فصل من رواية شجرة الكستناء
2007-11-20
الفصل الأول
كانت العربة الحديدية ممدودة ومسطحة, وتستقر فوق أربع عجلات صغيرة، لا يتجاوز قطر إحداها العشرين سنتيمتراً, وقد أكسبتها برودة الليل شيئاً من سفالتها, وأضفت عليها كثيراً من أسى ذكريات يوم مضى. العربة المستطيلة، التي لا تتعدى مساحتها مساحة فرش العجين (الذي يحمله الخباز على رأسه, في غزة, ويدور به فوق البسكليت بمهارة, بين السيارات المسرعة) تستقر الآن على أرضية الدكان الواسعة, في هذا الصباح الباكر, من هذا اليوم الصيفي الطويل.. لم يكفِ هذا اليوم أن يكون طويلاً, إلى جانب حرارته ورطوبته؛ بل كان على حكيمي أن يختصر بعضه، فيأتي قبل صياح الديك, ليدق الباب الحديدي, قبل أن تطأ أي قدم أخرى أرض سوق تل أبيب المركزي, فيصحو الأولاد بكسل شديد, يفركون النوم من عيونهم, ويتثاءبون متسارعين في هبوط السلم الخشبي, الذي يفصل السِدّة الخشبية المرتفعة, التي ينامون عليها في آخر الحانوت, عن الأرضية الواسعة تحت, والممتدة على مساحة لا تقل عن مئتي متر مربع, مكسوة بالبلاط الإسمنتي القاتم, وتستقر فوقه الآن صفوف متكاثرة من صناديق الفواكه والخضروات, موزعة على طول الجدارين المتوازيين الممتدين من الباب الحديدي, المطل على الرمبة(1), حتى الباب المقابل, في الخلف, تحت السدة, والمستخدم كمخرج خلفي, مهمته الأساسية التخلص من أكوام الصناديق المبيعة, وتفريغها في الشاحنات الواقفة على الرصيف المقابل, تمهيداً لنقلها, إلى الأماكن المختلفة في إسرائيل, إضافة إلى مهمات أخرى, لا يمكن اعتبارها أساسية, وإن كان لا يمكن الاستغناء عنها, مثل التخلص من النفايات, أو خروج العرب الذين ينامون فوق في ساعات الليل, للتنزه على شواطئ تل أبيب عموماً, وشارع بن يهودا على وجه الخصوص. ولا جرم, فالعرب يحبون شارع بن يهودا هذا, خصوصاً الأولاد الذين يقضون ساعات الليل، متجولين في الأزقة المجاورة, يعقدون صفقات تفصيلية مع بائعات الهوى, للترويح عن أنفسهم, ونسيان تعب يوم كامل.
لقد كانت هذه الصفقات تفصيلية فعلاً: إذ إن بائعات الهوى اليهوديات يردن إتمام الصفقة والعملية بسرعة, لا تتوافق في أغلب الأحيان ورغبة الولد العربي, الذي لم يمارس الجنس قبل ذلك, ويتخيله شيئاً أكثر حميمية، من مجرد ممارسة سريعة واقفة، في شارع مظلم, حتى لو أدى به الأمر إلى زيادة المبلغ المدفوع. ولكن اليهوديات كن يرفضن في غالب الأحوال, ويتشبثن بمواقفهن، مع كثير من الشتائم المقذعة, الأمر الذي لا يترك أمام الولد من خيار سوى القبول, وتناول الشطيرة دون مقبلات, قبل العودة وانتظار حكيمي, الذي ربما بدأ الآن مسيرته نحو الحانوت.
هبط كل من "حسين" و"وجيه". وظل "عدنان" نائماً. وإذ خشي حسين أن يدخل حكيمي ولا يراه قائماً, فقد صعد بسرعة, وتناول عصا المكنسة, وضرب عدنان على رمانة رجله, فوقف صارخاً يشتم أباه وأهله, ويلعن سنسفيل أجداده (وأشياء أخرى ليس وقت سيرتها الآن) قبل أن ينقض عليه, محاولاً رد كيده إلى نحره.. لكن حسين كان قد قفز وصار الآن تحت.. وما لبث عدنان أن وصل وصمت، كأن شيئاً لم يكن, وبراءة الأطفال في عينيه, خصوصاً بعد أن ذكّره حسين بأنه هو الذي اقترح عليه هذه الطريقة في الإيقاظ. ودخل حكيمي:
بوكرتوڤ, حڤري(2).
بوكرتوڤ, أدون حكيمي(3).
وبدأ الأولاد يحمّلون الصناديق على العربات, وجرها, تمهيداً لتنزيلها على جانبي الباب, فوق الرصيف.
العربة الباردة، لم تكن يوم أمس كذلك؛ فقد أدت مهمات متعددة, كما كانت سبباً في أحداث كبيرة، شهدها رصيف رقم2, بل سوق تل أبيب المركزي كله, والحانوت رقم7 على وجه الخصوص, الذي يشتغل فيه الأولاد في كل المهمات. كان "أمنون بن موشي" قد أكل علقة، لم يحلم بشيء منها، منذ صار يافعاً, ودخل ليعمل في السبّلوت(4)، في حماية إخوانه الأحد عشر: أولاد موشي, الذين كان اسمهم كافياً لإلقاء الرعب في قلوب العاملين في السوق.. ويا عيني عليك إذا كنت عربياً هنا (كأنه لم يكفك أن تكون عربياً بين اليهود, حتى جئت لتعمل هنا, في أقرب أمكنة العالم المشروع، وأدناها، إلى العالم السفلي!) إذن فلسوف ترى أولاد موشي المعربدين, وإلى جانبهم الإخوة العراقيين السبعة, وكبيرهم ذا اليد المقطوعة، الذي ضرب ذات مرة, بيده الأخرى, شخصاً بقطعة الخمسة كيلوجرامات في رأسه, ثم لم تأت شرطة ولا ما يحزنون!. أين ذهبت يده المقطوعة؟. الله وحده يعلم!. لكن الوقائع كلها تشير إلى أن هذا لم يحصل هكذا من الله مرة واحدة.. إذ لا يمكن أن يكون "جاسم" قد نام كاملاً ذات ليلة, ثم صحا ووجد يده مفقودة, فقال: باروخ هشّيم(5), ثم جاء إلى السوق ليبيع الخضار, ويرفع, بيده السليمة بنطلونه بين الفينة والأخرى!.
علقة أمنون بن موشي, التي عملها له حسين بالأمس, مرت بسلام أخيراً, وذهبت أدراج الرياح كل تخوفات حكيمي وأدون مزراحي والشركاء الآخرين. وصار حسين الآن شخصاً يُنظر إليه باحترام بين الجميع.. ولو كان عدنان موجوداً بالأمس، لفزع لصديقه حسين, ولما هرب كما فعل وجيه (لأنه صاحب شهامة, رغم أنه كسول يغط في النوم ولا يقوم إلا بالعصا, إضافة إلى أنه كان قد تلقى المساعدة قبل ذلك, من حسين أيام كان يعمل في شخونات هتكڤا)، لكنه كان متغيباً, وجاء في آخر النهار, بعد أن طابت البلاد، واستتب الأمن؛ فصار ينفخ مثل حنش, ويأكل في صندوق التفاح، كما لو أنه هو المذنب. وأدون مزراحي يراقبه بغيظ، ويقول:
كتسات رحمنوت حبيبي(6).
لا بأس.. فلقد حدث ما حدث. وأكل أمنون بن موشي العلقة, بعد أن تسبب بها لنفسه.. في الحقيقة, فإن حسين لم يكن حريصاً على هذه المعركة, فهو لم يفكر مرة واحدة في تحدي أولاد موشي. لكن أمنون كان هو الذي اعترض طريق وجيه, وهو ذاهب لتحميل الصناديق، التي اشتراها حكيمي من حانوت رقم30, في آخر السوق. أو بالأحرى: فإن أمنون اعترض طريق العربة الفارغة, واختطفها من يد وجيه, ثم ذهب كأن شيئاً لم يكن, وكأن من حقه أن ينتزع من الناس هنا أشياءهم ثم يذهب ولا يكلمه أحد..صحيح أن من انتُزعت من يده العربة كان هو وجيه, لكن حسين كان يرافقها، للمساعدة في التحميل والإسناد, فلماذا لم يحسب أمنون حساب شخصين كاملين, واستهتر بكل منهما, كأن على رأسه ريشة!.. لقد كان مثل هذا الفعل جديداً على حسين, ولما يتعود عليه, رغم أن له الآن في السوق ما يزيد على السنتين.
ورغم أن مثل هذا يحدث في السوق يومياً, إلا أن حسين لم يكن بمستطيع أن يتقبل هذا الحدث، كما هو، ودون تعليق. لذا فلم يجد نفسه إلا وهو ينتزع مقبض العربة من أمنون بالقوة. إلى هنا, وكان من الممكن أن يمر الأمر بسلام؛ فما زال حسين لا يرغب في المعركة, خصوصاً وقد اختفى وجيه، مثل فصّ ملح ذاب.. لقد أخذ حسين العربة ثم مضى, رغم أن أذنيه كانتا محمرتين كاللهب. لكن أمنون بن موشي, الذي لم يتعود مثل هذا الرد من أحد ـ خصوصاً من العرب ـ قام بالهجوم على حسين بسرعة, وكال له ضربة قوية في الوجه, ولولا رحمة، الله لما استطاع حسين أن يتفاداها. لكن رحمة الله (التي يؤمن بها حسين ثم لا يعمل بمقتضاها) تدخلت في اللحظة الأخيرة, فأزاح رأسه. وذهبت الضربة في الهواء، بقدرة قادر. لكن حسين كان قد اشتعل الآن بالجنون, وصار يكيل الضربات لأمنون بن موشي. والسوق كله واقف يتفرج: اليهود يشجعون أمنون, والعرب يراقبون برجاء خائف.. ولكن التشجيع وحده لم يكن كافياً، لكي ينتصر أمنون بن موشي, بل إن هذا التشجيع ربما أحدث مع حسين أثراً معاكساً, إذ أثار نقمته أكثر, وجعل ضرباته أكثر قوة وتسديداً.. ثم ذهب يجر عربته إلى الحانوت, ولم ينس أن يحملها بالصناديق المقررة من حانوت رقم30.
كل هذا حدث, مع حسين, في ساعات الصباح. ثم انتهى الأمر به إلى العودة إلى عمله الروتيني بسلام, مع أن عيون كل من أدون مزراحي وحكيمي والشركاء كانت ترمقه عن كثب. واستمر اليوم هكذا, إلى أن جاءت ساعات العصر, وجاء أولاد موشي.. الآن جاء أكبرهم "نسيم". ونسيم هذا طويل القامة, عريض الكتفين, قوي الذراعين, شديد السفالة وقلة الحياء (باختصار, كان يشبه البغل في كل شيء, باستثناء الشعيرات الناعمة التي تغطي وجهه الأبيض الجميل)، ويضرب الناس بمجرد مروره أمامهم في السوق. ولم يكن يفرق، في توزيع سفالاته، بين العرب واليهود؛ مع ملاحظة أنه كان يستثني أصحاب الحوانيت وكبار التجار, لعلاقة المصلحة المحفوظة بين الطرفين, وربما لأنهم يدفعون الخاوة.
على العموم, جاء نسيم، وجاء معه أربعة من أولاد موشي.. كان يمشي مختالاً بين فرسان لم يخرجوا من صفوف النبلاء, وإذن فلا مانع لديهم من استخدام مختلف أنواع الأسلحة, في سبيل الانتصار على الخصم.. حسين كان يعرف هذا, ليس مما سمعه من الناس, بل من وجوههم وتعابيرها والشر البادي على سحناتهم.. وهو، طبعاً، كان قد استعد نفسياً ومادياً لمواجهة مثل هذا الموقف.. لكن كيف استطاع أن يستعد ويقرر المواجهة, مع كل هذه المعطيات غير المشجعة!. هذا ما لا يعرفه أحد سوى الله؛ لأن حسين نفسه لا يعرف كيف. فقط, هو كان يعرف أنه الآن محاصر باليهود, وكلهم طامع في كرامته, وكلهم يتحرق شوقاً إلى رؤيته ينال علقة، وسط سوق تل أبيب المركزي, تكون عبرة لأمثاله, وتعطي المبرر لأصحاب الحوانيت، لإقناع أنفسهم بأنهم يدفعون الخاوة للعنوان الصحيح.. إضافة إلى أن هذه الجماعة يهودية, من دولة انتصرت على ثلاث عشرة دولة عربية في ستة أيام, وهذا المتحدي مجرد عرڤي ملخلاخ من عزة(7), يعمل في تل أبيب.
أنا الأعمى ما باشوف, وأنا ضرّاب السيوف.. هكذا قرر حسين أن يكون. و"وين ما تيجي, تيجي": فكلهم سيهجم, وكلهم سيضرب. وهو في آخر المطاف لن يخرج حياً. فلماذا لا يموت بشرف!. ولماذا لا يقتل أكبر عدد ممكن من هؤلاء الأشرار؟. حتى حكيمي الآن يظهر العداوة له, وهو الذي طالما لبس جلد الحمل. (لا يجب الظن بأنك في مأمن عند هؤلاء اليهود, والمثل يقول: كل عند اليهودي, ونم عند النصراني).. اثنا عشر أخاً, يحضر الآن منهم أربعة, ومن يدري, فربما يزيدون كل لحظة مع بدء المعركة.. خسرانة.. خسرانة.. فاضرب كيفما اتُفق وحيثما كان, ومت رجلاً يا ولد...
هلو؟.. أتا شي هلختا مكوت عم أحي أمنون(8) ؟. قال نسيم وقد وقف الآن على باب الحانوت.
لو ـ رد حسين بقوة وبصوت مرتجف من شدة الانفعال ـ أني شي هربتستي لُه, ڤهو لو يخال لعسوت كلوم(9) .
أتا هربتستا لأمنون!.. توڤ.. تعزوڤ إت زي..عخشاڤ عليخا لهشليم حميش ليروت, بمكوم هحولتساه شي كرعتا لُه(10).
تستليك من كان, شي لو يكري لخا كمو شي كرا لأحيخا همتمتام(11).
لقد كان حسين يائساً من النجاة فعلاً. وعندما سمع هذا الطلب الغريب, لم يفسره إلا بأن نسيم يطلب منه خاوة، أمام كل هؤلاء, ثم بعد ذلك يضربه.. لذا فقد قرر أن يحسم الأمر الآن، مرة واحدة، وإلى الأبد.. لن يدفع خمس ليرات، مقابل القميص المقطع لأمنون, ولن يدع نسيم يخرج بماء وجهه أمام هؤلاء.. لكن نسيم ـ لشدة اندهاش الحاضرين ـ قرر أن يعطي هذا العربي الغبي فرصة أخرى.
تشماع.. تحشوڤ إت هعنيان توڤ, ڤتعني لي أحار كاخ .. أني أحزور بعود شعاه، أحري شي هعڤوداه ترچاع كتسات(12).
وانسحب نسيم. وهجم اليهود على حسين، يحاولون إقناعه بدفع هذه الليرات الخمس, دون جدوى.. حتى أدون مزراحي الملياردير بذل مساعيه الطيبة في هذا المجال.. وفي الحقيقة فقد كان حسين مقتنعاً بأن أدون مزراحي لم يكن يخشى على رأس عربيه, بل على صناديق الفواكه المنتشرة على أرضية الحانوت.. لكن طبيعته, كيهودي فارسي, لم تسمح له بدفع هذا المبلغ من كيسه, ومن وراء ظهر هذا العربي الوسخ, حتى تنتهي المشكلة. لذا فقد كان على نسيم أن يعود.
أسرع حسين بارتقاء السلم نحو السدة, واستخرج موس الكباس من بين حاجياته, ثم دسه في حزامه، قبل أن يرخي عليه القميص فوق البنطلون, ثم أحضر خشبة الزان الطويلة، التي يضعونها تحت مشطاح الفواكه, وأوقفها في الزاوية تحت عينيه. كان مقرراًً استخدام الموس في طعن كل من سيقترب منه, كائناً من كان: فلا صديق هنا وسط كل هؤلاء المبدين للعداوة. أما خشبة الزان, فلمن لا يطوله الموس.. ثم وقف ينتظر, متشاغلاً بقليل من العمل.
حضر نسيم مرة أخرى، ومعه تظاهرة من فتيان اليهود, الذين لا يعرف حسين أغلبهم. وبعد أن وضع يديه على خاصرتيه باستكبار مصطنع, قال من بين أسنانه:
ها.. أتا مشليم؟(13).
تقنفذ حسين حول نفسه، ثم ألقى نظرة خاطفة على عصا الزان، الواقفة في الانتظار. ولما قدر أنه يستطيع تناولها، بحركة خاطفة إذا لزم الأمر, رد بهدوء تام:
ليخ لعززيل(14).
هكذا.. كلمتان فقط.. ثم أطبق فكيه على أسنانه, وزم شفتيه, وصار ينكش بقدمه بلاط الحانوت, مثل حمار قبرصي تملكته نوبة من العناد. وقد تذكر الآن كيف كانت أمه تأكله بأسنانها، ليعلن توبته عن معاندتها, فلا يفعل.
أتا يوديع ما أني يخول لعسوت لخا؟(15). قال نسيم باستغراب شديد, بعد أن قاس العربي، من رأسه الغبي حتى قدميه, بازدراء مصطنع.
أتا يخول راك لهتكوفيف, شي أني يزيين أتخا بتّاحت(16). قال حسين مركزاً على نبرات الحروف, وفاصلاً بين كل كلمة والتي تليها, وقد بدأت ترتفع وتيرة لهاثه الداخلي, الذي كان قد نجح حتى الآن في كتمانه.
ما أتا أومير!!. صرخ نسيم بصوت مندهش, وهو يتلفت حوله, ليرى أثر هذا التحدي في عيون المتفرجين ـ أحاد كموخا أومير لي إت زي(17)!!..
إم همتساڤ لو متسي حين بعينيخا, آز تنسّي لعڤور إت هپلاتوت هأربع هئيللي ـ قال حسين ذلك، ورسم بعينيه سهماً يحدد البلاطة الأخيرة, التي قرر أن لا يسمح لنسيم بتخطيها ـ نو!. عسيتي لخا كاڤ أدووم. هإم توخال لعڤور اوتو؟(18).
وكان يمط المقاطع بسخرية يهودية معتادة.
ولو دخل نسيم, تلك اللحظة, لمات.. عرف ذلك حسين, وعرف ذلك نسيم من عيني حسين. ولكن التظاهرة التي حول نسيم لم تعرف. لذا فقد ارتفع صوتها:
تكنيس.. نو..(19)
كانت أصوات ضجة الحركة, في الأرصفة الأخرى, تأتي من بعيد, كأنها قادمة من عوالم أخرى. أما رصيف رقم2 فقد بدا للجميع, في تلك اللحظة, متوقفا عن الحركة تماماً.. كل المارة توقفوا في أماكنهم. ومن استطاع منهم أن يتجمهر هنا لرؤية ما يحدث, فقد فعل. أما أصحاب الحوانيت فقد وقفوا أمام حوانيتهم, وقد توقفت حركة البيع والشراء.. كيف توقف الدلالون المتبقون من آخر النهار, عن المناداة! . وكيف توقف العتالون عن جر العربات!. كيف جرى كل ذلك مرة واحدة؟. الله أعلم!. ولكن ربما كان أولاد موشي قد أشاعوا, على طول الرصيف, أن اليوم هو يومهم, وأنهم بصدد إجراء ملحمة كبرى, وأن من لا يريد أن يشتري فليتفرج.. لم يكن هناك من تفسير آخر.. لكن كل هؤلاء الآن صاروا يتفرجون على نسيم وأولاد موشي, لا على العرڤي الملخلاخ, الذي يقف الآن مثل قط محاصر, في مقدمة حانوت الپارتسي الكمتسان(20).
كان منظر حسين، في تلك اللحظة، يصيب كل من ينظر إليه بالقشعريرة: صبي لا تكاد تعطيه تسعة عشر عاماً, ذو رأس كبيرة، تظهر ندوبها المتكاثرة، من بين الشعيرات القصيرة المحلوقة على نمرة4. صحيح أن قسمات وجهه فيها شيء من التناسق, إلا أن عينيه الصغيرتين المصرورتين الآن ـ وتشيان بعنف مكبوت, يشبه مدفعاً محشواً آن أوان إطلاقه ـ دمرتا هذا التناسق تماما. ورغم أنه متوسط القامة, إلا أن اتساع ما بين منكبيه أعطى انطباعاً بأنه شديد القصر, مثل جذع شجرة متوحدة، تحوطها الرياح من كل النواحي، ثم لا تتزحزح.
"إسرائيل كوهين": اليهودي الحلبي، صاحب الحانوت المجاور, الذي يغني دائما: "يا وابور قل لي رايح على فين", حدق في حسين بحنق شديد, عندما سمع هذا الكلام, لأنه كان يعرف أن المعركة، فيما لو حدثت, فسوف تتسبب بخسائر بالغة في البضاعة, لن تنحصر في حانوت أدون مزراحي, بل ستتعداه إلى الحوانيت المجاورة, دون أمل في أي تعويض. لذا فقد أسرع إلى القبض على معصم عربيه الخاص(21), بكثير من الفزع, وهو يجره من يده إلى دكانه المجاور, ثم يغلق الشبك الحديدي، الذي يقوم مقام الباب, في مثل هذه الحالات, وهو يقول:
تعال يا حبيبي.. سكّر باب الحانوت، وابعد عن وجع الراس.. أربط أصبعك مليح, لا بيدمي ولا بيقيح.. صاحبك حسين هذا جاي هون يعمل عڤريان(22).
وصرخت الأصوات المتكاثرة خلف نسيم:
تهروس أوتو.. ما أتا مِحكي!؟(23).
اش... شيكت(24).
صرخ فيهم نسيم، كأنه يفرغ خوفه غضباً على رؤوسهم. ثم وقف ملياً يفكر.. ووقف حسين ينتظر.. ووقف الشركاء متحيرين.. كان الجميع مدركين أن مدة الانتظار يجب ألا تطول؛ فلو طالت، لوجب على حسين أن يفعل شيئاً, فقد سبق له أن أمر نسيم بالانصراف. ولأن قميص هذا العربي منسدل على بنطلونه، بصورة مريبة, فقد امتعض نسيم واشتبه في الأمر. وبعد تفكير، قرر أن يرجع من حيث أتى. فرجع. ولم يعد بعدها أبداً.. وذهب أمنون بالعلقة.. وذهب حسين بالبطولة.. وانكمد أدون مزراحي الكمتسان وشركاه.. وجاء حكيمي مهنئاً:
ها.. ها..! هيوم يدعتي شي أتا چيبور.. أتا يوديع إت مي إيللي؟!(25).
كين. فأني موخان لهربيتس لكولام, كان(26).
تهيي بري حبيبي.. تهيي بري(27).
أمسك حسين بقبضة العربة, وجرها خارجاً, ليطوف بالرصيف من أوله إلى آخره, وأولاد موشي ينظرون. وصرخ صوت حكيمي مبدداً كل ما جرى:
تعمدو بتور حڤري..ييش لانو تپوح چولان مسپيك لكولام(28).
كان سوق تل أبيب المركزي يقع في شارع هحشمونائيم، المتفرع يساراً من الطريق المتجهة إلى رمات چان، في مواجهة مبنى صحيفة "معاريڤ" العالي المعروف. ولو قُدر لسالك هذه الطريق أن يتجه نحو اليمين, بدلاً من اليسار, فلسوف يجد نفسه وسط منطقة تجارية، تصطف فيها دكاكين الأدوات الزراعية والصناعية والآلات المختلفة, تمهيداً لولوج منطقة العالم السفلي الأشهر في إسرائيل: شخونات هتكڤا. أما شارع هحشمونائيم, فسوف يبدأ بمعاريڤ, ثم السوق المركزي, ليمتد بعد ذلك إلى حي يبدأ في الرقي، شيئاً فشيئاً، حتى يصل إلى رمات أڤيڤ: ضاحية تل أبيب الشمالية، الأجمل، والأرقى، والأجدر بسكنى الأغنياء.
كان الأولاد يسافرون من غزة إلى تل أبيب بانتظام, في بداية الأسبوع اليهودي, قبل انتهاء السبت.. والسبت لا ينتهي إلا مساءً, بعد ظهور نجم في السماء، يقارب موعده صلاة العشاء عند العرب, حيث يتوجب على الأولاد أن يكونوا في أول شارع القدس, الذي يتخلل يافا الجديدة, قبيل الوصول إلى موقف "أبو رجب"، في يافا العربية القديمة, منتظرين وصول الحافلة التي تقلهم إلى التحناه مركزيت(29) بتل أبيب, التي تكون في تلك الساعة قد امتلأت بالضجيج وأصوات الباعة، ونداءات المتسولين (المتصنعين للعمى، ويهزون أيديهم بعلب معدنية فيها القليل من القطع النقدية)، وكاسيتات زوهر(30) وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ؛ فيما يشعر الأولاد بأنس غريب, قبل أن يميل بعضهم نحو بائع الشاورما، فيحشو لهم شطائر يلتهمونها بسرعة, ثم يتلمظون بشوق مطالب بالمزيد.. ولا جرم؛ فالشاورما, في تلك السنوات المبكرة من بداية السبعينيات, لم تكن قد دخلت غزة بعد.. لقد كانوا هناك يتعاملون مع الكباب. ولكن الكباب شيء, والشاورما شيء آخر.
أول مرة, أكل فيها حسين الكباب, كانت أيام المصريين, إذ كان يسمع بالكباب ولا يراه؛ حتى التقطت يده ذات يوم ثلاثين قرشاً, بعد يوم عمل شاق من حمل أكياس السماد وتفريغها تحت الأشجار.. ثلاثون قرشاً لن تتكرر, تلتها رحلة إلى سينما النصر, ثم خمسة أسياخ كباب ساخن يقطر دهناً.. في الحقيقة, لم يكن حسين يعرف أن هذا هو الكباب شخصياً, لكن شيئاً في داخله كان يخبره بهذا.. كان البائع قد نصب موقده على رصيف الشارع، الصاعد من جانب مبنى البلدية, ممسكاً بيده قطعة كرتون، يهش بها على أسياخ اللحمة المصفوفة, فيتصاعد دخان لا ألذّ ولا أشهى!.. لم يشم حسين طوال حياته مثل هذه الرائحة. ولم يكن حتى تلك اللحظة قد أكل طعاماً على هذا المستوى.. لكنه مع ذلك, خشي أن يسأل البائع المديني عن اسم هذا الطعام الذي يبيعه, فيتصور أنه بصدد التعامل مع فقير من أبناء المخيم.. والمخيم في تلك الأيام شيء يتسبب بالعار. لذا فلم يعرف حسين أن ما أكله هو الكباب, إلا بعد أن سأل بطريقة مواربة ابن الجيران, الذي كان أبوه يشتغل مع الدوليين ويحضر لهم الكباب في أحيان متباعدة, فأفاده بأن هذا هو الكباب بالفعل.
ذلك كان الكباب, وهذه الآن هي الشاورما.. وإن لبين الكباب و الشاورما لأوجه شبه وأوجه اختلاف: أما الشبه، فراجع إلى أن كليهما مصنوع من اللحم المشوي, وأما الخلاف فسببه أن لحمة الكباب هي من العجل, في حين أن لحمة الشاورما هي من الحبش الأبيض الكبير.. وهذا النوع من الحبش, في ذلك الحين, لم يكن قد دخل غزة هو الآخر. وعندما يدخل, فلسوف يكتشف الأولاد أنه حبش عاقل وهادئ, مثل الدجاج تماماً, لا يثور ولا يرغي عندما يقال له:
ديك الحبش, لما انتفش, قال: بربط, بربط, مالطي...
عند التحناه مركزيت, إما أن يركب الأولاد الحافلة المتجهة شرقاً إلى طريق رمات چان, لينزلوا عند مبنى معاريڤ, وإما أن يواصلوا باقي الطريق مشياً على الأقدام, حيث المسافة لا تزيد على ثلاثة كيلومترات, في مدينة بدأت تصحو من جديد, متهيئة لالتهام كل ما يصل إليها من الأطراف.. لكننا لا يمكن أن ننكر كذلك، أن هناك صنفاً آخر منهم، ظل يفضل المبادرة بالاتجاه غرباً، لينحرف بعد بضع عشرات من الأمتار، إلى شيء اسمه "الشيطح"، فيقضي حاجة له هناك لم يعرفها يعقوب، قبل أن يعاود السعي نحو الشرق، حيث العمل الممل في سوق تل أبيب المركزي. والشيطح في العبرية كلمة تعني: المنطقة, أو المكان الذي في الغالب هو فضاء فيه شيء من الاتساع. فلماذا كان الشيطح شيطحاً؟!. ولأي شيء كان هذا الشيطح يفتح فضاءه؟!.
الشبان والشابات عندما يلهون فإنهم يتجهون إلى البحر, أو إلى السينما, أو إلى المراقص المنتشرة. أما الشيطح هذا، فقد كان مكان تجمع عجائز تل أبيب، الممحونين شذوذاً, الذين كانوا يجدون من يركبهم، عندما كانوا شباناً. ثم التهمتهم الوحدة، وأمضهم الشوق، عندما صاروا عجائز؛ لذا فقد صاروا يتوجهون نحو الشيطح, بحثاً عن أولاد العرب.. ويا عيني على أولاد العرب, الذين يلتهمهم عجائز تل أبيب بقليل الليرات!.. وكم من ولد حضر إلى تل أبيب, ثم لم يوفق في العمل, فذهب إلى الشيطح, وأخذه عجوز في سيارته إلى شقة خالية, وامتص سائله المنوي بفمه, ثم أعطاه بضع ليرات، قبل أن يفترقا على موعد جديد.
حسين لم يكن يعرف هذا المكان, قبل أن يحدثه عنه وجيه. وكان حريّاً به أن يذهب معه (خصوصاً وأن ما من شيء سيردعه: لا دين ولا عيب. فالأولاد, كما هو معروف, يؤجلون تدينهم إلى مراحل متأخرة من العمر. أما العيب, فكيف يخشونه, ولا أحد يراهم ممن يعرفهم هنا؟!. ولو رآهم, فإنه لن يكون إلا من أمثالهم)، لكن الذي منع حسين من الذهاب إلى الشيطح، مع وجيه, كان هو ما رآه من اصفرار وجهه المتزايد, وضعف بنيته, ولهاثه المتقطع عندما يسحب العربة, الأمر الذي أرجعه إلى الاستنفاد المتزايد, الذي يمارسه شيوخ تل أبيب على رحيقه.. وحسين، المعجب بالبطولة والقوة، لم يكن يحب أن يمتص رحيقه أحد؛ خصوصاً وأن طريقة سحب الرحيق ـ كما وصفها وجيه ـ هي طريقة شديدة القوة, فيما يشبه مضخة شفاط تسحب الرحيق من أساس الظهر, حتى يكاد الولد أن يقع من قوة السحب.. فكيف بعد ذلك سوف يستطيع أن يسحب العربة, أو أن يضرب المعتدين عليه، على طريقة فريد شوقي؟!.
وإذا كان الشيطح مكاناً يشتد منه الخوف, فإن هناك أمكنة أخرى على عكسه تماماً, ويشتد إليها الشوق.. و"بن يهودا", كان أحد هذه الأمكنة: حي مطل على البحر مباشرة, مما يلي الشيطح، رغم أن مهمته كانت أحب إلى الأولاد، حيث بإمكانهم أن يحوموا على الشاطئ, مثل حيوانات ضالة, تراقب هذه الأجساد المتلألئة العارية, بعيون جاحظة، وألسنة جافة يشتد بها الحريق.. أيام السبت, التي كان بعض الأولاد يفضلون قضاءها في تل أبيب, كانت أياماً مشهودة؛ حيث تستلقي اليهوديات، على الشاطئ، تحت الشمس، بلباس البحر ذي القطعة الواحدة (بل إن بعضهن يتخففن منه أحياناً) فيُجن الأولاد. وإذ تفضحهم انتفاخات ما بين أرجلهم, فلقد لا يجدون لأنفسهم طريقة أفضل من الاستلقاء على الوجوه فوق الرمل, لإخفاء ما يمكن إخفاؤه (بل ربما اضطر بعضهم إلى تلاوة بعض آيات القرءان، بهدف طرد الشيطان مؤقتاً. لكن أغلبهم سوف يظل متردداً، في ممارسة تلاوة كهذه، من الممكن لها القضاء على كل أمل باحتمال إنشاء علاقة؛ والاكتفاء بفعل ما هو مسموح.. ومن كان يستطيع هنا، على هذا الشاطئ، في مقابل هذه الأجساد الشهية، أن يبذل كل هذه التضحية، ويتنازل عن كل هذه الأحلام!)، ريثما يعاودون المشي والبحلقة والتنهدات, إلى أن يحل الليل, فيتجهون إلى الشوارع المجاورة، لمفاصلة بنات الهوى, وقضاء لحظة من المتعة, قبل أن يعودوا إلى شقاء أسبوع جديد.
لحظة من المتعة دون رأس (فقد ظل الرأس والصدر والأفخاذ هنالك على الشاطئ. ولم يعد هنا, في هذه المسالك الليلية في حي بن يهودا الآن, إلا مؤخرات لوجوه تخفيها ظلمة الشارع).. تتحرك المؤخرات بسرعة في سبيل استنفاد اللحظة, بينما الرؤوس هناك في الظلام تشتم .. نسوةٌ تتسارع الشتائم على ألسنتهن, وفق قاموسٍ لا يتقنُ مثلَه غيرُهنّ. وأولادٌ ينفثون غيظهم وبؤسهم دماً, متمنين لو أنهم لم يُخلقوا من الأصل, أو لو أنهم لم يعرفوا هذا العالم, الذي تتحول فيه أجمل العلاقات, إلى تجارةٍ وشتائمَ وروائحِ منيٍّ يختلط بعضه ببعض, قبل أن تبوله يهوديةٌ مغربيةٌ, بعدد من زجاجات البيرة, وهي تقول:
لاما أتا مزيين كمو كيلڤ؟!. كول كاخ لوكيح لخا لچمور؟!(31).
08-أيار-2021
06-آب-2016 | |
25-أيار-2015 | |
28-أيار-2014 | |
01-آذار-2013 | |
25-تموز-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |