين الحلق وتفاحة آدم، ولعن اليوم الذي هبط فيه آدم متأبطاً حواء مطروداً بعد فعلته الشنعاء مع الشجرة .. حواء التي خرجت من الضلع الأعوج, ولم تقف عند حدودها قذفت في طريقه قابيل وهابيل لعن السائقين وسائسي العربات والحناطير في كل المسارب, ومضى يلقن الشرطي درساً في آداب المرور, وتوزيع الطرقات.. جحظت عيناه ودارت الدنيا به تأرجح.. فاسترجل الشرطي وامتطى جهامته ونفخ في صفارته .
- هيا غادر المكان فوراً وإلاّ..
وعالج جهاز اللاسلكي المثبت على إليته ، ..
بصق سعلته الواقفة بين الحلق وتفاحة آدم ، فانطلقت كرة البلغم محملة بذكور النمل الضالة.. شهق قدراً كبيراً من الهواء, فاسترد طوله من السقوط وقرر مغادرة الميدان قبل أن يحقق رجل المرور انتصاره، وإمعاناً في إغاظته جدل من خيوط الهواء سوطاً وراح عن بعد يسوط الشرطي, فأخذ الأخير يدور حول نفسه ويلوح بذراعيه في جميع الاتجاهات، يتقي ضربات الكرباج ...
اندفعت المركبات من كل الجهات إلى مركز الميدان في ذات اللحظة وحدث الدوي الهائل الذي هزّ المدينة, وقذف الكائنات من مطارحها تتساءل وما زالت حتى اليوم ، تتساءل :
استقبل جهاز اللاسلكي المركزي إشارة
"رجل يعطل المرور في الميدان "
وفي إشارة تالية .
" رجل المرور في الميدان يدور حول نفسه، مما أدى إلى الاختناق في شبكات الطرق صعوداً وهبوطاً ".
أمّا الإشارة التي وصلت إلى المستـشفيات, فقد أكدت وقوع حادث في الميدان أدى إلى مصرع ما لا يزيد ولا يقل عن شخص واحد .
سألوه:
- كيف حدث هذا وما الذي حدث ؟
- لا شيء حدث .وبحياد تام راح يبكي فأخلوا سبيله، ولكنه لم يمض إلى حال سبيله وأخذ يطالبهم بالقط الذي سحقته السيارات .
- وتقول أن قطاً سحقته السيارات وفي الميدان ؟.
- نعم سحقته السيارات وفي الميدان .
-قلت أن لا شئ حدث مع أن الإشارات تؤكد اختفاء رجل المرور تحت إطارات السيارات .
- لم أكن أتوقع أن تهتموا بالقطط .
- وما شأنك أنت بالقطط ؟
- القط الذي أبحث عنه، هرب من إحدى المركبات، وتعرف على النمل الذي يحتلني، يطقطق ذؤابات الشعيرات الدموية في كيسي الرئتين.. كان من المفروض أن أضخ دمي على الأرض حتى يلتقط ذكور النمل قبل أن تختفي في مسامات التربة .
وجاء من يخبر الضابط عن المصابين الذين رفضوا الحديث, وكيف عجز الأطباء عن استنطاقهم لتسجيل أسمائهم, لا سيما وأنّ أحـداً من الناس لم يتعرف عليهم, وفي تقرير المرور, ومندوب شركة التأمين تبين أن السيارات بدون لوحات أو أوراق تثبت تسجيلها في دائرة المرور, وفي تقرير لمراسلة صحفية وزعت على محطات الأقمار الصناعية, أن المستشفيات خالية من المصابين ولكن الناس الذين قذفتهم الأمكنة، يواصلون البحث عن صانع التوابيت الذي يعتصم في مكان ما، وتخلى عن مهنته بعد أن سرت الإشاعة بأن الموت خطف الأرواح والأجساد معاً، ويقال إنه سرّب خبراً مفاده أنه سيظهر بعد اكتشاف المادة التي يصنع منها توابيت لذاكرة الموتى، فهي الشيء الذي يمكن حفظه قبل الموت وبعده, ويقال أن الناس يسألون عن وسائل حفظ الذاكرة وتسجيلها عند الحانوتي الذي لا شك سيظهر بعد أيام .
في طريق العودة سلك المسارب صعداً، وتحاشى الطرق المرصوفة، كما تحاشى عيون النساء اللواتي اعترضن سبيله, يعرضنّ عليه لحم البطون، يساومنه على قضاء الليل في فراش وثيـر، وتنحي عن صبايا ينزفن شبقاً فاقعاً خلف غلالات رقيقة, ويعرضن أردافاً في بياض حليب أول أيام الرضاعة، يرشقنه برذاذ شهواتهن.. يتشبث بنفسه فيهبط الرذاذ حتى يهمد في رمل الطريق.. إلا أن امرأة تدلق ثدييها, وتسد عليه السبل تضخ عليه رشيشاً دبقاً يغمر جسده ووجهه ويستدعي ذباباً أزرق يحوم فوق رأس، يعود صداع الرأس.. فقرر أن يعدو بعيداً عن جوْر الحلمتين المدلوقتين من فيض ينبع من شهوات أمنا حواء الأولى، والتي اغترفت من صبوات الضلع الأعوج .
وصل التلة، يتشبث بخيوط هاربة لشمس النهار تبث بقايا دفء.. وتتهيأ للوداع.. قرفص.. ووجدها فرصة للعب, وتشاور مع نفسه فاتفقا أن يلعبا الاستغماية فأمره أن يغمض عينيه ويدس رأسه بين ساقيه ، حتى يختفي عنه وينادي عليه من خلف حجاب أو ستار سأله:
- هل تخفيت جيداً ؟
- أغمض عينيك .. لا ترفع رأسك حتى أنادي .
ثم سمعه يقهقه، يدور حوله ويختفي، حتى لطشه على ساحله لطشة خفيفة, باردة لزجة شدت جلد الساحل, وسرت حتى جذور شعيرات الدم.. نبهت ذكور النمل الهاجعة
نزع عن ساحله دبق اللزوجة، فوقع على ورقة كلنكس وردية عليها آثار أحمر شفاه، وبقايا لعاب خفيف، خرج من لعبة الاستغماية ومسح المكان..
رأى الصبية تتعلق في عنق الصبي وتطير ضفائرها مع خصلات الشمس الهاربة., ورأى الصبي كيف يحملها يدور بها، تلقمه شفتيها فيمتصان بعضهما، يضعان شيئاً لا يكترثان بزحف العتمة التي أخذت تستعد للهبوط إلى قاع الوادي ..
كانت العتمة قد سبقته وطردت بقايا النهار عن الموجودات .
يتحدث سكان سفح التلة عن اللصوص الذين يمتطون صهوات العتمة إلى منبسط الوادي، يعيثون فساداً، ثم يتصارعون على ما سلبوا حتى طلوع الفجر, حيث يموتون مع موت العتمة ولا يتركون أثراً.
ويتحدث أهل الوادي هذه الأيام, عن رجل وُجد ميتاً أو مقتولاً يسيل الدم من زاوية فمه الذي تنعف منه طوابير النمل الأسود، ذكورها تتقدم إناثها.. لكنها سرعان ما تموت على مقربة من الرجل ..
ويؤكد شرطي لبس عدته حديثاً وعاين الجثة، أن ورقة كلنكس وجدت في كف الرجل وكانت طرية عليها آثار أحمر شفاة مراهق.. وأن الناس انفضوا عن الجثة عندما اقتربت سيارة إسعاف, واختفوا في الزوايا المؤدية إلى مسارب الميدان, يتضرعون إلى العلي القدير، أن يلهم الأطباء الشجاعة وسداد الرأي, فلا يعملون على تـشريح الجثة، لخبرة الناس بـما يعنيه ظهور جيوش النمل الأسود في هذا الزمان..
توكأت الصبية، على كتف الصبي الذي لم يعبر عقده الثاني ,ووقفا أمام الجثة طويلا.. همست:
- الذي كان يلعب الاستغماية ؟.
- الذي جعلناه يخفي رأسه طويلا .
- وثـبتــنا على ساحله الورقة المبللة برحيق القبلة.
سأل الشرطي:
- من الذي كان يلعب الاستغماية؟
قالا وبصوت واحد :
- هو الذي كان يصارع شخصاً ، من المفروض أن يختفي حسب أصول اللعبة .
- متى حدث ذلك ؟
قال الصبي بكامل المسئولية ورجولة من خطا نحو عقده الثالث:
- عندما كنت وإياها نبدأ مشروع الغد .
وأشار إلى بطن الصبية الآخذ بالتبرعم
وعندما مضت السيارة بالجثة.. ألقمت الصبية شفتيها لفم الصبي.. لم يحملها ولم يدرِ بها, كانا يستدرجان معاً الوليد القادم .
08-أيار-2021
14-نيسان-2018 | |
30-تموز-2015 | |
13-تشرين الأول-2012 | |
16-أيلول-2012 | |
18-نيسان-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |