طبوغرافيا الحدائق
2010-01-09
- حين لا تلتقي عيوني بعيونِ أمينة، فأنا يومئذ كومة عظام. يقولُ مغنّياً مطربُ الأعراسِ المشهور" صلاح رسول". طبعا لعبتُ بالجملةِ وأخرجتُها من سياقها الغنائيّ الحارّ. حيثُ الأغنية غنيت في الصّيف الغائظ من نفسه، الصّيف الذي أثار الغبارَ على رؤوسنا من القيظ والغيظِ حين كنتُ بالقربِ من " السبع بحرات". وفي هذا المقامِ، وأنا اسمع بهلوانيّات الفنّان" صلاحو" دخّنتُ أوّل سيكارة في حياتي. وهنا أريدُ كمؤرّخ لطبوغرافيا الحبّ، أريد أن أعرف بالضبط وأسأل نفسي:" هل كنتُ أحبّ أمينة آنذاك؟ هل كنتُ أعرف أمينة؟ هل كانت أمينة توجد كشخص قبل أن أحبّها؟" هذه أسئلة لا بدّ من طرحها في كلّ مسألةٍ من مسائلِ الحياة. وعلى العموم، أفكّر أنّه من غير المعقول أن تمشي أمينة على نفس الشّارع الذي أمشي عليه دون أن أحاول أن أتكلّم معها، أحيانا في مترو هانوفر أسمعُ نفسي تهمسُ:" لو حدث ورأيت أمينة أيضا في نفس المترو!" همسٌ خفيفٌ من نفسي. وكلّ شيء قابلٌ للحدوثِ بالطّبع. ألستُ أتيتُ بنفسي دون أن أدري إلى هذه الأصقاع دون أن أدري ونفسي هي التي أوقعتْ نفسها في الحبّ قبل سنوات عتيقاتٍ. آنذاك حين زرتُ العرس وحوشُ العرسِ كان طويلا، كان ممرّا فقط وكانتِ المصابيحُ الكهربائيّة معلّقة مثل السفرجلات والليمون على أفق الممرّ. عرسٌ أقيم وجها لوجه من بيت أمينة. سيغنّي ابراهيم طاطليسيس عن أمينة بالتركيةِ من كاسيتات مسجّلاتٍ ضخمةٍ وضعت في اليانصيبِ بالقربِ من محطّة باصات الجمعيّة التعاونيّة. وينطلقُ باصٌ ويأتي باصٌ من القامشلي ويغنّي طاطليسيس نفس الأغنية بالتركيّة مرّة ثانية ومرّة خامسة. يصعدُ شاعرٌ إلى الباص، ينزل شعراء من القامشلي ليقيموا أمسية في المركز الثقافي في عامودا، ربّما يردّد الشّاعر الذي جاء من حلب بعض كلمات الأغنية مع طاطليسيس. يغنّي ابراهيم طاطليسيس في بريفا ويدوزن فنّان صاعدٌ أوتاره ليغنّي نفس الأغنية على وتيرتهِ التركيّة. الباصُ واقفٌ هناك أعطالٌ في جميع جسمهِ واليوم بالإضافةِ إلى ذلك يوم عطلة رسميّة. ذهبت مسجّلة اليانصيب وصارت من نصيبِ أحدهم وهكذا الحياةُ وأمينة أيضا. كان بالنسبةِ لي لأمينة حلاّن ولهما ثالثٌ. أن تبقى من نصيبِ هواءٍ ما، وهذا الهواء يبقى في مدينة عامودا، يهبّ حين تهبّ أغاني الأعراس في الحاراتِ النائيّة. أنْ تبقى على الممرّ الأصفر لمدرسة أبي العلاء المعرّي الثانويّة في مدينة عامودا، أن تبتسم لي تلك الابتسامة الوحيدة في الصفّ العاشر الإعداديّ، في الصّيف. تبقى أمينة بالقربِ من حنفيّة المدرسة، وتنتظر دورها أن تشرب الماء أو تعبّىء ابريقا ما، تبقى شجراتُ المدرسة، شجراتُ الصّنوبر، الكهلة والفتيّة وكلّها كانت فتيّة ولكن من بينها كان هناك أبناء وهناكَ أمّهات. مثل الغنم، شاة وخرفان في أرضِ المدرسة. أن تبقى أمينة بدون حلّ وذلك أن يوجد حلّ لمدرسة أبي العلاء المعرّي وذلك بأن تفتح جدران الحائطِ كلّها وتصبح أوّل مدرسة في سوريّا بدون أسوار وحيطان. ثمّ الحلّ أن أبتعد نهائيّا عن أمينة، أفعل الحلّ الأخير ولكن نفسي لا تفعله. الحلّ الأوربيّ لنفسي التي " تتأورب" شيئا فشيئا، هو أن تتزوّج أمينة من ابن خالتها. حلولٌ ليست بالسهلةِ كما ترون. سمعتُ صوتاً، بأذنيّ سمعته، وكنتُ قد هيّأتُ كياني لسماعهِ ولكن لم أكن أتوقع أن أسمع الصّوت فقط. كنتُ أقولُ بيني وبيني:" أن لا نرى الأشياء أفضل، أن نرى الأشياء ولكن علينا ألاّ نقع في حبّها، والحبّ تعلّق والتعلّق صعب. ذلك الشّارع الذي لا أعرفُ إلى أين يؤدّي، عليّ اجتنابه." عليّ أن أجتنب أمينة. ترتفع تلال موزا، هي تلالٌ عديدةٌ تقع إلى اليمين من الخطّ الذي يأخذه باص الجمعيّة التعاونيّة إلى القامشلي. ينبتُ الحرمل على التلّ بغزارةٍ وتنبتُ زهورٌ شديدة الدم هناك. أضع يدي أمام جبهتي لأرى بوضوح، هناك شيء يحجز عيوني أن ترى التلّ، أهو بخارٌ ما في الصّيف، أهي سحب مطر في الشتاء، أهي بسط من الأخضر في الربيع، أهي كلمات من الخريف غامضة الحدود تجعل منّي أعمى الألوان؟ لا أميّز بين بيتٍ وبيتٍ، بين كرمِ عنبٍ وعنكبوتٍ، لا أميّز بين حصّادةٍ وجرّارة. لا أعرف المسافة الأكيدة، حيثُ أقفُ هنا قبيل الرّبيع حيث أعتقدُ الوقت ربيعا، المسافة التي تفصلني عن الحرملِ والنبتة والخناجر التي أراها، هل صنعت هنا في الغبار. أحيانا أبقى وحيدا مع نفسي كأنني لم أقع في حبّ أمينة وكأنّني تمّ بتري بترا نهائيّا منها. أأرى بوضوح؟ ثمة أقلام عديدة كتبت عن حبّي لأمينة وكنتُ نائما وطفلا بعد. كتبوا أشياء عن مدينة عامودا وظنّوها منبت ذلك الحبّ، قالوا: " عامودا تلتفّ في صغر حجمها، خلف تلال موزا، لا يراها إلاّ من العشاق عاشق، لها جلد شبيه بالحجرِ البنيّ وهو حجرٌ يبرق على المسافة بين سطح من الوحل وسطح آخر". لا أرى بوضوح بالتأكيد، ولو رأيتُ بوضوح، لرأيت أمينة حقيقيّة بالرّغم من المسافةِ الشديدةِ بيننا، تراكم غبارُ تلال موزا على عينيّ بعد حياتي وبقايا شعر بنات آوى. والحرشف الذي غطّا شتاء خاصّا غطّاني أيضا ولو أنّ أصدقائي كانوا أيضا برفقتي. لا أرى تقريبا، بينما يلتفّ شريطُ كاسيت المسجّلة التفافا معقدا على نفسهِ ويخرج صوتُ حشرجةٍ مكتومة ومتألّمة هو صوتي الذي تسمعه أمينة في آخرِ أحلامها. أن تمشي أمينة في طرفٍ من الشّارعِ وأنا في طرفٍ آخر. هي لن تنظر إليّ وأنا سأنظرُ إليها دون أن تدري أنّ نظري يثقبُ الهواء. لها أخوة، لها أمّ وأب، لها أبناء عمّ، لها ابن خالٍ أو ابن خالةٍ يحبّها قبل أن أعرف. كانت لا تزال في الصفّ الّسادس وهو، ابن خالتها، وقع في حبّها. لم يكن يسكن في " عامودا" إنّما على الأغلب في محافظة "الحسكة". يركبُ الباص ويستمرّ الباصُ ساعتين، تدور الدّواليبُ، ويدورُ المحرّك القديم ذو الصدأ، أفكّر الآن- قلبي هو المحرّك الذي أتى بابن خالة أمينة من الحسكة إلى عامودا، تفكيري هكذا، بسبب حبّي لأمينة انطلق شعاعٌ كالشّمسِ وبسط قوّته علىابن الخالةِ، فتوجّه كما يتوجّه وجه الانسان إلى الضّوء، هكذا توجّه إلينا في عامودا. أقول إلينا، أقصدُ إليّ وإلى أمينة، أنا كنتُ، بسببٍ من الحبّ، المصدرُ. أنا المصدرُ، أنا المصدر. وإلى أمينة لأنّ أمينة سكنت في هذه المدينة البائسة. صفة البؤس تقصيرٌ في حقّ عامودا ولو أنّ أمينة نفسها كانت ستطلق هذه الصّفة علينا، أقصدُ، على عامودا، وعلينا لأنّنا الساكنون. وكانت القامشلي تلعبُ دورا أكبر، فأليس لمدينة القامشلي حديقة حقيقيّة، سيقول أهلُ عامودا:" لعامودا أيضا حديقة!" نعم، لعامودا حديقة كانت سينما ذاتَ يوم واحترقت واحترقَ أطفالها، فصعبٌ اطلاقُ اسم الحديقة على المحترقين من الأطفال.
31-12-2009 هانوف
08-أيار-2021
14-تشرين الثاني-2010 | |
23-حزيران-2010 | |
19-نيسان-2010 | |
05-نيسان-2010 | |
09-كانون الثاني-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |