دراسة في أربعة نصوص سردية
2007-10-05
عمر حمش: الأيديولوجيا، الراوي، الزمن، الدلالة
النص الأول (خيط القمر)
حوارية الأصوات
كل خطاب هو واقعة تاريخية ، متأثرة بعلاقات الدنيا. ونحن في نصوصنا ـ السردية والتاريخية ـ لا يمكن لنا ادعاء البراءة أبداً. فمهما ادعينا الموضوعية والرغبة في نقل الأحداث كما هي، فإننا لن نفلح؛ لأننا ـ بطبيعتنا البشرية ـ نسكن كلماتنا نوايانا ودوافعنا ونبراتنا الاجتماعية.
ولئن أمكن الادعاء بأن ما قلناه هنا مقبول، ولا يحتاج للاستدلال على صحته، على اعتبار أن الحياة هي التي أنتجته، إلا أن ما يجعل لهذه الكلمات اعتباراً، في حقل البحث النقدي، هو تركيز المدارس النقدية، في المراحل الأخيرة، على تلمس تأثيرات الأيديولوجيا في النصوص الأدبية، تلك التأثيرات التي يجد الدرس الأدبي نفسه اليوم مرغماً على إضاءة جوانبها المختلفة، في سبيل قراءة تستطيع إعادة إنتاج الدلالة، من منظور مختلف .
إن كاتب القصة يقوم عادة بنقل كلام الشخصيات، بطريقة نفعية، حتى لو لم يكن واعياً بذلك. إنه في نقله لكلام الآخرين ـ مثلنا نحن الشخصيات المدنية التاريخية الحية في خطابنا اليومي ـ لا يستطيع أن يظل متمتعاً بالأمانة المطلقة، نظراً لحقيقة أنه ينقله ضمن سياق متلبس بذاته.
وفي قصة عمر حمش القصيرة جداً (خيط القمر) عندما نتأمل في نقل الراوي لكلام الشخصية، سوف نجد أنه لم يتمكن من أن ينقله كما حدث في الواقع، بل إنه ربما لم يرد ذلك، حين أعاد تمثيل كلام الشخصية بالطريقة التالية:
"بيتنا في المخيم تحت القمر. والقمر تفاحة محروقة معلقة. خيط رفيع يربطنا به. نهتز، نهتز. القمر جميل، لكن لو انقطع بنا الخيط، سنهوي في الفراغ السحيق"(ص11).
هوذا عالم سحري يقيمه الراوي لنا وسط المخيم، المليء بالقاذورات والرعب والموت وغياب الرغبة. ونحن نعرف المخيم، ونعرف قمر المخيم، ونعرف كيف يمارس الناس الجنس في المخيم تحت الاحتلال. فلماذا يقوِّل الراوي الشخصيةَ كل هذا الكلام!. ألأنه يريد أن يبني لنا عالماً من عوالم ألف ليلة وليلة!. قطعاً ليس هذا هو السبب. بل يجب البحث عن السبب في دوافع الأيديولوجيا. فعمر حمش شخص يعيش تحت الاحتلال، ويريد أن يقاوم هذا الاحتلال بسلاحه الوحيد الذي يحسن استخدامه: الكلمات. ولأنه مدرك، منذ وقت بعيد، بأن الكلمات من هذا النوع تحتاج إلى من يحسن استخدامها، فلقد نراه يلجأ إلى القص بهذا الأسلوب الشعري، مستعيراً عيني طفل. ومن منا لا يحب رؤية الأشياء بعيني طفل!. والطفل يقول هنا بأن الاحتلال بغيض، إلى حد قيامه بإعادة إنشاء علاقات الكون، بطريقة تهدد الحياة برمتها. فالقمر الباعث للحياة مجرد تفاحة محروقة، والبشر المعلقون به مهددون بالسقوط في الهاوية. من الذي صنع هذه العلاقات المقلوبة؟. الاحتلال بلا شك. هذا هو ما تريد الأيديولوجيا أن تقوله لنا بين السطور.
وإذا ما استعرنا كلام باختين كان علينا أن نقول بأن عمر حمش ينشئ، مع كلام الواقع في المخيم، حواراً داخلياً ذا مستويين: الأول ظاهري يدفع فيه راويه إلى الظهور بمظهر الشخص الموضوعي المحايد، الذي ينقل كلام الشخصية كما وقع فعلاً. والمستوى الثاني مضمر ومشحون بالنوايا، مهمته محاورة المستوى الأول والتأثير عليه: فهو نفعي، لاموضوعي، يشي بأيديولوجيا المؤلف. ولنفحص المقطع التالي الذي يأتي بعد المقطع السابق مباشرة ودون حذف:
"جاورتني على الفراش، مشدودة معي إلى القمر. أراها يغادرها الشحوب، تغدو وردية، تفاحة يغزوها الاحتراق. أراها بنتاً للقمر، عروساً جاءتني من عالم الفضاء، محراباً يغريني أن أعبره. مشحون أنا في هذه الليلة، تتقدمني روحي نحو المحراب، أقترب، أرى القمر يبتهج، يربطه وتر رفيع يجذبنا. وأنا رحى تدور. الدوران فن يا قمر، يوحدني مع المحراب، يجعلنا نصول ونجول. فارس أنا يحرث بحصانه الصحراء، عازف يعامل آلاته مثل ساحر. وخيط القمر يزداد صلابة..."(ص11ـ12).
المستوى الأول ـ المفترض ـ من الكلام هنا، هو أسلوب يحاول إنشاء وصف موضوعي محايد، لما يحدث في الفراش بين زوجين، في المخيم، خلال الانتفاضة الأولى. أما المستوى الثاني من الكلام فهو الأهم، وهو موضوع البحث هنا، كونه لاموضوعي، يحاول التخفي تحت ادعاء الموضوعية. وهنا يمثل أمام عيني الكاتب الامتحان الأقسى، الذي سيقرر فيما إذا استطاع الكاتب إقناعنا بأن هذا قد حدث فعلاً ـ على الأقل في وعيه ـ أم أنه مجرد شخص يتلاعب بالكلمات كاذباً؟. إن قدرة الكاتب على إقناعنا، بشيء شبيه بهذا، هي التي سوف تغرينا على الدخول معه في لعبة قبول أعراف القص وإيهاماته.
إن ما جعل هذا كله مقبولاً هنا، هو أن عمر حمش لم يعمد إلى تنقية خطابه من نواياه الذاتية. وإن تلك النوايا هي التي أغرتنا بقبول الدخول معه في اللعبة، لنرى فارساً يصول ويجول، ويحرث أرضاً، وسط غرفة صغيرة في مخيم معزول ومقهور، لا تتجاوز مساحتها تسعة أمتار مربعة. بل إن هذا التناغم بين القمر والفارس ـ الذي يصول ويجول وسط عالم دونكيشوتي سوريالي ـ هو الذي أقنعنا أننا نرى الآن العالم بعيني طفل اسمه عمر حمش. وهل يفعل ذلك إلا عمر حمش أو دون كيشوت؟.
إن جزءاً هاماً من الخطاب المضمر هنا يريد أن يقول لنا: إن بمستطاع الفرد البسيط أن يواجه الاحتلال، بالتمرد على قوانينه. الاحتلال يذرع الشوارع، ويملأ القلوب بالذعر، ويشحن الفضاء بالحركة والضوضاء والعنف؛ أما الفلسطيني البسيط، فيدع كل هذا وراء ظهره، ويذهب ليمارس الجنس، بحميمية عبادية سماوية، تحيل الفراش إلى محراب، والجنس إلى صلاة. ألا نرى هنا فعل الأيديولوجيا وقد بدا واضحاً، من وراء الكلمات. ثم ألا نرى كيف تخلت الكلمات عن براءتها الظاهرية، وانشحنت بالنوايا والنبرات الزاعقة، حتى وهي تهمس بحميمية دافئة على فراش الزوجية!؟.
لقد تعمد عمر حمش تشويه نبرات الخطاب الاحتلالي، المتلفع بكل دعاوى القوة، وأظهره ضعيفاً عارياً لا يستطيع مواجهة الفعل الإنساني (اللامحدود) إلا بقوة السلاح المادي (المحدودة). فلنتأمل هذا المشهد:
"الليلة غافلناهم ودرنا، كأننا لسنا هنا. كأن المخيم بستان!. وهم، زالوا أو ماتوا. نحن في بستان، ويكفي. ندور مع القمر... في لحظة، انشد الخيط بعنف، وصرنا كمن يهوي. داست أقدام على السماء والأرض والجدران والهواء والماء واليابسة والسائلة!. أقدام انتشرت فوق رأسي وصدري وقدميّ... صرت مشدوداً من عنق رأسي، معلقاً، عارياً. كنت كما عملني الله... حملقوا عجبين في عريي، فأنا كنت أفعل ما يفعله الرجال. أنا اكتشاف... وقبل أن يقفلوا نصفي العلوي بكيس الخيش سرقت نظرة إلى السماء. كان القمر مذبوحاً ويهوي، والخيط معه يرمح مقطوعاً"(ص13ـ14).
فلنلاحظ التالي:
ذات مرة قام الراوي باستنساخ أقوال الآخرين، وذلك حين نقل لغتهم وشوهها ودمجها في كلامه، كما في قوله: "الليلة غافلناهم ودرنا". فالراوي يعلم في الواقع أنه لم يغافل المحتلين، لمجرد وجوده في البيت؛ بل هو يحكي كلامهم الداخلي، القاضي بأنهم مطلعون على كل شيء يدور في دواخل البيوت. ورغم ذلك ها هم يرون فارساًً، وسط هذا الخضم من الحركة والعنف والضوضاء، يمارس الجنس في بيته، كأي شخص عادي. وكأنهم غير موجودين هنا!. إذن فالراوي ينقل كلامهم ساخراً من منطق القوة.
وفي مرة أخرى، حكى مقولتهم المتعجبة من رؤية مشهد إنساني حقيقي: "أنا اكتشاف". ولعلنا نلاحظ هنا ما في هذا الحكاية من تشويه متعمد، يجرد الفعل الإنساني ـ في نظر المحتلين ـ من قيمته.
وفي مرة ثالثة، نقل جزءاً من فعلهم، وأخفى جزءاً آخر، بهدف التكثيف، حين قال: "وقبل أن يقفلوا نصفي العلوي بكيس الخيش سرقت نظرة إلى السماء". فنحن نعلم أنهم ـ في الغالب ـ سمحوا له بارتداء ملابسه. لكن هذا الارتداء لم يكن لذاته، بل بهدف تغطية رأسه ونقله إلى السجن، دون تمكينه من رؤية الطريق: حيث لا يعقل أن يغطوا رأسه ويتركوا جسده عارياً. ونحن نرى كم هي مرة هذه السخرية المكثفة، وكم هي وحشية، وهي تصور لنا الجنود غير مهتمين بتغطية عورة الإنسان، حتى وهم يقتادونه إلى العذاب.
ورغم ذلك، فلا بد من انتصار الفعل الإنساني، في نهاية المطاف. رغم كل ذلك، نرى كيف يستطيع الإنسان، وسط هذا الخضم من الوحشية، أن يسرق نظرة إلى السماء، فيرى الأشياء تتعاطف معه، وتقف إلى جانبه، وتسانده في وجه كل هذا القبح المتلفع بالقوة: "وقبل أن يقفلوا نصفي العلوي بكيس الخيش سرقت نظرة إلى السماء. كان القمر مذبوحاً ويهوي".
وبذا نكتشف أن موضوع
08-أيار-2021
06-آب-2016 | |
25-أيار-2015 | |
28-أيار-2014 | |
01-آذار-2013 | |
25-تموز-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |