منتخبات من قصائد البولندي زبيجنيف هيربرت ــ تقديم و ترجمة
2007-12-24
بمناسبة ذكرى رحيله
بعد الحقبة الرومنسية التي أسس لها في بولندا شاعرها الوطني آدم ميسكيفيتش ، لم يعد بوسع المعجم أن يقدم للصورة المفردات الصحيحة.
لقد توجب على الشاعر أن يبحث عن مفرداته الخاصة إما في تجاربه الشخصية ( كما فعل زيسلاف ميوش و آدم زاغيفيسكي ) ، أو في حدائق البيت الملتهب بنار تصهر الحدود المفروضة بالرقابة ، و لكن الملتزم بقوانين و فروض الطاعة لما هو عبثي من ناحية الوجود. و أقصد بذلك مفهوم هايدجر عن الأنفاق الذهنية للتجربة في الواقع ، و ليس الأبعاد العقلية لهذه التجربة. و بالأخص فيما يتعلق بقضايا أصيلة مثل العار ، و الانتباه ، و الغثيان ، أو باختصار كل ما يتحول من مضمار التصورات إلى نطاق الصورة ذاتها ( و هنا يمكن لنا أن نتذكر فيسوافا شيمبورسكا وزربيجنيف هيربيرت و قافلة أخرى ممن تعاملوا مع الشقاء العالمي من خلال التأمل و الحدس و تجربة الموضوع ).
لقد كان هؤلاء منشدين يرتلون معاناتهم مع الفوضى المفروضة على عناصر الطبيعة ، و على المقومات التي تحول الإنسان إلى رمز بورنوغرافي في سياق أخلاق صارمة.
إن المشهد الشعري في بولندا ، و كما هي ظروف الحضارة السلافية في الهزيع الأخير من القرن العشرين ، كان سريا و مؤبدا ، و لكن دون بوابة سوريالية إلى فردوس النار.. ذلك اللهيب الأسود ، الذكرى النهائية لكل ما يحترق من زاوية المصير. و الإحالة هنا ضمنا إلى الرماد ، العتبة الأخيرة للصورة ، و هي تنهض من كبوتها ، و من إستيطاقاها لتؤسس لعالم نسميه فلسفيا ( مع هيغل ) بالروح ، مع أنه جدلا و بلغة العهد القديم هو المياه الكونية ، أو طوفان الغمر الذي خرج منه العماء.
لقد اضطر الشاعر البولندي في هذا الشأن إلى التصالح مع ذاته. و كان ساديا ( كما يقتضي المنطق ) تجاه اللغة، تدميريا ، و مجرما. و لم لا نقول إنه كان وبائيا.
و هكذا استطاع أن ينام على وسادة من الغرائز المتوحشة و غير المعرّفة ( أحيانا ).
لقد توزعت المعاني ، و الحال كذلك ، بين نوع من أحجيات لوجود غامض ، نحن بحاجة إلى حنكة العرافات للتنبؤ بالاتجاه الذي سوف يسير إليه ، و بالأخص أنه وجود نوعي ، و من غير معطيات جدلية. بمعنى أنه يتحقق بذاته ، أو أنه يحتل مرتبة أداة التكوين في نطاق أبدي من التفكير.
ثم نمط عقائدي ، يربط دائما بين التجربة الوجودية للذات في العالم و قوانين الضرورة. و هذه هي الإشارة المحتّمة إلى فروض المجتمع و الدولة. و هو النمط التطهري الذي أضاف إلى معطيات الواقع المتعثر ، الجريح و المتألم ، أجنحة من نوايا و رغبات و فانتازيا. و على هذا الأساس كان النشاط اللغوي يتعارض مع الدلالة الصوتية للمفردات ، فهو دائما يحاول أن يضع العالم خلف بداياته لينتهي من حيثما بدأ.
بالممكن و الجدلي ضمن الشعر البولندي لجوهر القضية ( و هو تعبير يعود إلى غراهام غرين ، الكاثوليكي السيء كما يقول ديفيد جونز ) التواصل مع رحلته الشقية بين إيديولوجيات تعاني من السهاد ، و من عذابات واقع ( تضامني ) و مستيقظ.
ولد زبيجنيف هيربرت عام 1924 و توفي عام 1998 .و كان أسلوبه يتسم بالطليعية و التهكم و لكن مع التمسك باللغة المعتدلة من ناحية التراكيب. نشر قسطا يسيرا من كتاباته تحت تأثير النظرية الواقعية التي تبناها النظام الشيوعي في بداية الخمسينيات. و في عام 1956 ظهرت أول مجموعاته تحت عنوان ( حبل الضياء ). و في عام 1957 نشرمجموعته ( هيرمس : كلب و نجم ). ثم في 1961 : دراسة الشيء. له أيضا عدد من المسرحيات الإذاعية. من أهم أشعاره الأخرى : السيد كوجيتو و سواها. رشح لنيل جائزة نوبل و توفي قبل الحصول عليها.عاش في المنفى الاختياري فترة قصيرة قبل العودة إلى البلاد أثناء انهيار النظام العسكري و الدخول في مرحلة من الفوضى و الغموض السياسي.
من قصائد مجموعته : التجربة البولندية
خوفنا (Our Fear )
خوفنا
لا يرتدي قميص النوم و ليس له عيون البوم
لا يرفع قبعة عن رأسه
لا يطفئ شمعة
و كذلك ليس له وجه الرجل الميت
خوفنا
قصاصة ورق تجدها في جيبك و تقول :
" نبّه فويسكي : البيت في شارع دلوغا ساخن "
خوفنا
لا يرتفع بأجنحة العاصفة
و لا يجلس على برج الكنيسة إنه واقعي جدا
و له صورة حزمة تتشكل في السراب
بفعل مؤونة من الثياب الحارة
و الذخائر
خوفنا
ليس له وجه الرجل الميت
فالأموات متعاطفون معنا
نحن نحملهم على أكتافنا
و ننام معهم تحت غطاء سرير واحد
ثم نغمض أعينهم
و نطبق شفاههم
و نختار أرضا جافة
ثم ندفنهم فيها.
ليس على أعماق بعيدة
و ليس على مسافات قريبة من سطح الأرض.
المطر (The Rain )
حينما عاد أخي الأكبر من الحرب
كانت له على جبينه نجمة فضية صغيرة
و تحت النجمة
حفرة
قسط من شظية أصابته في فيردون
أو ربما في غرونفولد
( لقد نسي التفاصيل )
أصبح من عاداته أن يتكلم كثيرا بلغات متعددة
و لكن عشق من بينها لغة التاريخ
حتى انقطعت أنفاسه
كان يطلب من رفاق السلاح الذين ماتوا أن يسرعوا
رونالد كوفاليسكي هانيبال
هكذا قال بصوت مرتفع
هنا الحملة الصليبية الأخيرة
و إن قرطاجنة على وشك السقوط
ثم اعترف و هو يبكي
إن نابليون لا يحبه
نظرنا إليه كان يسقط في الإغماء
و حواسه تتخلى عنه
كان يتحول تدريجيا إلى تمثال
إلى أذن تشبه قواقع موسيقية
و لكن وسط غابة من الحجارة
و كانت قشرة وجهه
مقفلة تحت عيون عمياء و متيبسة كالبراعم
و لم يتبق فيه غير لمسة سريعة ..
القصص التي رواها بيديه..
رومنسيات باليمنى
و ذكريات الجنود باليسرى
لقد أخذوا شقيقي و حملوه إلى خارج المدينة
كان يعود في كل خريف
نحيفا و بالغ الهدوء
( لم يرغب بالدخول )
كان يقرع النافذة لينبهني
ثم نسير معا في الشوارع
و يروي لي حكايات بليدة
و يلمس وجهي بأنامل المطر الضريرة
مدينة عارية (A Naked Town )
في السهول
تلك المدينة
مبسوطة مثل صفائح من الحديد
بيد مبتورة من كاتدرائيتها
مخلب ممدود
بأرصفة هي لون الأمعاء
بيوت محرومة
من جلدها
المدينة
تحت موجة صفراء من الشمس
و موجة طبشورية من القمر
أيتها المدينة
أي مدينة
أخبرني
ما اسم تلك المدينة
تحت أية نجمة هي
على أي درب
أما الشعب:
هم يعملون في المسلخ
في مبنى شاسع
من طوابق إسمنتية خشنة
تحيط بهم
روائح الدم
و صلوات حيوانات مؤمنة و بلا خطايا
هل هناك شعراء
( شعراء صامتون )
هناك أرتال من الجيوش
و ثكنة صاخبة واسعة
في الضواحي
في يوم الأحد
و خلف الجسر
في غابات كثيفة فوق
رمال متجمدة
فوق أعشاب ميتة
البنات تستقبلن الجنود
هناك أيضا بعض الأماكن
الخاصة بالأحلام
السينما
بجدار أبيض
و عليها ينعكس ظل الغائبين
قاعات صغيرة
حيث ينسكب الكحول في أكواب
رقيقة أو سميكة
و أخيرا هناك كلاب
كلاب تتضور من الجوع و تنبح
و هذا السلوك يدل
أننا عند حدود المدينة
آمين
أنت لا تزال تسأل
ما اسم تلك المدينة
التي تستحق كل هذا الغضب
أين هي تلك المدينة
على أية حبال للريح هي
تحت أي عمود من الريح
و من يقطن هناك
هل هم شعب لهم نفس لون بشرتنا
أم شعب لهم نفس وجوهنا ، أم...
المصدر :
The Polish Experience , by :Zbigniew Herbert, translated by Stanislaw Baranczak and Claire Cavanagh, Polish Literature, Krakow, 2001.
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |