قصتان
2007-08-01
خاص ألف
وردة النّسيج المقتبوحة
بعد ذلك بعدّة أيّام ألقى عماد محاضرة مختصرة ليحصل على مبلغ المائة والخمسين من المركز الثّقافي، اشترى بها قميصا بلون بنفسجي أو بالأحرى قماشا من لون بنفسجي الذي كان لونه المفضّل، أخذ القماش إلى الخيّاطين وصنع منه قميصين بنفسجيّين وقرّر أنْ يتزوّج ولو أنّ الحبّ في قلبه كان قد صار بحيرة بمياه صافية زرقاء ولكنّها مستحيلة؛ ذهبَ إلى حارة هليليكي في القامشلي، صعدَ بعض الدّرجات؛ نظرَ إلى قبرِ محمد شيخو واستمع إلى محمد شيخو في الباص. هليليكي ترتفعُ حين المجيء من بريفا وعامودا إلى القامشلي؛ فوق التلّ قصرٌ أصفر اللّون إلى يمين القادمِ، فتياتٌ مقتبوحاتٌ فوق أكتافهنّ جرار الماءِ يأتين به من الحنفيّات في أسفل البيوتِ، حيثُ التلّ مرتفعٌ ولا تستطيع الحنفيّات سحب الماء. إلى يمين القادمِ مقبرةُ هليلكي. يتزوّج عماد فتاة ذات جرّة ماءٍ فوق كتفيها، أصبحت قبيحة من الحبّ وغناء محمد شيخو الكئيب قلّص قلبها مأخوذا إلى الهجران.
يبحثُ فيها عن أغاني محمد شيخو ثمّ عن أغاني عبدالقادر سليمان، عن قصائد جكرخوين. لا يجد شيئا. يبحث في سرير الزّواج ومن اللّيلة الأولى عن جرّة غير مكسورة أو مثقوبة وليس معها جرّة في السرير سوى جرّة مثقوبة؛ يأتي عماد إلى أبي ويقول له شاكيا: " لم أجد في السّرير سوى الجرّة المثقوبة وكانت أغاني محمدّ شيخو تسيل من الثقوبِ وتنحدرُ الوادي فيلتقطها أولاد الشّوارع وبيّاعو السكائر على طريق الهلاليّة ويغنّونها، أو تسيل منها أغاني الرقص لعبدالقادر سليمان فيلتقطها كردٌ همجيّون يرقصون عليها مهاجرين إلى قبرص. لم أجد أيّة روحانيّة في جرّتها المثقوبة، قمتُ ضدّ قرارِ نفسي وطلبتُ منها أن تأخذ الجرّة، أن تعود إلى هليليكي والحنفيّات المنخفضة والقصر الأصفر." الشّمس أشرقتْ وأضاء ت درجات وشاهدة قبرِ محمّد شيخو؛ ذهبتُ إلى القامشلي بالبسكليت وأتيتُ في نفس اليوم، أمضيتُ يومي في حديقة القامشلي. أثناء رجوعي نظرتُ إلى بريفا؛ رأيتُ سلّما منحنيا على حائط بيت صديقي عماد الحسن؛ رأيتُ عمّه يقرأ القرآن فوق حبلِ الغسيل وشممتُ نفسي بقوّة ثانية. تفوح منّي رائحة الحرمل وقميص الكلابِ السلوقيّة. في الصّباحِ حين شروقِ الشّمسِ يحمل محمد شيخو طنبورته ويخرج من قبرِهِ؛ بدل أن يعزف الأغنية فإنّه ينشغل مع رفشه بتنظيف ساقية المرحاضِ، يزوره عبدالقادرِ سليمان، مطربُ الأعراس ويقول عنه: " بدل العزفِ ينظّف ساقية المرحاض" . ينتهي محمد شيخو وينظّف الرّفش ثمّ يأخذ الطنبورة : " أيّتها الوردة، أيّتها الوردة الصّفراء، لا أبادلك بمال الدّنيا، في سبيل الوردةِ أقتل ". ينظرُ عنبٌ كان ينضج في الصّيف في كرومِ مخفيّة لبيت وطحيّا وبستانٌ لعفدو عيّارو الذي كنتُ أسمّى باسمه في طفولتي وأنزعج حين ألقبُ بهذا الاسمِ " عفدو عيّارو". لكنّني كنتُ " عفدو عيّارو" ولو أنّني لم أكن أتربّص بالأولاد والنساءِ في حوافّ البساتين ولم أكن أنام القيلولة فوق تراب البستانِ بالقربِ من الأفاعي والبقدونس ولم يكن لي بيتٌ مبنيّ بسرعة ليحميني من أشعة قيظ الصّيف. وصف عماد الحسن عاملات النّسيج أوصافا ما، كنّ أوّل عاملاتٍ في معملٍ له اسم معمل في عامودا وكنّ عاملات نسج قريبات من مخازن جمعِ الحبوبِ ويأتين بدوامٍ رسميّ لينسجن النسيج وكان عماد ينظرُ إليهنّ وبالتأكيد لم يجد فيهنّ المرأة المرأة ولم يجد فيهنّ نجلاء فتحي وجاءت في قصيدته كلمة عاملاتٌ مقتبوحات، عاملات لسن قبيحات إنّما مقتبوحات، كلمةٌ غير موجودة في القاموس فعلقت بقلب أبي وردّدها كشعرٍ لعمادِ الحسنِ ثمّ كتب عنه قصيدة الرّبيع المزوّق وصار أبي وعماد صديقين. نسجت العاملاتُ وردةً ولم تكن الوردةُ وردة حقيقيّة تقطفُ وترسم إنّما وردة من الصّوفِ على النسيجِ من القطنِ ووردة من القطنِ على قلبٍ من القطنِ وغيّرن الاتّجاهات، اتّجاهات قعودهنّ وتعبهنّ أثناءِ النسيج ليراهنّ عمادِ في مروره ولم تكن الوردة باهتة إنّما بألوانٍ قرمزيّة، شديدة السّطوع والحرارة حيث العاملاتُ كنّ مقموعاتٍ جنسيّا وأيضا كنّ أو أكثرهنّ كنّ مقتبوحات على طريقة القبيحات شكلاً. فقط في روحهنّ كنّ وردة لم تتفتّح فوق شبابيك معمل النّسيج. تلك الورودُ الصّفراء على يدي مثل كيس، ثمّ جاءت أمينة من بعيد مع ابنة عمّتها ليلى من زيارة إلى بيت ابن عمّي محمد نور ونظرت ورودي إليهما طويلا وشمّت من بعيد عطرَ أمينة وعطرُ ليلى كان أقوى من عطرِ أمينة فقالت الوردة الأكثر اصفرارا:" يدُ أمينة على حنفيّة مدرسة أبي العلاءِ المعرّي في الصفّ العاشرِ الإعدادي؛ ليس فوقها عطر مثلي". وأكمل عماد الحسن حين ألقى نظرة إلى الوردةِ البرتقاليّة المائلة إلى الوردة الورديّة وقال:" أنا هو الشّاعرُ الشّاعر وأمّا طه خليل فهو الشّاعر فقط، الشّاعرالشّاعر هو الشّاعرُ الحقّ وأما الشّاعر فقط فهو اللاشاعرُ في رأيي؛ انظر، نجلاء فتحي هي المرأة المرأة وحبيبتي في حارتها بالمياه هي أيضا المرأة المرأة وتضع النظّارة في باص الجمعيّة التعاونيّة لتصبح المرأة المرأة وهي بدون باص وبدون الصفّ الخاصّ المرأة المرأة؛ أنظرُ إلى أفلامِ نجلاء فتحي كم هي مغرية أثناء قميص النّوم فوقها. لا تؤمن بالشيوعيّة ومل بفكرك العاموديّ إلى فيصل الترك المنشقّ من الاتّحاد السوفييتي؛ نحن الشّعراء غاية في ذاتها، بدون مبرّر يتقبّلنا النّاس ونحن فوق الأحزاب، أمامها." أتجوّل مع شاعر بريفا وهو من اكتشافات أخي ثمّ أبي، يأتي عماد إلينا ويذهب إلى أبي ويقول، عمّي الشّيخ هو صديقي ويجلس إلى أبي فيسمّيه أبي، ثعلب بريفا واللّبن وعشقِ أعشابِ الرّيف. يأتي عماد مرّة أخرى إلى أبي ويجلس معه في دكّانه على الشّارعِ ويقصّ لأبي سيرةِ عشقه لفتيات كثيراتٍ في المراهقةِ والآن بعد المراهقة فإنّه يبحثُ عن المرأة المرأة وثباتِ الحبّ في تلك الحارةِ النّائية التي تغمرُ مياه المراحيض شوارعها فلا يستطيع عماد زيارة شارع التي يحبّها وعليه أنْ يقفز فوق المستقعات المرحاضيّة والمطريّة ونسي مظلّته وجاكيته المطريّ والمرأة المرأة ليست في البيت إنّما تزور سرّا بيت أحد العراقيّين المهاجرين وهم أيضا شيوعيّون من حزب فهد؛ فيكره عماد الأسرار ويكره العراق وأولاد الشيوعيّة السوريّة والنظّارات وباصات الجمعيّة التعاونيّة ويحبّ صوت ابراهيم طاطليسيس. يجد أمينة في الباصِ وهو عادة لا يتكلّم في الباص وأنا في حلب، فيتكلّم لأوّل مرّة خلال سنتين في الباصِ ويتعجّب أصدقاؤه: " يتكلّم عماد الحسنِ ببذلته السّوداءِ الكتومةِ في الباصِ لأوّل مرّة؟!" . يقولُ: " تنطفىء عامودا بدون صديقي من عائلة الشّيوخ، الشّاعر الشّاعر صاحبِ أمينة والوردةِ الباهتةِ التّي أعطاها للشيوعيّين وصاحب الوردةِ الصّفراءِ أو الورودِ الصّفراءِ، قطفها من غنى حديقة الشّويش وعمل لنفسه قهوة ولم يخرج من البيتِ لأعوامٍ؛ فطال شعره وسمّاه النّاس، شيخ الشّعرِ لأنّه تجوّل في أوحالِ عامودا في سبيل الشّعرِ ولم يبالِ بتعليقاتِ النّاس، للشّعرِ وله فقط بين الدّروبِ وبينِ الأشجارِ والطّيورِ النحاسيّة والقصائد المتفتّحة." ثمّ صمتَ صديقي عماد، فنظرت إليه أمينة بلحيته وبذلته السّوداء بعكس بذلة طلاّب الصفّ الخاصّ وتذكّرت أنّه ذات يومٍ دعاها وطالبات أخريات إلى إحدى أماسيه الشّعريّة في قبوٍ غامق بعيد تحت قصرٍ من البلوكِ بدون طلاءِ ولم تذهب أمينة فقط ذهبت أمينة أخرى من القامشلي وقال لي عماد بعد الأمسية: " لقد أتتْ أمينة إلى أمسيتي، لا ترمِ نفسك في أمينة وستندم مثل وضّاح اليمن في الجبّ ذات يوم، حين تتزوّج أمينة في القامشلي ويغلق الصفّ الخاصّ أبوابه وتبقى على رصيفه مثل مخالبِ عصفورٍ وتلقي عليك النّمالُ نظرة مسائية ملتهمة." جاء شيوعيٌّ من آلِ نعمتو نحيفا في الشّارع؛ كان الاتّحاد السوفييتي أقصى البعيدِ وهو يعاني من قصرِ النّظرِ ولا يستطيع القراءة في غرفِ النّاس بعد ويمشي بدونِ أنْ يتزوّج بعد أن بلغ تقريبا أكثر من السادسة والثّلاثين ووجنتاه غائرتان بدون أكل اللّحم الثّمين وبغير فواكه وخضرةٍ تلائم وتدفع إلى الزّواج وأنا وعماد الحسن شيوعيّا الحبّ فوق شارعِ الشّويشِ، وخلفنا حديقة مترامية الشّجرِ والغرفِ وفيها ليلا تأتي الطّواويس والحالات. فأعطيتُ الوردةَ الوردة الباهتة للشيوعيّ الذي كان استاذي في مدرسةِ المعرّي وقبل ذلك بسنواتٍ أرشدنا وأنا ضمن شبيبة الحزب الشوعيّ أن نقرأ ولا نكفّ عن القراءةِ حتّى ولو في غرفةٍ بدونِ ضوءٍ كافٍ وحتّى لو أصبح اللّحم غاليا فأصبنا بفقرِ الدّم ونظرنا فلم نجد الاتّحاد السّوفييتي إلى جانبنا؛ المبدأ هو المهمّ وكان شخصٌ أعرج فيما بيننا ولكنّه من طرفٍ موحلٍ فوقع عليه عينُ الاستاذِ ووجد فيه ضالّته أن يكون هو رئيس الخليّة فهو يعرفُ أن يقرأ معنى الحمامات فوق السّطوح ويستطيعُ أن يراقبنا أثناء رقصنا في الأعراسِ كونه في الأطرافِ ولا يركض فيوزّع مطبوعات الحزبِ أسرع وقال الاستاذ: " استفيدوا من بطئكم ومن فقركم لتصبحوا أسرع وأبطأ عند اللّزومِ" . فأعطيتُ الباهتة الباهتة التي بغير رائحة له على هذه الجملةِ والورودَ الصّفراء ألقيتها بعدئذ على طاولتي النرجسيّة البيضاء التي كانت تقفُ في الغرفةِ مثل أمل. قال عماد الحسن: " لماذا أعطيت الوردة الباهتة الباهتة، ذات الرّائحة المعتّقة منذ يومين في جيبك ولك بها علاقة وكانت لأمينة في الباصِ حين انطفأت كهرباء عامودا لأنّك لم تكن فيها وكنتَ في حلب فذكّرتُ أمينة بحبّك وهي ليست مثل نجلاء فتحي إنّما، أمّوكي، أمّوكي في أغنية ابراهيم طاطليسيس الذي أصله غير معروفٍ وبدأ يمثّل أفلاما عاطفيّة بين الثّلج ودمِ الأسلاكِ بين المحبّ ووالد محبوبته يطلقُ الرّصاص عليه أو يصاب بالسلّ في الجبالِ بالقربِ من قريةِ الرّوائي ياشار كمال؟!" لم يكن لعماد الحسن عداوة سوى الحبّ للمرأة المرأة ضدّ شيوعيّي عامودا وهي كانت في الأساسِ عداوة ضدّ شيوعيّي الحزبِ الشيوعي العراقي المهاجرين في بيوتٍ مهدّمة على أطرافِ عامودا، يبحثون عن خبز وينظرون إلى الفتيات بدهشة مغامرة أحيانا وروح المغامرة لدى صاحبةِ عماد التي تتشبّه بنجلاء فتحي في مغامراتها وقميص النّوم عليها؛ تأتي وتدخل البيوتَ المتهدّمة للشيوعيّين وأحيانا بدون قميص نوم يكرهه صديقي عماد ويكره عامودا ويقرّر أن يذهب فقط إلى القامشلي أو يقول بعد سنواتٍ من حبّه : " لم يبق حبّ يا صاحبَ أمينة في قلبي، صار بقعة وحفرة فيها ماءٌ قديمٌ مالحٌ وجاءتْ عدّة ضفادع وانغمست برأسها وأثارت وحل الحفرةِ فارتجّ الحبّ ولم أميّز بينه وبين الكرهِ؛ حين أنامُ في عامودا وأنظرُ إلى النّجومِ وأغيّر اسمي فاسمّي نفسي، عماد الحسيني، تحسبني أحيانا آتي إلى المركزِ الثّقافي، ألتقي مع عبّود الشوّاخ ونتحدّث عن الجراءِ والمعزاتِ تحت الخيمِ أو التصوّف أو أقصّ له غرامياتِ القرويّات، تحسبني شاعراً وأنا شاعرٌ لم أترك الأوزان والموازين الشّعريّة ولم أهجرها هجرا مطلقا؛ بين الفينة والفينة أعودُ وأصبح الشّاعر الشّاعر كما في قصص المجون والمجنون." يطلبُ منّي أبي أن أقول لعبدالسّلامِ وهو أحدُ أقربائنا يسوق التكسي في شوارعِ عامودا أنْ يأتي ويركب أبي التكسي في فصل الرّبيع ويطلبُ منّي أبي ألاّ أبقى في البيتِ في فصلِ الرّبيع، أنْ أذهبَ إلى حقولِ خارج عامودا، أتنشّق الهواء النظيف بدون شوائب تنفّس النّاس والسيّاراتِ. يأخذه عبدالسّلامِ إلى قرية بريفا وبعدئذ يأتي إليه الشّاعر عماد الحسن في عامودا؛ فيكتبُ أبي قصيدة عن عماد الحسن الذي لقيه في دروب بريفا؛ كان عماد هائما قد نصبَ شبكة ويركض وراء الورود والورود تركض وراء الفراشات والفراشات وراء باص الجمعيّة وباص الجمعيّة فيه ما فيه من فتيات يعشقهنّ عماد وأنا أعشقهنّ فتكون قصيدة أبي عن عماد الحسن عنّي أيضا ووردتي الباهتةِ، " ذهبتُ بريفا في الربيع المزوّق، رأيتُ عمادا، شاعرَ الرّيف تائها" ثمّ يجري حوارٌ عن الحبّ والشّعرِ والحياةِ بين أبي وعماد الحسن؛ يعود أبي من بريفا وينظم قصيدة عن حالات عماد الحسن بعد ثلاثين سنة لم يحمل قلما لكتابةِ الشّعرِ. أمشي بخطواتٍ وئيدة وفي قدميّ حذائي البنيّ وجواربي البنيّة؛ هذه المرّة طال عمرُ الحذاءِ فوق أوحالِ أرصفةِ ومنتصفِ شوارعِ عامودا. ألستُ أمشي كمثل سائرِ أبناءِ بلدتي التي بثلاثين ألفاً من السكّانِ في وسطِ الشّارعِ مع صديقي الشّاعر من قرية بريفا في فصل الرّبيع، الشّاعر عماد الحسن. رأيت بريفا في الشّتاءِ، يتحوّل انهمارُ المطرِ إلى سواقي تسيل في وادٍ أصفر بعد شروقِ الشّمسِ مباشرة. في عامودا وفي يدي وردةٌ بلونٍ أحمر وورديّ باهتٍ قطفتها من أحدِ الجدرانِ وشممتُها مرّتين وبقيت في يدي أثناء حديث صديقي عماد وأثناء حديثي أو استماعي إليه: " نحن الشّعراء، لنا مرتبتنا كما في العصرِ الجاهلي؛ نحن أرقى وفي أمام النّاس، ينبغي أن لا نختلط بالعامّة ويكون لنا سرّنا وكهفُ الابداعِ مثل نبيّ لم يُعترف به بعد. أمينة هي بياتريسك وعشيقتي تذهب إلى الصفّ الخاصّ في القامشليّ وتضع خلال شبابيك الباصِ نظّارة؛ أنظرُ إلى مرورِ الباصِ في بريفا؛ فأرى في الشّبابيك نجلاء فتحي؛ أذهب إلى القرى المجاورة، أضع سكّرة في أحد أركانِ بئر ما، تبقى السكّرة إلى فصل الصّيف، يضع عليها بعض الغبارِ بيته " . قبل أنْ تكون في يدي تلك الوردة التي كانت ناضجة حين أخذتها من كأسِ الماءِ والآن أصبحت باهتة اللّونِ قليلاً والوردة لا تعرفُ ماذا تصنع في يدي تماما مثل الورودِ الصّفراءِ التي قطفتها من على جدارِ بيت عائلة شويش وانتظرتُ برأس محلوقةٍ صفرا في ركنِ الحائطِ وهطل مطرٌ غزيرٌ ثمّ شمسٌ جاءت ونظرتْ إلى الورودِ الصّفراءِ وقال أحد أصدقائي في الزّاوية جملة. أو يمرّ عماد بمعمل النّسيج؛ هذا حين كان يأتي إلى الإعداديّة في عامودا، فيتأثّر بشعراءِ عامودا الضاجّة فوق الحيطانِ وفي الإعداديّات وفي السّطوحِ وفي دارِ شبيبة الثّورةِ بالشّعرِ العامودي الذي يُذكر فيه على الدّوامِ نهرُالخابورِ والزيّ الفولكلوري بالأحزمةِ المزركشةِ والحوذيّ، حيث لم يكن حوذيّ قطّ في عامودا، ولم يكن قطّ عربة لنقل النّاس بدل النقلِ الداخلي؛ عامودا فقط خطواتٌ من عدّة خطواتٍ بين مركزها وبين أطرافها التي يذهب إليها أبي بسيّارةِ تكسي عبدالسّلام وينظرُ حواليه قربَ الغرّافةِ، قربِ خزّان بيتِ الصرّافِ، قربَ قرية شيخكو وينظرُ حوله فينمو عشب وتخرجُ زهرةٌ برأسها من الترابِ النّاضج وينظرُ بطيخ في بساتين ملاّ فرمان، صديق أبي. خسارةٌ أن يوصفن بالوردةِ الباهتة التي كنتُ أحملها والوردة التي كنتُ أحملها في قلبي وتلك التي كان عماد يحملها في قلبه لم تكن قطّ وردة باهتة وإنّما الوردة في يدي أصبحت باهتة بعد أنْ انتظرتُ حبّ أمينة المتبادل معها لأكثر من ستّ سنواتٍ وغيّرت أمينة طريقها حين وجدتني بورودي الصّفراء التي كانت رمز الغيرة ورمز عدم الحبّ، غيّرت أمينة الطريق وذهبت مع ابنةِ عمّتها في طريق آخرولم أستطع أنْ أعطيها الوردة على قلبي من الصّوفِ ووردة عماد الحسن التي أعطيتها للشيوعيّ من عامودا ونظرة عماد الحسن احمرّت وشبّهت نفسها بالبكاءِ. كان كلّ شيءٍ قبل اهداءِ الوردة لهذا الشيوعيّ من عامودا مزاحا لدى عماد الحسن. طلبه منّي أنْ نذهب إلى الأعراسِ وننفصل في ركنٍ إلى النّاس وأن تكون لنا وجوه وجومةٌ، مكفهرّة عليها علائم الشّعر كان مزاحا من قرية بريفا. ذهابه إلى عبّود الشوّاخ في المركز الثّقافي والتكلّم معه باللهجة البدويّة وشرب القهوة البدويّة ثمّ طرحه عليه أنْ يقوم بالقاءِ محاضرةٍ ثمّ قوله لي إنّ المحاضرة فقط للحصولِ على مائة وخمسين ليرة سوريّة كان مزحا وقصيدته عن العاملاتِ المقتبوحاتِ في معمل النّسيج، تلك القصيدة التي كانت تنتمي إلى بداياته في كتابةِ الشّعرِ كانت أيضا نوعا من الشّعرِ والمزاحِ وكانت قد علقت في تاريخه وذاكرته فقط لتندّر أبي بها كلّما زارنا عماد الحسن. لكنّ نظرته ضدّ الوردة الباهتة التي أعطيتها بصدفةٍ لا شعوريّة لأستاذي محمود دريعي في شارع عامودا بحديقة بيت الشّويش المترامية، تلك النّظرة وتلك الوردة كانتا جدّيتين على قلبِ عماد الحسن وانزعجَ منّي ومن شيوعيّي العالم. ثمّ طلب منّي أن نغادر وهو ركب الباص إلى بريفا. لم يأت إليّ إلاّ بعد شهرٍ وضحك منّي ومنِ الوردةِ وقال: " نذهبُ إلى صديقنا، مدير المركز الثّقافي عبّود الشوّاخ، نتكلّم معه بلهجة المعز والخرافِ بين الكلماتِ، نشربُ القهوة المرّة ونتلصّص على عاملةِ غرفة استعارةِ الكتبِ، لها ساقان عاريان تحت الفستانِ وتحت الطّاولةِ، نستعيرُ كتابا عن حبّ بياتريس ودانتي وأنت قصّة وضّاح التّابوت وهل أنت حبيبُ أمينة ولها عشّاق خمسة في القامشلي، واحدٌ احتياط واثنان أمام البابِ وواحد للترفيه وأنت بالخيط. المرأة المرأة والشّاعر الشّاعرِ في انتظار الباصِ منذ أكثر من ساعة" .
إبراهيم، أيّها الزّنبور الأحمر
ذهبتُ إلى الجرّاراتِ ذواتِ الدّواليبِ من الحديد الرصّ والأخرى من الحديدِ والنايلونِ وبعض الأسلاكِ الفولاذيّة ورأيت بقعة مقبرة عامودا الممتدّة إلى جوارِ الحصّادة وباص حجّي مطلعو الذي سمّاه صديق آخر بمطار عامودا؛ فنزلتُ مثل طائرة من نباتٍ أخضر وكنت شيخا أخضر في المطارِ وبدأت أعمل فحوصاتي التي كانت تهمّني جدّا وسألت نفسي: " هل تصلح هذه التّربة أنْ يبنى عليها مطارٌ لكي تنزل عليه التّهويمات الداكنة والغمغمة التي أشار إليها إبراهيم الخيّاط وإن هبط قلبي ذات يومٍ وسمعت عواء الأمواتِ في المقبرةِ المتفرّعة المسكينة وطارت نحلة من شاهدة وأنا أعرف تربة المطاراتِ الخضراءِ؛ هل تصلح هذه الجرّارة أن تتنزّل طائرةٌ بعيدةٌ تفكّر في سياج بالقربِ منها وهل حبيبة شفيدو لها فقط شفيدو وكانت مختفية في ذلك اليومِ في فستان ممشوقٍ أبيض وأحمر وبنفسجي؛ خرجت من المطبخِ وعبرت البابَ ونظرت إلى البئر وتذكّرت عاشقا آخر من بيت آخر ليس غنيّا مثل عائلة شفيدو والشّابّ الذي تذكّرته كان أيضا صديقي ويسمّى أحيانا موسى وأحيانا شفيدو وأحيانا يقول إنّه ليس له اسم." بعد أن سألت نفسي عن المطارِ، قامت حبيبة شفيدو ولو أنّها كانت ُتحبّ من قبل موسى أيضا وحبّ موسى لها كان جرّارة مليئة بالعواطفِ ودواليبها عواطف وحبّ شفيدو لها أيضا دواليب ونهرٌ بدل نهرالخنزير وكلبٌ يعوي طوال الغسقِ في المقبرة أيضا دخل في طيّات الحبّ وغنّى موسى حبّ شفيدو وعرفه وشفيدو أيضا عرف موسى ثمّ دخلتْ هذه الفتاةُ غرفةالجلوسِ ونظرتْ إلى نفسها في الماءِ وقالت كلمة عاديّة جدّا لأختها ثمّ طلبت من أخيها أن يرافقها اليوم إلى سوق الفاتورة ولم ترد أنْ تشتري أيّ ثوبٍ؛ فأثوابها جمّة وعيونها الجميلة على كلّ ثوبٍ ولها رفرفة على كلّ منديلٍ ومنديلها أحمر؛ لا يراه العاشقان وأيضا ثديها وثديها صغيرٌ في مراهقتها بعدها يكبر حين تتزوّج؛ يريد موسى أن يفركه في ضفافِ النّهر إلا حين حلّ الفيضان وأنقذ موسى أخاها من الغرقِ. ثديها وأنفُها وعنقها فوق سريرِ الصّيف، تغطّي نفسها بخوف المقبرة والقمرُ ينظرُ؛ تغطّي نفسها باخضرارِ الماضي وأنا أنظرُ إلى شفيدو وقامته، فيقول: " أنا طويلٌ أكثر من اللازم، كيف أصبح قصيرا؟" يردّ عليه جاري بروسكو: " أستعير لك منشارا من جارنا محمود النّجار وتقصّ بعضا من ساقيك". لا ينتبه شفيدو إلى الحلّ ويتابع لي حين يمرّ في الشّارع الرئيسيّ في عامودا: " أكره الذّهاب إلى الجيش وخدمة السنين الثلاثِ الصّعبة؛ أخاف من خدمةِالعلم؛ نذهب إلى السّويد أنا وأنت كذلك؛ الحلّ، نذهب إلى السّويد". لن أبني مطارا على ما يبدو في حارة الفتاةِ ذات المنديلِ الأبيض؛ إنّها بيوتُ النّاس على ضفافِ نهرِ الخنزير وإنّها جرّاراتُ العشّاق والحبيبات؛ ماذا أفعل بخطط المطارِ في ذلك اليومِ؛ أرميها فوق المقبرة؛ تأتي ريح وأسمع صوتا مغمغما خارجا من الجرّارة ذات الصبّ:" لا نحتاج إلى مطار في عامودا؛ قلوبنا مطارات وطائرات؛ انتبه لعقلك ألاّ يطير كلقلق فوق كلّ تلك السياجات والسّهول، أنا صديق أحمد توفيقو، استأجرتُ الجرّارة وأحرثُ المقبرة؛ نصنع منها حديقة بدل حديقة سينما عامودا المحروقة؛ يا صديقي ". قميص أبيض على عزوة؛ تحته ثديها مراهق أبيض كالقطن، القطن تحت يديها البيضاوين؛ في قرية ضعيفة تحت قمر أصفر. لم أسمع عصفورا يغنّي في أيّ شبّاك في المدينة التي غادرناها في شاحنة ولم أرَ عصفورا آخر يطير تحت جوزات القطنِ في الطريق أو بين الحقولِ حين رفعت عينيّ ولم أجد حولي أحدا؛ لم أجد إخلاص الذي كان يهزل مثل ورق سيكارة صفراء في الصفّ العاشر، جالسا بمقعدين أمامي؛ وجهه فانوسٌ لوالديه في السّعوديّة. هل زمنه أنْ يحبّ في الشّاحنة؟ هل فانوسه ليضيء لي في الصفّ العاشرِ. اختفيا، العاشقة التي لم تكن عاشقة وكانت تقطف جوزات القطن بدل القطنِ وتدندن أغنية العصفورِ الذي لم يغنّ والعاشقة لم تكن تعرف إخلاص ووجهه لها كان نوعا من معرفة مراهقة، في يديها أزرار قميصها وصدرها قطنٌ آخر، أراد إخلاص أن يقطفه أوّلا في الشّاحنة التي نقلتنا مع فتيات صغيراتٍ من مدرسة زنوبيا وكان معنا مدرّب الفتوّة صطّام الذي طالت قامته واحمرّ وجهه وكان آنذاك مدرّب الفتيات ويعرف التكلّم معهنّ بلغتهنّ ذات الحارات الزّقاقيّة. اختفى إخلاص عن عينيّ في الحقلِ، ربّما أصبحَ دودة كان يشبهها في الصفّ العاشرِ وشبّهته بفانوس كنت أعرف أنّه ليس كذلك وأيضا اختفت عزوة في ثدي القطنِ والسّماء كانت بيضاء سوى غيوم زرقاء هنا وهناك وتذكّر المدرّب التّاريخ، فقلتُ له هكذا بغير تفكّر ورغبة في المحاججة ورغبة في قول ما لا أعرفه ولم أمتحن صحّته ولم يكن يهمّني إلاّ الحديث : " علينا أنْ نقطع صلاتنا مع تاريخنا ونعيش في واقعنا الحالي ولا نعرف شيئا إلاّ الأشياء الجديدة وماذا نستفيد من الماضي الذي مات؟" فكانت فرصة المدرّب فرصة كبيرة ليتكلّم عن أمجاد تاريخ لم أستطع أن أحسّه على لساني في يومٍ من الأيّامِ وكنتُ أراقبُ بعض الفتيات وهنّ يقطفن القطن بأيديهنّ الناحلة ووجوهنّ النّاحلة النّحيلة الحزينة والمقبوضة مثل يوم ماضٍ بدون شمس وأحيانا مع شمس أو شجرة في حارة ترابيّة يذهب إليها صديقي إبراهيم الخيّاط مكتشفا فيها فتاةً لم يقل لي يوما اسمها ولم يقل لي بالضبط أين يقع منزلها الذي من ترابٍ، المهدّم بالتأكيد في زواياه والذي كان يسيل منه نبعٌ من ماء متعفّن أزرق فيوزّع رائحته على روائح زهرة العندكو التي انبسطت بميلادها فوق مزرابٍ تنكيّ ضربه الصّيف في أحشائه بقوّة عاموديّة من شمسه؛ فوهنت أحشاء المزرابِ ونقّط الماء، ماء ماطر على ظهري وظهرِ صديقي الذي ذهبت معه ذات مرّة إلى تلك الحارةِ وفصل الرّبيع منتشرٌ في تلك البقاعِ وربّما كان فصل الصّيف أيضا مختلطا بالربيعِ ولم أستطع في يومي الفرق بينهما حيث وجدتُ بالقربِ من مساكنِ عامودا كروم العنبِ وأغصانها كانت خضراء وزرقاء وأحيانا رأيت عنبا بنفسجيّا وحين تمعّنت بقلبي المراهق في أسفل الأخشابِ التي كانت أغصانا وجذوعا للكرومِ، رأيت عندها نحلة ورأيت نحلة أخرى ذات بنيان جسم أقوى من الأخرى ولها عقربٌ في ذيلها، تلسع وتلدغ، ليس النّحلة أو الزّنبور الأحمرُ الفدائيّ إنّما النّحلة الأكبر من نحلةِ العسل وهي ذات مؤخّرة بيضاء تشبه إمرأة والإمرأة تشبه تلك النّحلة، ليست المرأة الكرديّة إنّما إمرأة اختلط في بويضاتها ووجهها المني المردنلي والراشنيّ وبعض من الترك والأكرادِ؛ امرأة عاشت بنحولٍ في سنواتٍ وعاشت بمؤخّرة منقّطة صفراء وكانت لها أجنحة، طارت من صينيّة العسلِ ووضعت نفسها على شبّاكٍ ثمّ بنت لها بيتا اسطوانيّا، والبيت كان منغلقا وكتوما إلى أن أغرق فيه أحد الأولادِ أصبعه والنّحلة الرقطاء في الصّدرِ من العسلِ طارت وأصبحت مجنونة عندئذٍ وأرادت أن تلسع وتدلغ فمَ الصبيّ إلاّ أنّها عادت إلى رشدها وعرفت أنّ دمها أيضا أصفر ووجدت نفسها أمام نظري في الأكياس المعلّقة بأخشابِ الكرومِ وإلى جانبِ الكرمِ مرّت سيّارةٌ ومرّ حمارٌ في أثناء مساءِ الصّيف وأصابني سكونٌ كبيرٌ ورغبتُ أنْ أفشي كلّ أسراري على سياجٍ صعب عليّ رؤيته منِ النباتاتِ الطفيليّة ومنِ الأزهار الطفوليّة ومن الأخشابِ التي كانت لأشجارِ لا يعرف لها فصل؛ غام كلّ السّياج أمام قلبي ولم أميّز بين السّياج وبينِ الحوشِ القائمِ خلفه وبين المطرِ الذي هطلَ في السّطولِ ورغبَ النّاس بعد هطوله لو أنّه لم يهطل وتذكّرت أثناءَ ذلك أنّني بصحبةِ صديقي ابراهيم الخيّاط وجاء إلى هذه النّاحية النّائية عن منزلنا لكي يريني اسم محبوبته التي تشبه نحلة والنّحلة التي قرفصت في قلبه منذ معسكرٍ ما، معسكر خلفَ السّياج الذي لم أستطع التمييز بينه وبين الحصانِ البنيّ الذي ُفكّ من عربة الفقراءِ تحت الكرومِ وطارت النّحلة على الحصانِ الذي هرول ناسه وجلبوه خوفا من المطر وأدخلوه في قلوبهم؛ حبّهم لحصانهم أكبر من حبّ صديقي الخيّاط لمحبوبته التي عرف اسمها ولم يجده مكتوبا إنّما ردّد بعضا من الأسماءِ لي أثناء الطّريق ولم أنظر إليه أثناء قصّه لي الحكاية والأسماء كانت عمشة، نسرين، مزكين، فريدا، زينب، شمسة وربّما نحلة تتراقص على الشّجرة والشّمس وكتم عنّي حبّه لهذه الأسماء وطنّ مثل نحلةٍ وأرشد نظري إلى عدّة شوارع ولم تكن تلك بشوارع وإنّما مزراب وشجرة تنساها الفصول فوق سطحِ أحد البيوتِ؛ تنظرُ من بعيدٍ إلى الشّجرةِ فتظنّها أشجارا بسبب من شعاع الصّيف والشّمس القويّ الذي يحلّ على السّطحِ وتحسب نفسك أنّك لست في المكانِ الذي ولدت فيه وتريد أن لو كنتَ في أرضٍ أخرى؛ ما هذه الغمغمة التي يغطّى بها الحبّ وما كلّ هذه الأسماء التي اخترعها ابراهيم ولم يكن عاشقا في نظري وكنت بدلا عنه أزوره وهذه النّاحية النّائية، لا لكي أرى عمشة وهي ترشّ سطح بيتها بالماءِ أو كانت تقف على السّطح بين الشّجرةِ وبين منبع النّحل الأصفرِ، كانت تقف وفي يدها إبريقٌ من العسلِ ولها فستان مرقّط بالعيونِ مثل عيون الصينيّين؛ عندها فقط آمنت بحبّ ابراهيم الخيّاط لها وآمنتُ أنّ للحبّ أسماء كثيرة وليس اسما واحدا؛ الاسم الواحد سهلٌ ومشمسٌ ومثل طعامٍ وحيدٍ لا تنوّع فيه والسّياج كان يعرف عبرة الاسماءالكثيرة فيختفي خلف الأزهارِ وكنتُ أقول للسّياج بدل السياج" أيّتها الزّهرة الصّفراء" وكنت أقول لحبيبة ابراهيم الخيّاط بدل يا حبيبة ابراهيم، " يا سياج الزّهرة الصّفراء التي تختفي خلفه وخلف غمغمة ابراهيم عمشة ذات وعاء العسلِ" ثمّ لم أعرف السياج من كثرةِ اختفائه خلف أعشابه وخلف أسماء حبيبات ابراهيم الخيّاط فنظرتُ إلى ما خلف الأسماءِ ولم أر إلاّ الأزهارَ في السّياج وخلفه ولم أرَ المساكن في النّاحية البعيدة من عامودا واكتشفتُ أنّ هناك أشجارا كثيرة في عامودا؛ ليس في البريّة إنّما في بيوت النّاس وليس وراء الأسيجة التّي أكلتها المعزات الشّاردة إنّما في غمغمة عاشقٍ مثل ابراهيم الخيّاط وقلتُ حين لم أستوضح كلّ هذه الأمورَ المغلقة والتي ازداد انغلاقها ذات يوم ودكن لونُ نباتاتها وطارت نحلة ممشوقة القامة في البريّة في الصّيف والشّتاءِ المشمس: " يا ابراهيم أيّها الزّنبور الأحمر" قلتُ جملتي صائحا ولكنّ ابراهيم لم يستفق من غمغمته ولم يوضّح لي أنّه يريد أن يكون غير ابراهيم ولم يرد أن يغادر حارته لأجلِ الحبّ وتركني في الحارة هناك، أنظرُ إلى مساكن الاسمنتِ الحارّ، اللاهبِ في الصّيف؛ أمدّ بقلبي إلى بتلة وشتلة معلّقة في أحدِالأركان، بدأتُ أفرح وأندم وأطرب وأتمعّن حين رأيت كومة من النّحل المرقّطِ وندمتُ من أنّني لم آتِ إلاّ اليوم وسؤالي لم يكن سؤالا إنّما رأيت ورأيت ورأيت. قميص عزوة الأبيض وصفه إخلاص بعد سنتين، داوم فيهما على الحبّ ودار مع اسماعيل وخدمت حول مدرسةِ زنوبيا للبناتِ، جاء إليّ وطلب شمعة وحملقَ فيها لساعة ثمّ سالت عيونه من التّحليق حول الشّمعة ولم أجده يبكي ولم يغمغم لي حبّه ومحبوبته كانت واحدة أعرفها وكنت أتمنّاها أيضا من وصفهِ للقطنِ الذي ابتعد عنّا في القريةِ حين تركناالقرية بنفسِ الشّاحنة وتصاعد الغبارُ فلم أجد وجه إخلاص الذي مثل الفانوس الأصفرِ وهو بعدئذ جاء وكتبَ قصيدة عن الملائكة أو عن ملاكٍ ولم أفهم قصده جيّدا ففكرّت في نفسي: " له اشراقٌ ما كما هو يصف في العليّين بين الملائكة وأنا لم أكتب إلا فيما تحت العليّين، عن نبتة بغير ماءٍ وعن أسماءٍ بغير أسماءٍ وسرّني حبّ ابراهيم الخيّاط المجنون بين الغمغمة والسياج أكثر من هذا الحبّ الملائكيّ" ثمّ تركتُ نفسي لا أعبأ بالتفاصيل عن إخلاص وعن عزوة؛ تركتُ نفسي تحمل نفسها وتغادر فجاء صديقٌ لم يكن صديقي وكان اسمه شفيدو واشتكى أنّه طويلٌ أكثر من اللازم وطلبَ أنْ أكتب عنه قصّة وعن حبّه لفتاة تقع على ضفّة نهرِ الخنزيرِ وقربَ بيتها حصّادة تحصد الذّكريات وجرّارة تجرّ مياه النّهر من تركيّا وجرّارة أخرى تختلف عن الأولى في لونها ولها بدل الدّواليب زنجيرٌ من الحديدِ الأصفرِ يصعدُ وينزلُ بين فصلِ الشّتاءِ وفصل الخريفِ بين الأشجارِ واصفرار النّهرِ وقال لي شفيدو" مرّ بالجرّاراتِ أمام بابهم وستفهم وحي حبّي وتكتبُ بالتأكيدِ عن دواليبِ حديدِ الشّتاءِ الذي يبلّل قلبي على الدّوامِ حين أمرّ بالمركزِ الثّقافي وشبّاك مفتوحٌ على المقبرةِ من الجهة الشّماليةِ وشجرة صنوبر على قبر أخي المحترقِ في سينما عامودا."
08-أيار-2021
14-تشرين الثاني-2010 | |
23-حزيران-2010 | |
19-نيسان-2010 | |
05-نيسان-2010 | |
09-كانون الثاني-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |