جمهورية السلحفاة 2
2008-01-12
الجلسة الأولى
دخلت النملة هنية إلى غرفة المدرّسين، وصعدت إلى كرسيها الخشبيّ المتآكل جالسة فوق المسند بقلق مرهف. توافد المدرسون واحداً بعد آخر يلقون مافي جعباتهم من كتبٍ ودفاترَ وألواحِ طباشير ووسائل إيضاحٍ علمية. ومالبثت الأذرع المهدودة أن اتكأت بكل ثقل الأجسام التي تحملها على الطاولة الكبيرة فأزّت أرجلها، وتنهّدَ قلبُ الخشب لحظة ثمّ ضاعت تأوّهاته في الضجيج.
تصدّرت ربطة العنق القديرة الطاولة. ونقرت عليها برفرفاتٍ صغيرة طالبة الصمتَ والاستماع، وقالت بوقارٍ يعرفُ الجميعُ ولعها به: دعوناكم إلى هذا الاجتماع بناءً على طلبِ الآنسة هنية التي تعرّضت اليوم لإهانة بالغة من أحدِ الطلاب كما تقول، وهي تطالبُ بفصله نهائياً من المدرسة.
ولأنّا لانحبّ أن يُهانَ مدرّسٌ في ثانويتنا وسام العلماء، كما لانحبُ أن يُظلمَ طالبٌ، رأينا إشراككم في قرارٍ هام كهذا.
ماتسمع إلى الأمام مؤكّدة تصريحات ربطة العنق، وحرّكت بعضَ الأوراق في يديها مذكّرة بمسؤولياتها الجسيمة في هذا المجلس الاستثنائيّ. هبّت موجاتٌ خفيفة من آخر الطاولة حيث جلسَ الأنفُ المنكوب بالحساسية مع أصحابه العين الضيقة وسنارتي النسيج اللتين مافتأتا تهوّمان كأذرعة طاحونةٍ قديمة. اهتزّ قرنا الاستشعار في رأس هنية، وأصغت إلى النبرة المتشنجة في عين العانس الضيقة:
ماشاء الله! ألأجل نمّول خانم دعونا إلى هذا الاجتماع؟!
تهامسَت كياناتٌ أخرى، فانداحت موجة جديدة من الحروف يغطي زبدها الموج السابق. انتفخَ القفصُ الصدري الحائز على ذهبية كمال الأجسام وهو يعبّ نصفَ الهواء الموجود في الغرفة، وقالَ: ظننتُ أنهم سيحققون معها ،وأنّها من سيُفصَل! ألم تسدّد منذ أسبوعٍ لكمة قوية إلى الطالب سليم المخوطر، فأغميَ عليه، ونُقلَ إلى المشفى؟
أجابه الدماغ الرصين محاولا كعادته أن يقبض على خيوط المنطق: يارجل! لقد أثبت المشفى أنّ الطالبَ مصابٌ بالصرع. والآنسة هنيّة مدرّسة علوم.. كيف يمكنها أن تدرّس طالباً في القسم الأدبي؟!
عاد القفصُ الصدريّ إلى حجمه، وقالَ: هذا ماسمعته! وأنا في الحقيقة لا أحتك بها كثيراً.
الدماغ الرصين مبتسما: من حسن حظها ، وإلاّ لهرستها أو طيّرتها بعيداً.
تموّجت الخطوطُ الرمادية في ربطة العنق ، وقالت: رجاءً ياأساتذة! لانريدُ أحاديثَ جانبية. الفرصة توشكُ أن تنتهي ،ويجبُ أن نتخذ قراراً بسرعة.
قال المسز براون: OK. I absolutely agree.
سأل الفرجارُ متذمّراً من تهالك المنقلة السمينة فوق رأسه الصغير: وهل مافعله الطالبُ يساوي قيمة فصله؟
مسحت الربطة القديرة على ذقنها بتأنٍّ. انتصبت الأذن الحريصة على ماتسمع. نظرَ الجميعُ إلى هنية بفضولٍ وهي تخلعُ مريلتها البيضاء، وتضعها أمامهم على المنضدة، وقد احمرّت وجنتاها. راحوا ينقلون أبصارهم بينها وبين المريلة بحيرةٍ وترقب.
تقلّصت ربطة العنق، ونظرت إلى عينيّ التوجيه الكئيبتين فتمادتا في كآبتهما، وغادرتا الحجرة لافتتاح كرنفال قرع الجرس واصطفاف الطلاب.
بدأ الجميعُ يتململون. تشجّعَ الفمُ المتورّم وقال بلهجة خطابية لاتخلو من حدّة: أرجوك ياأستاذة لاتفسدي دقتك العلمية بإشارات غامضة الدلالة، وقد قالَ الشاعرُ لا فُضّ فوه... قاطعته ربطة عنق المدير وقد صارت خطوطها حمراء: أستاذ بلاغة.. دعِ الآنسة هنيّة تتحدّث، وسنسمع شعرك لاحقاً. سكت الفمُ المتورّم مغيظاً بينما احمرّ وجه هنية ثانية، وبدأت تتحدّث: لمّا دخلتُ الحصة السابقة إلى الصف الثالث الثانوي اقتربَ منّي راسور.. تعرفونه ..حديد مطاطة، وراح يضربني على ظهري مدّعياً أنّه ينفض عني غبارَ الطباشير، فشكرته رغمَ ماسبّب لي من ألمٍ، وبدأت أكتبُ على اللوح، فضجّ الطلابُ بالضحك. التفتّ فصمتوا، ثمّ عاودتُ الكتابة فضحكوا ثانية. توقفت عن الدرس لأعرفَ السبب، فأخبرني أحدهم أنّ هناك شيئاً على ظهري. رفعتُ رجلي الخلفية- عفواً منكم- لأجدَ شريطاً لاصقاً عليه هذه العبارات الظاهرة أمامكم!
حدّق الجميعُ بالمريلة البيضاء مجدّداً. مدّوا أنفسهم إلى الأمام ليتمكّنوا من رؤية أوضح. كثر الهمسُ واللغطُ. سألَ الفرجارُ زميله الذي يجلسُ إلى يمينه: ماذا اكتشفتَ يا أستاذ ثواب؟ إنّي لاأستطيع القراءة عن بعداهتزّت السبحة المندّاة بالمسك، وسخطت قائلة: قلّة حياء!
عطسَ الأنفُ المنكوب بالحساسية عشرَ عطساتٍ متتاليات أجبرت الجميعَ على الصمت، ثم قالَ وغضاريفه مازالت ترتعش : هل كان من الضروري أن تعرضوا هذه العبارات أمامنا؟
ربطة العنق: أعتذرُ لجرح مشاعرك النقية يا آنسة كيمو. لكنّا لانستطيع اتخاذ قرار حاسم إذا لم تتوفر الأدلّة!
هتفت البشرة المليئة بالأخاديد والبثور: ماذا كتبوا على ظهرها؟ هل يستطيعُ أحدكم أن يخبرني؟
ردّت حزمة الأشلاء المقطعة للتاريخ المتكومة جانبها: المريلة بعيدة جداً.. وأنا لا أجازف عادة بالتخمينات والتنبؤات.. سأنتظر النتائج َ وستأتي حتماً إليّ.
البشرة المليئة بالأخاديد والبثور: لكنها تكون قد كبرت وترهلت، وضاعت ملامحها الأولى يا أستاذ عتيق!
حزمة الأشلاء المقطعة: ولماذا فتحنا المدارس يا أستاذة طبقات؟ أليسَ لنشغلَ الطلابَ بالتمحيص؟
في تلك اللحظة علت أصواتُ الطلابِ وهم يصعدون السلالمَ إلى صفوفهم منشدين:
حماة الديار عليكم سلام أبت أن تذلّ النفوسُ الكرام
ألا من مبلّغ مديرَ الوسام بأنّا سئمنا.. سئمنا الهوام
ونملاً حسوداً بأرض الشآم يعيثُ فساداً بلبّ العلوم
وأنّا سنشوي شواءَ الحمام دماغ هنيّة بنارٍ ضرام
أعلنت ربطة العنق القديرة وقد لاحظت ارتعادَ هنية وامتقاعَ وجهها: سنؤجلُ القرارَ إلى الفرصة الثانية. الآن إلى صفوفكم.
استراحة
ماكادَ ينسحبُ الأساتذة حتى هرعت الأعضاء النبيلة المؤنثة إلى المريلة البيضاء الصغيرة ينحنين فوقها، ويحدّقن بدقة. راحت البشرة المليئة بالأخاديد والثغور تمسحها من اليمين إلى اليسار، ومن فوق إلى تحت، وتضع نقاطاً وهمية على درزاتِ خطوط الطول والعرض. لكزتها السنارتان برأسيهما المعقوفين. تفحّصتا مساماتِ القماش في محاولة للإمساك برسم الشيفرة السرّيّ. الأذن الحريصة على ماتسمع أيضاً جسّت الأزرارَ واحداً واحداً متنصّتة إن كان ثمّة تكتكاتٍ هناك. العينُ الضيقة ماكان بالإمكان أن تضيقَ أكثرَ، فأشاحت بعيداً. أمّا الأنفُ المنكوب بالحساسية فقد هبطَ بسرعة، وحطّ على المريلة، وأخذ يتشمّمها بعمقٍ، ثمّ شمخَ عالياً، ونظرَ إلى هنية بجدّيّةٍ ارتعدت لها فرائصها، وكادَ ينخلعُ قلبها من مكانه. روّعتها المعاني الجديدة التي اكتشفنها في الكلمات، فانسحبت محرجة دون أن تنطقَ بكلمة، وتبعتها بقية الأعضاء.
مضت السنارتان والأذن الحريصة على ماتسمع والعين الضيقة يتابعن الحديث في حجرة الإرشاد النفسيّ مع دولة القهوة السَنية والسادة الفناجين المشرذمي الحواف. هوّمت السنارتان بحركة متقاطعة، وقالتا بصوتٍ فيه رنّة الضحك ونشيجُ البكاء: مسكينة! لو كنت مكانها لما تجرّأتُ على النظر إلى المدرسين مرّة أخرىالعينُ الضيقة: هل قرأتِ ماذا كتبوا على ظهرها؟ نسيت اليوم أن أضع عدستي اللاصقة.
الأذن الحريصة على ماتسمع: ألا تعرفين حقاً مايقولون عنها؟ إنّها دائماً مع أستاذ الانكليزي، والطلاب في هذا العمر تثيرهم هذه القصص .
السنارتان وقد توقفتا عن عملهما لحظاتٍ ريثما ترشفان رشفة من فنجان القهوة : لم أتوقع أنّ استلطافَ الانكليش للنمل سيشكّل لوحة فضائحية! ورنتا بضحكة مقتضبة.
الأذن الحريصة: لقد حدّثني ابن أخي وهو طالبٌ هنا كما تعرفون أنّهم سمعوا الأستاذ يتغزّل بالآنسة نمّول في الممرّ. كان يقولُ لها:My dear ant
ولمّا انتبه إلى ضحكات الطلاب الملاعين خلفه ارتبك، وراح يشرح لهم أنّه يحدّثها عن خالته..< aunt >
أضافت العين الضيقة: اسمعي إذاً.. باتوا يلقبون الأستاذ بمستر ( إلِفانت)!
ضحكت السنارتان ثانية، ورنّتا بدهشة: فيل! أما كانوا يلقبونه بمسز براون لنعومته؟!
العين الضيقة: صحيح أنّه صغير القد وناعم الوجه والصوت، لكنّ أنفه
كبيرٌ كخرطوم الفيل. إنّه في الواقع لايصلح أن يكونَ ذكراً إلا أمام نملة.
الأذن الحريصة: بصراحة.. أحبّه حين يقول أوكي.. أبسولوتلي
العين الضيقة: إنّه يشبه صرصاراً أحمر يهزجُ بصوته الرفيع!
السنارتان: أنت دائماً تتحاملين على الرجال. لو كان مثل صرصارٍ كماتقولين لما أحبّته نمّول. هل نسيت احتقارَ النمل الأبدي للصراصير؟
طقطقت أسنانُ السنارتين من الضحك للنكتة التي أطلقتاها، ثم غارت العين الضيقة في ابتسامة مائعة- مجاملة وليس ابتهاجاً- بينما بقيت الأذن الحريصة منتصبة.
الجلسة الثانية
اتخذ أعضاء التدريس أماكنهم حول الطاولة المستطيلة ثانية، وراحوا يشربون الشاي، ويتمتمون بعباراتٍ ما ريثما تحضرُ ربطة العنق القديرة. نظرَ بعضهم إلى هنيّة بتعاطف شديد. همهمت السبحة المندّاة بالمسك: قال مجلس استفتاء قال!!! والله لو فعلَ معي هذا الراسور- كما تسميه هنية- مافعل معها لقصمتُ رأسه وفركتُ أذنيه كما تُفرَك النملة، وما طلبتُ انعقادَ مجلس الأمن هذا!
سمعته العينُ الضيقة فقالت بمكرٍ: أظنّ بعض المخلوقات تعاني من رهاب الفرك ياأستاذ ثواب.
ابتسمت الأعضاء النبيلة بينما سألت هنية: هل تقصدين الرهاب أم الإرهاب الذي يميزبعض الكائنات؟
أشاحت العينُ الضيقة باستياءٍ دون أن تردّ. واستمرّت بعضُ الابتسامات الخفية تظهرُ هنا وهناك..
أقبلت ربطة العنق القديرة منفلشة على الآخر، وقطراتٌ من الزيت تلمعُ عليها. همست للآنسة هنية ببضع كلمات، وناولتها ورقة مطوية، ثمّ تصدّرت مجلسَ الاستفتاء. إلى يمينها جلست الأذن الحريصة ، وقطراتُ الزيت تلمع على أوراقها أمينة الأسرار. قرأت هنية بضعة أسطر ثم أعادت الورقة إلى الربطة طالبة منها أن تقرأها أمام الجميع. قالت الربطة بكثير من الأهمية، وقد زادَ حجمها بعدما امتلأ بطنها: في الحقيقة .. لقد تطوّرت المشكلة وظهر لها حيثيات لايمكن تجاهلها. إذ جاءنا منذ لحظات وفدٌ من طلاب الثالث الثانوي العلمي، وقدّموا احتجاجاً على الآنسة نمّول.. عفواً أقصدُ هنية، وبما أنّ الوقتَ لايسمحُ بقراءة هذه المعلّقة كاملة، فسنمسكُ بأهمّ الدبابير. وأخذت الربطة تقرأ بصوت خطابي: إنّ الآنسة هنية تسحرُ من جنسنا البشريّ متّهمة إيانا بالكسل واللامبالاة. كما نعتت أسلافنا بالقرود. ويبدو صارَ لها أتباعٌ يتأثّرون بآرائها كصديقها الكافر دارون، وهي شعوبية تضفي على نوعها صفات ومزايات متفوقة متجاهلة قول الله تعالى( لقد حلقنا الإنسان في أحسن تقويم) ،وهي عنصرية تكره الصراصيرَ المسلية، وتسحرُ من أغنياتها وموسيقاتها، وتعتبر تأمّلها الإبداعيّ فراغاً عقيماً. ولعقت ربطة العنق ذيل آخر كلمة لتشيرَ إلى نهاية القراءة.
الفمُ المتورّم: إنّي أحتجّ على من كتب هذا الاحتجاج..كسّر الله يديه! لقد أطاحَ بنقطة الخاء مع أنّها كالخال على خدّها تميّزها من أختها التوءم الحاء. كما أنّه جمع مالايُجمع..
العين الضيقة: دعك من الجمع والعلامات الفارقة ياأستاذ فالقضية أكبر من ذلك. إنّها تعيش على أرضنا وتشتمُ جنسنا البشريّ! أوتظنّ نفسها الذرّة التي فجّرت هيروشيما؟
تدحرجت حبّات السبحة وبسملت قليلاً، ثم قالت: لِمَ كلّ هذا يا رفيقة هنية؟ يشهدُ اللهُ أنّي ما نظرت إلى سيقانك الستة العارية إلاّ نظرة أخوّة خالصة. وما توقعت منك السخرية من علومنا وديننا! هداك الله أيتها الأخت الباسلة.هداك الله!
عطسَ الأنفُ المنكوبُ بالحساسية ثلاثَ عطساتٍ، وقالَ: مازالَ شعبها ينزحُ إلينا، ويتلقّف فتات مؤوناتنا.. ثم تأتي هي لتتطاول على تراثنا وعلومنا!
حزمة الأشلاء المقطعة: هدّئوا من غضبكم ياأصدقاء.. فما أعرفه أنّ النملَ كان يقطنُ هذه الأرض قبلنا بملايين السنين، وكانت لهم لغاتهم وحكمتهم ودياناتهم التي لانعرف عنها شيئاً! فالآنسة هنية ليست حشرة تافهة كما تظنون، وليس خليقاً بنا أن نحقّرها!
الأنفُ المنكوب بالحساسية: كان عليها أن تكونَ أكثرَ ذكاءً وأدباً بعد أن اخترعنا المبيدات الحشرية، وسيطرنا على الهوام الزاحف والطائر.
الأذن الحريصة على ماتسمع كانت مستغرقة في نومٍ عميق.
رفعت هنية رجلها الأمامية طالبة التحدّث لكنّ أحداً لم يلتفت إليها. عندها حاولت سحبَ الطاولة، فارتاعَ الجميعُ وأصيبوا بالهلعِ، وحدّقوا فيها صاغرين. قالت متجهّمة الوجه محتدّة الصوت: إنّي مضغتُ جميعَ تصرّفاتِ الطلاب، ولم أشكُ يوماٍ! وهاأنتم زملائي تتحاملون عليّ دون أن تتقصّوا الحقائق لمجرّد أنّي مختلفة عنكم. منذ لحظاتٍ.. كنتُ أكتبُ على اللوح، فراحَ ضفدوع- خضر نقّاق- في الثاني الثانوي يطلبُ منّي مراراً أن أبتعدَ عن اللوح تارة يميناً وتارة يساراً بحجة أنّه لايرى الكتابة، وقال لي بكل وقاحة: إنّك تقفين حائلاً بيننا وبين اللوح. ليتك تتّبعين حمية ياآنسة"!
ضحكَ الأعضاءُ النبلاء جميعهم، ثمّ كبتوا ضحكاتهم لمّا رأوا وجه النملة صارَ قرمزيّاً. في تلك اللحظة أقبل اللسان الفرنسي الرقيق يتهادى ويتمايل في مشيته وصوته:" بونجوغ". اختارَ كرسيّاً وجلسَ إلى جانب العين الضيقة.
الأنفُ المنكوبُ بالحساسية: ضبطُ الطلاب معادلة لايتقنها إلاّ الموهوبين
ردّت هنية بسرعة: لاأعاني من ضعف الشخصية كما تعرفون! وربطة العنق القديرة تعرف رأي الموجّه التربوي الذي حضر عندي الأسبوع الماضي!
ربطة العنق: الشهادة لله لقد قالَ لي إنّ كرشه الكبير لم يسلم من تعليقات الطلاب، واستغربَ كيف تصمدُ الآنسة هنية بقدّها الناعم لسهامهم الجارحة، بل وتردّها لهم بمهارة فائقة!
العينُ الضيقة: هل تعنين أيتها الربطة القديرة الألقابَ والأوصافَ التي تطلقها عليهم؟ لقد شكا لي بعضُهم من تندّرها عليهم، وإحراجهم أمام زملائهم. وقد رأينا نماذجَ من ذلك في خطابها. وهذا ليس من الأساليب التربويةالدماغ الرصين: ياآنسة بصيرة سايكو أرجو ألاّ تنظري للأمر من وجهة نظرك فقط. فالآنسة هنية- كما يبدو لي- لها طرائقها في تعرّفنا وتمييزنا عن بعض. وهذا لعمري ذكاءٌ تفوّقت علينا به، فنحن لانميّزُ من معشر النمل إلاّ النملة الكبيرة السوداء والذرّة الصغيرة الشقراء!
عطسَ الأنفُ المنكوبُ بالحساسية عطستين وقالَ: وماذا عمّا يتردّدُ حولها من أنّها تبصقُ عليهم"؟ أهو طريقتها لتحليل ملامحهم؟
ربطة العنق: الحقيقة أنّ البارحة جاءنا مدهش المتعب، ووجهه مبلّل. ظننا أنّه وقع في إحدى الحفر المليئة بالماء عند دورات المياه. قال إنّك ياآنسة هنية بصقتِ في وجهه، لكنا لانصدّق الطلابَ في كلّ مايقولون، لذلك صرفناه بلطف.
أرادت هنية الردَّ، لكن التعليقات الجانبية جعلت قرنيّ الاستشعار في حالة تنصّت.
السبحة المندّاة بالمسك: لاحول ولاقوة إلاّ بالله! إنّ هذا من الأفعال المكروهة!
العينُ الضيقة: لقد رأيتُ ذاك الطالبَ ، ورأيتُ بنفسي البصقة الكبيرة التي مرّغت وجهه. ياإلهي! من أين أتت بكلّ ذاك الماء الذي قذفته من فيها؟ هل شربت خزّان المياه؟
اللسان الفرنسيّ الرقيق: ألا تغَين بطنها الكبيغة كسنام جمل؟
عطسَ الأنفُ المنكوب بالحساسية عطسة صغيرة وصرخ: تلوّث!
همسَت البشرة طبقات: حبّذا لو علمت وزارة البيئة بإهدار المياه هذا!
تحدّثت العين الضيقة بصوتٍ عال: أرى أن نرفع احتجاج الطلاب إلى المديرية، فهذه مسؤولية قومية وإنسانية. لايجوز أن يوظفوا كلّ من هبّ ودبّ في هذه المهنة المقدّسة.
هنية: وماأدراك أنتِ بهذه المهنة ، وكل وقتك تثرثرين مع الطلاب عن فلان وعلاّن من المدرسين والمدرسات؟
الفرجار : كلّ هذا البصاق فرضيات لاقيمة لها مالم يبرهن عليها. والآنسة هنية ضلعٌ في هذه المدرسة يجب أن نسنده
العين الضيقة والأنف الحساس معاً: وأكبادنا ياأستاذ أبو زاوية؟
رفرفت ربطة العنق فوق الطاولة مذكّرة بوجودها: هدوء..هدوء إذا سمحتم! آنسة هنية هلاّ بصقتِ.. عفواً أقصدُ قلتِ ماعندكِ من ردّ؟
المسزبراون: Please Mr. principal..
مِس هنية أرقّ من أن تفعلَ هذا. صدقني لقد رأيتُ مرة أحدَ الطلاب يمحو السبّورة، وينفضُ الممحاة في وجهها، فراحت تبصقُ الغبارَ الذي كادَ يخنقها. لقد كان شيئاً رائعاً.. كرذاذِ المطر الناعم!
غرقت عينا هنية في بحيرة من الحياء، لكنها قالت بهدوءٍ مهيب: عجيبة هي التناقضات التي ألقاها بينكم معشرَ البشرِ أساتذة وطلاباً! منذ شهرٍ ادّعى الطلاب أنّهم لا يميزون بين الخلايا المجهرية وبيني. والآن يدّعون أنّي غسلتُ وجهَ طالبٍ بوابلٍ من البصاق. ثمّ نظرت إلى اللسان الفرنسي الرقيق وأضافت: حبّذا لو كانت بطني كسنامِ جمل ياآنسة سيمون! عندها لن أضطرّ لشربِ مائكم الذي تعيثُ فيه الجراثيم، وسأذهبُ إلى بردى مرّة في الشهر.
احمرَّ اللسان الرقيق غضباّ أكثرَ منه خجلاً بسبب المواجهة التي لم يعتدها، وحاول أن يغوصَ في كهفه المخمليّ، ولكن لحظاتٍ وعادَ للبروزِ ثانية.
ربطة العنق: اهدئي يا عزيزتنا هنية! ونتمنى أن تفهموا جميعاً أنّه ليس في صالح مدرستنا إدخالها في مشاكل. لانريدُ أن نحوّلَ المدرسة إلى فرعٍ يداومُ فيه من ليس له عمل من المحققين. دعونا ننتهي من هذه القضية حالاً، فالجرسُ قد حان. ونظرَ إلى العينين الكئيبتين فغادرتا إلى كرنفال الباحة بيأسٍ قاتل. وتابعت الربطة القديرة: مَن يساند الآنسة هنية فليرفع يده. إن حصلت على أصوات الأكثرية فسنرفعُ طلبها إلى المديرية، وإلاّ فلننسَ الموضوعالقفصُ الصدري ادّعى أنّه سيساعدُ العينين الكئيبتين في اصطفاف الطلاب، ووثب من كرسيه سريعاًالعين الضيقة: كيف تريدين منّا أيتها الربطة القديرة أن نصوّت على قرارٍ في قضية وهمية؟ أنا شخصياً لم أرَ ماكُتِب على ظهر النملة!
الأنفُ المنكوب بالحساسية وقد راح يعطسُ بين الكلمة والكلمة: إنّها قضية زئبقية فعلاً! لقد حاولتُ استنشاق بخارِ الكلمات لأعرفَ من أيّ مادة صنعت، فما استطعتُ اكتشافَ أيّ عنصر سامّ!
البشرة المليئة بالأخاديد والبثور: اجتزتُ مدارَ الكتفين، وقطعتُ خطوطَ الطول والعرض، ومااستطاعت أجهزة رصدي الحساسة التقاطَ صورة واحدة للظاهرة التي تحدّثت عنها الآنسة هنية!
زوجُ السنارات: رغمَ تخصصي بفنِّ المنمنمات، لم أستطع أن ألمسَ أيَّ خيط خارج عن الذوق الفني!
انتفضت هنية قائلة: لعلّي كبيرة جداً حين تريدون، فأكونُ مسؤولة عن الجفاف والتصحّر والتلوّث في هذه الأرض، وأصغرُ حيناً من أن ترَوا ماكُتِب على ظهري من عباراتٍ جارحة!
بدأت بعضُ الأذرع ترتفعُ بالتدريج. وتفتحت براعمُ التفاح في وجنتي مسز براون الناعمتين في محاولة لتأكيد موقفهما الداعم لهنية. رفع الفرجارُ طرفه الحادّ، ورمقَ بلطفٍ زميله عمود الكهرباء الذي ولجَ الغرفة في اللحظاتِ الأخيرة، فالتقط هذا إشارة زميله وأضاء. كادت السبحة المنداة بالمسك والدماغ الرصين والفم المتورّم أن يرفعوا أياديهم حين بدأت العين الضيقة ترمش بنزقٍ وتقولُ: إن كنتم مصرّين على مساندتها في طرد الطالب المسكين وحرمانه من حقّ التعلّم، فسأبدأ بكتابة تقاريري المؤجلة إلى التربية. تعلمون كم تغاضيتُ حتى الآن عن سلوكيات الجميع اللاتربوية!
الفمُ المتورّم: آنسة بصيرة أنتِ دائماً مع الطالب! والمفروض أن تساعدينا كما تساعديه..
جحظت العينُ الضيقة، وانفغرت في وجه الفم المتورّم، فانطبقَ على الفور، وطأطأ جانبيه إلى الأسفل.
التفتت إلى الأذرع الشامخة. راقبتها بتحدٍّ وقح. انقصفَ عددٌ من براعم التفاح في وجنتي مسز براون. انفرطت حباتُ المسبحة وتدحرجت تحت الطاولة. الدماغ الرصين لم يعرف أبداً كيف يُخرجُ ذراعَه من تلافيفه المعقدة. أمّا ذراعُ الفم المتورم فقد ناضلت طويلاً لتجدَ مخرجاً، إلاّ أنّ الورمَ كان قد امتدّ وانتشر وسدّ كلّ النوافذ أمامها.
الفرجارُ لم يحبّ أن يقودَ دائرة الفتنة. أكملَ رسمَ زاوية قائمة وهبطَ. أمّا الأستاذ مصباح فقد ظلّ إيجابياً في سرعة التقاطه لإشارات زميله، وانطفأ على الفور. ظلّ برعمُ تفاحٍ وحيد في وجنة أستاذ الانكليزي جهة اليسار.. يتمايلُ في الهواء.. يتأرجحُ مترنّحاً قبلَ أن تقتلعه الريحُ العاتية في العين الضيقة!
08-أيار-2021
26-تشرين الثاني-2010 | |
21-تشرين الثاني-2010 | |
01-أيار-2010 | |
29-آذار-2010 | |
14-تشرين الثاني-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |