قصه / سرير يوسف هيكل
2008-04-21
بقايا حديد صدىء .. القشره الذهبيه التي كانت تكلل اطراف السرير تحولت الى قشره مغموسه بسواد الهروب نحو البدايات .
هناك بصمات غير مرئيه ، مساحات من الصدى تغسل الذاكره ، تمر عبر خنادق محفوره تحت ظهر الخروج من الحياه ...
العجوز الجالس امام الشاب الذي يكسر الحديد الى قطع صغيره كي يستطيع نقلها بسيارته يحاول ثنيه وابعاده ، لكن الشاب لا يسمع ، ويستمر في التكسير .. صوت المطرقه يفتح نوافذ .. الشقوق تتسع .. تتورم .. ذاكرته ترتبك ..
" شبيك لبيك " شعر انها تنحني وتقدم له خدماتها الخياليه ... تتناثر الصور المتعبه من الرحيل الزمني .. دكاكين مفتوحه .. مشرعه بطريقه فوضويه .. قدم مع صديقه الى يافا لكي يشتري سريراً .. " سوق الأثاث " مزروع بالدكاكين التي تعرض الأثاث بطريقة الخبث التجاري ، الجديد ، اللامع
، المزخرف في الواجهه .. مرايا الخزائن التي تحتضن الوجوه والقامات تحاول جر الزبائن ، هناك من ينهي نشيد الاعجاب بالابتعاد وهناك من يدخل ويبدأ المساومه ... خطواته تتمهل ، بعينين من زجاج مملوء بالانبهار ، يدخل مع صديقه الى الدكان .. يهمس .. ( احنا مش عايشين ) ...
رد عليه صديقه ...
( بكره بتعيش لما بتشتري السرير ) ..
غمزه صديقه غمزه ، فهم منها ان الانبهار هو خيط
الاستغلال للتاجر ... حيث يبدأ بشده حتى يدفع الزبون الى الشراء ...
يده تلمس الخشب المدهون باتقان وحرص ، اكثر شيء يعجبه ذلك اللمعان المدلل ، تشعر ان الذي قام بتلميع القطع انسان استسلم لموجة عشق حتى توحد مع القطعه وعزف مقطوعة البريق العذري ...
مدينة يافا تنحني على شاطىء البحر .. اول مره يزورها .. سمع عنها من والده الذي حارب فيها ، ولكن عندما سقطت بأيدي اليهود ، رجع والده الى قريته ودفن الباروده في التراب ... ومن سخرية الاقدار ان احد المتعاونين ابلغ عن والده وقد سجن ثلاثة اشهر وخرج من السجن بعد ان طلبوا منه ان يسلم الباروده وقد رافقه عدة رجال شرطه الى
" كرمه " حيث بقي يحفر حتى اخرجها من قبرها ... رأى ابتسامة احد رجال الشرطه وهي تشرق بالفوز من تحت شاربه الكث .. وعندما تكلم باللغه العربيه قائلاً : " عفاريم عليك " ، كان لازم من زمان تسلم الباروده ..
ايقن من لهجة هذا الشرطي انه عربي من منطقه قريبه فشعر بتأنيب الضمير وبأشواك فوق وسادته .. من يومها لم يعرف والده النوم .. طوال الوقت وحزنه ينوح بعبارات غير مفهومه ، بغضب يثرثر ويغطس في غيبوبه اطلق عليها الطبيب بعد ذلك " الخرف " مع انه كان يخالف الطبيب ويؤكد له ان والده يملك ذاكره حديديه ، انه يتذكر شوارع وطرقات ووجوه واسماء شهداء وقاده ومعارك وانواع اسلحه ودبابات ... احياناً يخرج من ممحاة النسيان ليقول له : ... روح شوف الباروده بعدها هناك .
تخترق كلمات والده جلده فيتعرق خجلاً ، خاصةً اذا كان الى جانبه احد اصدقائه لأنه يرى لمحات الاتهام بالجنون تطوف
وتزين تقاسيم وجه صديقه ..
فيحاول تبرير السؤال عن الباروده .. ابوه مصدوم من نتيجة الحرب
السيجاره اصدق رفيق لوالده .. رغم سعاله الذي يصل رذاذه حتى آخر الحاره الا انه مصمم على ان الخيانات العربيه علمته افضل وسيله للنسيان هو السعال ، مع كل سعله يخرج من صدره الاوهام التي كانت تقوده الى الشعور بالفخر الكاذب .
ما زال يتنقل مع صديقه الذي قام بجره الى سوق يافا .. او كما اطلقوا عليه ايضاً " سوق الرابش " الذي يحوي الأثاث المسروق من البيوت اليافاويه .. يشير صديقه الى كلمه مكتوبه على حافة خزانه " لمياء" هذا خط انثوي ... اسم امرأه ارادت ان تخلد اسمها قبل الرحيل فكتبته ليبقى صامداً امام الزمن . قد يكون خط رجل ، كتب اسم حبيبته قبل موته في احدى المعارك ..
انظر رغم الدهان واللمعان ما زال الاسم واضحاً ، يطل كعصفور محاصر ..
تقدم التاجر اليهما .. الأن هما الصيد الثمين ... اخذ يعدد انواع الاخشاب وميزة كل نوع ، وينطوي ويتعرج وينفتح ويحتضن الزخرفات التي تتوج الخزائن والاسره والكراسي والطاولات ، اراد ان يختصر طريق التاجر ويبعثر قائمة الاغراء ..
ــ من اين لكم هذا الاثاث ..
خيم صمت بارد .. خانت العبارات لسان التاجر ثم عادت صوب الكذب ممشوقه وبخفه اردف ..
ــ انا بشتري من التجار... لا اعرف " خبيبي " ، من وين ..
ملح يختم الشفاه ... يندس صديقه في غابة الأثاث ويشير
الى سرير عريض ، مذهب ، على قوائمه الاربعه تقف كرات ذهبيه تنشر في الاجواء فراشات وغزلان وكثبان من الشهوه ...
صديقه يتظاهر بالتردد ، لكن مخلب الاعجاب قد خدشه ، لقد ظهر على صوته ونظراته ... اخذه الى زاوية في الدكان ...
ـــ هذا اجمل سرير رأيته في حياتي ... لو كنت مكانك ما
ما ترددت في الشراء ولو على جثتي ..
ــ لكن يا زلمي من ساعة ما عرفت ان الاثاث مسروق من بيوت يافا وانا بدني مقشعر وشاعر اني رح انتق ... الحق عليك ليش ما قلتلي ان الاثاث من البيوت .. انت قلت من " سوق الرابش " فكرت ان اليهود جابوا الاثاث معهم لما اجو وقاعدين ببعوه ....
انزلقت يد الصديق على كتفه ، هزه
ــ اترك مشاعرك على جنب .. الجمعه اللي جاي عرسك وانت حلفت اللا تنام على سرير وتكون عروستك غير عن كل العرايس ..يلا اشتري بلا وجع راس ...
حاول طرد صور البيوت المفتوحه عنوةً .. السلب والنهب ، واصحاب البيوت الذين فروا هاربين ولم يفكروا سوى بارواحهم ...
ــ قديش حقه ...
ــ مئة ليره ... اجاب التاجر وهو يمسك بالكره الذهبيه التي ظهر بعد ذلك أن هناك رسومات دقيقه وأيات قرأنيه ..
ــ ولو ... مئة ليره حق عشر دونمات
هتف متراجعاً خوفاً من مشنقة هذا التاجر ...
ــ يا خبيبي .. انت لا تعرف بالاثاث ، هذا سرير يوسف هيكل
ــ يوسف هيكل .. يوسف هيكل ...
ما بتعرفوا ... اللي كان رئيس بلدية يافا ...
هذا التاجر " الوسخ " يلعب باعصابه ، لقد وضعه في قفص ويريد ان يهز له ذيله طرباً .. اشتهى مرةً ان يحمل سكيناً كي يطعن من يضايقه او يستفزه ، كان والده يفتش ثيابه قائلاً لوالدته ...
ــ هذا الولد طايش راح يوقعني بمصيبه ..
صديقه في وادٍ آخر ..
ــ معك مئة ليره ..
ــ معاي بس لازم اشتري ملبس وشراب وشقف قماش لفساتين امي وخواتي وعماتي الاربعه وخالاتي السته ، كل وحده كتبت قديش بدها قياس الشقفه .
ــ ولك يا مجنون ، حدا بصحلوا ينام على سرير يوسف هيكل ، حتى لو حقوا ميتين .. انا لو محلك باشتريه والشقف والملبس والشراب بعدين بنشتريهن، ملحوق عليهن.. هاي فرصه ما بتتعوض ..
الفتور والغرور .. حطت ذبابه فوف انفه ازاحها بقسوه حيث راح الفتور وبقي الغرور ... سينام على سرير " يوسف هيكل " .. تخيل نفسه فوق السرير وعروسه الى جانبه تتمطى بجسمها البض ...
سيشتريه ولو شنقه والده ...
ــ " تحميل السرير ضمن البيعه " .. اراد ان يطمئن لأنه لا يملك ثمن استئجار سيارة للتحميل ....
ــ علينا ... علينا ... أكد التاجر وابتسامة النصر تلوح فوق وجهه ...
" ابن العاهره " بكم اشتراه حتى يبيعه بمئة ليره ... " قال اشتراه " ... لازم يقول " سرقه الحرامي هو و اللي زيه " ... وعندما دفع للتاجر المئة ليره وادار ظهره شعر ان التاجر يقهقه بغدرٍ .. لقد بعتهم بضاعتهم ...
اصبح حديث القريه لعدة سنوات ..
ــ اشترى سرير بمئة ليره .. هو والعروس ما بسووا ليره ..
ــ بقولوا انه ابوه صابوا مرض لما عرف ابنه اشترى سرير بمئة ليره
ــ امه فرحت وقالت حدا بصحلوا ينام على سرير يوسف هيكل اللي كان مالك يافا ...
اهل العروس اعتبروا ابنتهم محظوظه اول عروس في البلد تنام على سرير .. كانت " الفرشه والطراحه " حلم كل فتاه .. لكن ابنتهم رفعت رؤوسهم وتنام على سرير " يوسف هيكل "
اصدقاء العريس تنهدوا ...
ــ ولك من اول غزواتك " سرير يوسف هيكل "
وعندما انجب ابنه البكر اطلق عليه اسم يوسف تيمناً " بيوسف هيكل " وكانت دائماً غرفته محط انظار الزائرين لأبيه .. فغرفته الموجوده في بيت ابيه اصبحت " كعبة " اهالي القريه ... يأتون ليحسسوا على قضبان السرير وعلى الكرات المذهبه التي ادهشتهم صناعتها .. واخذوا ينسجون الحكايات والقصص عن بطولات وصولات وجولات يوسف هيكل ... حتى أكدوا ان للسرير رائحه خاصه قالوا ما زالت رائحة " يوسف هيكل " العطره تنبعثُ من الحديد .
حتى اصبح احياناً يشعر ان " يوسف هيكل " ينام معهم في الغرفه ويلاحق خطواتهم ....
ولم يتخل عن السرير رغم السنوات الطويله ووفاة زوجته ..
صوت المطرقه يوقظه .. السرير تحول الى كومةٍ من القطع الصغيره ..
ابنه ينظر اليه ويبتسم ابتسامه استفزازيه تنضح بنعناع الاستخفاف ..
ــ اهلين " ابو هيكل "
دمعه اختبئت ولم تنزل ..
ــ طيب علشان صاحبك " ابو هيكل " راح اخليلك هدول ...
وناوله أربع كرات ذهبية اللون ، حيث ما زال الدهان الذهبي متوهجاً ....
08-أيار-2021
21-حزيران-2008 | |
21-نيسان-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |