قصة / نظرة ود على ضريح زاباتا
2008-01-01
إنّا لله وإنا إليه لراجعون
ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العظيم
ومتى حدث ذلك ؟
سألت البائع وأنا أصفق كفّا بكّف :
قبل أسبوع ..يرحمه الله . كان فكها ،متواضعا، يقرأ المجلاّت والجرائد، ويستعير الكتب والدوريات الكبيرة الحجم،دون أن يدفع لي . كان يأخذها على سبيل الاستعارة، ولم أكن أزعل منه ، فهو كان يحافظ عليها ..كان يرحمه الله مثقفا كبيرا ، مشهورا، وفقيرا . مرّات كان يلّح علّي فيدخلني المقهى معه ،ويضيفني فنجان قهوة ،ويعرّف أصحابه بي،مشيدا بخدمتي للثقافة، معتبرا أنني أخدم الثقافة ،والمثقفين الطفرانين بخّاصة .
يوزّع أبو مصطفى اهتمامه بين زبائنه الدائمين الذين يتبادل معهم عبارات الوّد والترحيب بشيء من
المرح ، والانهماك في تلبية طلبات العابرين الذين يجذبهم خبر في صحيفة، أو عنوان في مجلة.
التفت إلي :
_ كان يتأمّل المجلات الفنيّة الخفيفة ، ويسخر منها ، لكنه مع ذلك، يرحمه الله ، كان يستعيرها . كنت اسأله : ولماذا تستعيرها وأنت لا تحترمها ؟ فيجيبني : إنني أستقي منها موضوعات تهّم الناس ، فحتى من أتفه الأمور يمكن للكاتب النبيه ، أن يستخرج ما ينبّه الناس إلى الرداءة ، فينفّرهم منها.
مدّ يدها بنقود معدنيّة لسيّدة كانت تمسك بيد ابنتها الصغيرة بحرص ، وتشدّها لتلصقها بفخذها مبعدةً إياها من طريق العابرين الذين يتحاشرون على الرصيف الضيّق .
ارتفعت منبهات السيّارات فهزّ يده في الهواء :
- لعنة الله عليكم ، إنكم تصطلوننا بهذه الزوامير اللعينة . ناس بلا ذوق فعلا ...
- ماذا جرى لزوجة المرحوم ؟
انحنى والتقط مجلّة فنيّة ناولها لصبيّة لا تكّف عن نّتر رأسها كما لو أنها فرس ، وبلطف تلّم شعرها و.تتركه ينتّثر على عنقها ، ومؤخّر رأسها .
زوجة المرحوم بعد رحيله لم تطق البقاء في البيت . انتقلت إلى بيت ابنتها و..لم أرها منذ قيامنا بواجب العزاء .
سألني :
- هل قرأت كتابه الأخير ؟
_ لا ، وعدني أن يهديني نسخة .قال لي يرحمه الله : عندما تعود بعد شهر سيكون قد خرج من المطبعة ، وأوّل نسخة ستكون لك فأنت صديق العمر . يومها مازحته : أوّل نسخة بحّد علمي ستكون لأم نضير _ دائما كنت أسأله : ما هذا الاسم ، نضير؟! _ كما اعتدت أن تفعل....
رحل رفيق العمر بعد أن أصدر تسعة كتب ، بين دراسة ، ومجموعة قصصية ، و..مختارات شعريّة هجائيّة . كان فخورا جدّا بمختاراته الهجائيّة ، فالهجاء وجد منذ خرج آدم من الجنّة ، وليس إبليس من مارسه ، ولكنه نسل آدم الطريد ...
يرحمه الله كان يضحك بكثرة ، يمعن في الضحك لأي شئ طريف...الضحك ! شو حياتنا بدون الضحك يا صديقي !...
افترقنا لعشر سنوات ، وعندما عدت إلى دمشق ، توجّهت إلى مقهى الروضة ، لأنني كنت واثقا بأنني سأجده ومجموعة الأصدقاء القدامى هناك يلعبون الورق ، وطاولة الزهر ، ويدخنون الشيشة ، بينما تلعلع أصواتهم وكأنهم ما زالوا في ريعان الشباب .
هنا ، عند بائع الصحف هذا التقيته بعد عودتي . لم أعرف أنه هو ، فهو رحمه الله باغتني بتصرفات لا تخطر على البال . رأيت شخصا _ وكيف لي أن أحدد عمره وهو على تلك الحال ؟!_ يواري رأسه ونصفه العلوي عمليّا ، بقبّعة قشيّة واسعة ، تحجب نصفه العلو . فاجأتني أصابع تدغدغ بطني عند السرّة .أجفلت قليلا ، حاولت معرفة الشخص المتواري تحت قبّعة القّش الواسعة ،ولكنه لكزني في خاصرتي ، فأوشكت أن أصرخ به محذّرا من هذه البياخة ،فإذا به يرفع القبّعة عن رأسه ، ويضعها على بطنه ، وهو غارق في الضحك...
رجعت ولك يا عكروت ؟ طوّلت الغيبة يا مهندس يا ..تبع المصاري!.
من ؟ إبراهيم سعفان ، ناديته باسم الممثّل المصري الذي كنت أحبّه رحمه الله ، وهو قصير القامة ، كان يؤدي أدواراً تكون أحيانا كوميديّة ، يبدو فيها دعيّا وهو يتهدد أحدا ما بأنه سيلقّنه درسا ،ويا عيني عندما يكون الأحد ما هذا طويلاً بعضلات .
انحنيت وعانقته .
- الجميل في علاقتنا أنك تنحني عندما تسلّم على حضرتنا يا أطول مّما يجب ...
ورقة النعي بسيطة ، ورقة بيضاء مكتوب عليها آية قرآنية ، ثمّ أسماء العوائل التي تنعي القريب ، والصهر ، الكاتب الذي وافته المنيّة بنوبة قلبيّة سرقته وهو في أوج العطاء.
لمّا جلسنا في المقهى نتجاذب أطراف الحديث أخبرني أنه يمتلك بيتا يساوي سبعة عشر مليون ليرة ، وانه مكتف الآن براتبه التقاعدي ، و.بعائدات مقالاته ..وماذا أحتاج ؟ أنا وأم العيال وحدنا ، والأولاد والبنات راحوا،طاروا يا صديقي .بدأنا وحدنا ونعود وحدنا ،حتى إنني يمكن أن أبقي ، أو تبقى الزوجة وحدها، ..ثم يلحق واحدنا بالآخر.هذه هي الحياة .أنا مرتاح فالبيت هو الاحتياط الاستراتيجي .فإن مالت علينا الدنيا بعناه ، واشترينا بيتا أصغر،ونعيش بباقي المبلغ.
شهر واحد و..تموت يا صاحبي ! لم تنتظر حتى أعود ، ونقضي بقيّة العمر هنا في مقهى الروضة !.
سأكتب أعظم كتبي ، سيكون كتابا يرّج المشهد الثقافي العربي . أنتظرك فعد بسرعة .
داعبته :
- لو درست الهندسة مثلي لصرت ثريّا ..بماذا عادت عليك هذه الكتابة ؟!
- طّز في كل مصاريك يا صاح التي جمعتها من بلاد الخليج العربي بعيدا عن ياسمين الشام ، ومقهى الروضة ، و..شلّتنا التي تقاعد فرسانها ويمضون أيامهم في الشيش بيش ، ونفخ الأراجيل ، ولعب الورق ، وقراءة الأبراج للاطمئنان على المستقبل ..ولكن هذا لا يمنع أن تحجز لي رزمة تذاكر لأسافر إلى المكسيك.
أخبرني أبومصطفى :
لا تصدّق بيته لا يساوي أكثر من أربعة ملايين ليرة ، لكنه يرحمه الله كان يحّب المبالغة. أنا أعرفه منذ كنت أبيع الصحف هناك في مدخل الصالحيّة ، وحتى منذ أيام بسطتي قرب المتحف ..عشرة عمر . دائما كان يستعير الكتب ، والمجلاّت ،والصحف ،يقرأها ويعيدها نظيفة وأنيقة . كنت أسأله : كيف تقرأها وتبقى بهذه النظافة والترتيب ؟ فيجيبني وهو يضحك : النفس يا أبوصطيف ..النظافة هي النفس ..أنا لا احب الخربشة على الكتب ..الكتاب له وجه ، والخربشة توسّخ وجهه ، وكذا الصحيفة ، والمجلّة.
لمّا رأيته بعد طول فراق لم تفاجئني القبعة المكسيكيّة _ قبعة زاباتا ..هكذا سمّاها _ ولكنه البنطال القصير المزركش الذي يوحي وكأنه ذاهب إلى هاييتي ، أو قادم منها ، وليس زبونا يجلس في مقهى الروضة ببوابة الصالحيّة في العاصمة دمشق. كان يرحمه الله طريفا ، يفعل ما يعّن على باله ، غير آبه بنظرات ، أو ملاحظات الآخرين .
كان يحلم بزيارة المكسيك ، وإلقاء نظرة وّد _ هذه عبارته_ على ضريح زاباتا ،ويجفلني عندما يصيح بصوت عال : فيفا زاباتا .
عدت وقد قررت إهداءه بطاقة سفر إلى المكسيك ، مع بعض المصروفات ، فأنا في عشرة أعوام من عملي في الخليج ، امتلكت مالاً يكفي لأن أساعد صديقا أثيرا على نفسي ، وأحقق أمنيته بزيارة المكسيك ،وإلقاء نظرة وّد على ضريح الثائر زاباتا .أدرت ظهري للمقهى ، وعبرت الشارع عندما أضاءت الإشارة باللون الأخضر ، وتوّجهت إلى مكتب السياحة والسفر لإلغاء الحجز واستعادة ثمن التذكرة ، وإذ صرت على مقربة ورأيت اسم الشركة ، لمعت الفكرة في رأسي : أنا لم أزر تلك البلاد البعيد أمريكا اللاتينيّة ، فلماذا لا أبدّل الاسم في التذكرة و..أقوم بزيارة تلك البلاد و..ألقي نظرة وّد على ضريح زاباتا ، الذي لا أعرف أين يقع ضريحه ، نيابة عن صديقي الغالي؟!..
08-أيار-2021
28-تشرين الثاني-2020 | |
02-حزيران-2014 | |
01-كانون الثاني-2008 | |
17-كانون الأول-2007 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |