انفــــجـــار مثــــانـــة
2008-06-21
وجد نفسه داخل المصيدة ... انقضت مخالب الجرافة على الجدار وبدأت تنهش بشراسة ووحشية خلايا الاسمنت والحديد والدهان الذي كان قبل لحظات يتألق مرحباً بضوء القمر ...
منتصف الليل ، الهدوء يختلط برنين جرس الباب ، يحتاج المرء لزمن حتى يعانق اليقظة ويستعد للركض نحو الباب ...
مزق الجندي غشاوة عينيه حين فتح وابرز امر الهدم ، الليلة .. لا احد عنده سوى اطفاله ، حتى زوجته ذهبت للنوم عند امها المريضة .. وحده سيقف امام العشرات الذين طوقوا المنزل وبدؤا يرقصون رقصة الهدم ، يشيرون من هنا ومن هنا ...
ارتبط لسانه .. لقد كان يعلم ان مركب بيته ستغرق ... ولكن كان يشرع اجنحة عدم التصديق .. والورقة الاخيرة التي وصلت من وزارة الداخلية اكدت ان هدم البيت سيكون قريباً ... لم يحدد التاريخ والموعد واليوم تركوا القرار في جعبتهم ، فهم احرار يختارون لحظة المباغته حتى لا يعرقل عملهم احد ، لم يملك الا الانتظار و صبغ مشاعره باللون الاخضر .. وردد المثل الذي كان والده يردده ( من خازق لخازوق بيفرجها الرب المعبود ) ...
سقطت المفأجاة ، ها هو الآن يقف امام حقيقة الجرافة ... حقيقة القرار الصعب ، طوال الوقت اتسع قلبه الابيض لمحاولات التردد وقاوم فكرة هدم بيته الجميل ، الآن ضبطُ البيت وهو يتسكع في الممنوع وعليهم ان يعدموه رمياً بأسنان الجرافة ...
رحلته مع الانذارات بدأت حين اقام البيت على ارض ابيه ، هكذا كانت قسمته من ميراث والده .. دخل في متاهات التنظيم والخرائط الهيكليه ..ووجد ان الانفاق تتقن فن الخداع وايضاً فن اليأس .. وبنى بيته الذي اصبح بعد السكن فيه ارضاً خصبة لبلاغات الهدم ،
اصبح التهديد يختلس فرحه وادخله في تابوت من القلق اليومي بدلاً من الراحة التي كان ينشدها ...
انياب الجرافة تقضم الآن غرفة اطفاله .. هرع الى اطفاله الذين اخرجهم بسرعة ، احتضنهم لايملك الآن الا رعشة اب ينجز ابوته في عتمه الليل والخوف ..
صدى الرعب يختلط بالتثاؤب والبكاء ... لا احد معه ... اكوام لحم تستيقظ على هدم يقهقه بسخرية على احلامهم .. بيته بعيد ، اشتاق الى اخوته واقربائه واصدقائه ....
- ابعد اولادك من هون ... حرام يشوفوا هالمنظر
لم يجبه !! أين يبعدهم و الليل لم يعد يحمي احد فالليل اصبح عصابة تسرق الهدوء ....
- يلا ابعدهـــن
اللهجه العربية المكسرة تشق تردده وخوفه ... لسعة سوط تنتهي الى صمت مشلول يثرثر بمهمة محددة ..
- يلا ... صرخ الجندي بصوت يكشف عن ضيق يريد التخلص من عبء عمل عاجل ...
لم يجد امامه الا السيارة .. هي وحدها الآن المكان الآمن .... وضع اطفاله داخل السيارة واغلقها جيداً ...
لجأ الى حجر وجلس فوقه .. ما زالت اسنان الجرافة تنزلق بنهم .. تهشم كل شيء ... لقد استطاع اخراج بعض الملابس والاغراض الضرورية بسرعة لأن الفترة التي منحوها له لم تكن كافية لاخراج كل شيء .. يكفي انه انقذ اطفاله .
انياب الجرافة حادة .. لامعه .. كأن السائق الذي جاء لكي يقوم بعمله اصر على تلميع الاسنان لكي يغرسها بحدة وقسوة حتى ينتهي من عمله بسرعة لعله يتفرغ لبيت اخر ...
تمنى ان تتعطل الجرافة ... تمنى ان يصاب السائق بنوبة قلبية ، او نوبة ضميرية .. تمنى ان تسقط معجزة من السماء ... هل تخلى الله عنه ؟
لا معجزة .. نظر الى السيارة ، قليل من البخار على نوافذ السيارة ... ووجوه اطفاله تطل من بين ذرات بخار انفاسهم .. لم يستطع المشي والوصول الى السيارة كي يفتح احد الشبابيك حتى يتنفسوا ... لكنهم سيستنشقوا الغبار ..
شعر برغبة في التبول ... كيس مثانته مليء .. الآن تذكر ان في نصفه الاسفل بحيرة تريد التسرب .... وقف .. الجندي الواقف الى جانبه يصوب فوهه البندقية اتجاهه .. كيس مثانه ينز .. شعر ان حزنه ينز مع بوله ، العجيب انه لم يشعر بحاجه الى البكاء رغم الحزن الطافح الذي توسد صور التلاشي ، بيته يتلاشى والغبار يحلق بضبابيه والخواء يتكوم برفقة بقايا الحجارة والباطون والاثاث ...
اراد المشي .. صرخ الجندي الواقف الى جانبه ... امره بالبقاء مكانه .. نظر الى بقايا المنزل .. المطبخ اخر الجدران الواقفة .. المطبخ يحاول الصمود .. يحاول .. انهار السقف .. شعر انه لم يعد يتحمل مثانته ، امسك نفسه .. ماذا سيقولون عنه .. رجل بول على حاله .. لم يستطع .. كيس المثانة لم يعد ينز .. هناك تدفق .. تدفق .. اغمض عينيه .. شعر ان التدفق يخرج بلا حدود وبلا سدود .. يخرج ، يملأ الارض وبقايا البيت ، يغمر الجنود .. انهم في حالة ذعر .. يشتمون و يسبون .. وهو يستمتع ، شعر ان بوله ينتقم له .. العجيب ان الارض امتلئت وقد تبلل الجنود واخذوا يهربون .. حتى خيل اليه ان بوله وصل الى سائق الجرافه الذي ولى هارباً .. جميعهم هربوا الا هو .. واخيراً سيبقى لوحده .. سيبكي لوحده .. لا احد يستطيع محاربة مثانته التي انتقمت لهدم البيت ؟؟؟
دفشه الجندي الواقف الى جانبه ......
ولك يا حمار ... يا مقرف .... شو بتعمل ؟؟!!
نظر الى حيث يشير الجندي بفوهة بندقيته ، واذ بنطلونه مبلل وحفرة صغيرة تحت أقدامه مليئة ببوله .. نظر الى اطفاله الذين ينظرون اليه وقد غابت ملامحهم خلف بخار انفاسهم .. ركض نحو السيارة .. واخرجهم لكي يتنفسوا هواءاً نقياً .. لكنه تذكر ان الهواء ملــيء بالغبــار .......
* كاتبه فلسطينيه
08-أيار-2021
21-حزيران-2008 | |
21-نيسان-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |