لصوص الكتب
خاص ألف
2010-03-29
اعتدتُ منذ طفولتي أن أدخرَ كامل مصروفي لأشتري به القصص والمجلات، ومع الوقت راح مصروفي يتضاءل وقد تنبه أهلي إلى أنّ الكتبَ تشغلني عن المدرسة. آذتْ روحي هذه العقوبة، ولم تسمح لي كبريائي بالاحتجاج، بل أخذتُ بعنادٍ وصبرٍ أخبئ الليرات المعدنية المتسرّبة إلى يدي بين حين وآخر. كان لابدّ أن يستوعبَ أهلي أخيراً أنّ علاقتي بالكتب ليست تسلية وعبثاً، فسمحوا لمكتبتي الصغيرة أن تنمو ومنحوني حقّ الطيران في فضاء الكلمات.
وقفتُ منذ أيامٍ أمام مكتبتي، فهالني اختفاءُ عدد كبير من الكتب. كنتُ ألاحظ نزيفَ مكتبتي المستمر، لكني لم أتوقع أن أراها نحيلة هزيلة وقد غادرَ أفضلُ أبنائها ذراعيها. تملّكني الغضبُ وأرسلتُ اللعنات على من سلبني جواهري الأثيرة. ولصوصُ الكتب يختلفون عن لصوص المتاحف بأنهم لايسطون معرّضين حياتهم وحياة الآخرين للخطر من أجل حفنة من المال، بل يأتون جهراً إلينا ناشدين أن نعيرهم بعضَ كتبنا، ثم لاهم يرجعون ولاترجعُ الكتبُ. وإن لقينا أحدهم صدفة بادرَ إلى عرض حالته الموجعة للقلب وكم عانى من تبكيت الضمير كون ظروفه لم تسمح له بإعادة الكتاب سريعاً، فنروحُ متأثرين بنزاهته نخففُ عنه: لابأسَ... ولاعليك. عندها يخمدُ ضميره للأبد ويغرقُ في سباتٍ لاصحوة بعده.
يرى بعضُ المتطرفين في اشتراكيتهم أنّ اقتناءَ الكتب أو إنشاءَ مكتبات خاصة هو فعلٌ برجوازي يعتمدُ الملكية واحتكار الثقافة، لكنّ للواقع تفسيراتٍ أبسط ولاعلاقة لها بالسياسة والطبقات، إذ كثيراً مانقفُ أمام مكتباتنا، فيحلو لنا أن نسترجعَ مشهداً من رواية أو مقطعاً من ديوان شعرٍ قرأناهما سابقاً، فتكونُ تلك الرجعة العفوية بمثابة اكتشاف جديد للكتاب بعد أن أثرتنا التجاربُ والمعارفُ بوعي وحسٍّ مختلفين.
طالما جذبتني فكرة نشر المعرفة ونقل التجربة للآخرين، وكنت بحديثي عن شائق الكتب أغري من ألتقيهم باستعارة مالديّ من روائع، ولم يخطرْ ببالي أنّها لن تنفعَ معظمهم، ولو كانوا لمسوا ما فيها من طاقات نور لردعهم هذا عن سرقتها وإيلامي. أفلا يحق لي وأنا أنظرُ اليوم إلى مكتبتي فأراها طائراً مُزقتْ أجنحته واقتلعتْ أجملُ ريشاته فبدا ضئيلا عاجزاً أن ألعنَ اللصوصَ مئة مرة وإن كان جُلّ ذنبهم النسيان والإهمال ؟
رحم الله أبا زياد صديقَ والدي. ظلَّ يستعيرُ مني الروايات ثلاثَ سنوات ، ثم حدثَ أن ضيّع أولاده المهملون بعضها ، فأتاني خجلا بروايات بديلة لا ترقى إلى أهمية كتبي . غضبتُ يومها بعنفوان صبية في السابعة عشرة من عمرها وأعلنتُ قطعَ العلاقاتِ معه . وما زال الندمُ يعتريني على تصرفي الحادّ كلما سمعتُ أنه ماتَ وهو يشيدُ بي .
تعلّمتُ لاحقاً أن أكتمَ غضبي وألعنَ الناسَ سرّاً. ذهبتُ مرة أطالبُ سيدة بكتاب لي احتاجته في بحثٍ لها ، فلجمتُ كاملَ انفعالاتي وأنا أراها تستنفرُ أولادها ليقوموا بحملة تفتيشٍ عنه في أركان البيت ، عاثرين على المسكين أخيرا ملقىً في أحد دروج المطبخ بين السكاكين الكبيرة والمغارف ، وقد انفرط عموده الفقري واختنقت مساماته برائحة الطبخ والدسم ، ووجدت نفسي أداري شعوري بالصدمة وأشكرها كونها حفظته لي- أعني جثمانه .
لعلنا نبالغُ –نحن الكتّاب - بتقديس خصوصياتنا وتمجيدِ أشيائنا ومفرداتِ عالمنا، وقد لايعجبُ هذا الكثيرين، خاصة من يزينون صالاتهم بباقاتٍ انتزعوها من مكتباتنا. أقولُ لهؤلاء: لكم عوالمكم ومعتقداتكم ولنا عالمنا الذي نبنيه من جدران الكتب أو الوهم . لكم أن تنفقوا أموالكم على المقاهي والمطاعم وصالات التجميل ودور الأزياء وغيرها، ولنا اقتحامُ المدى وآفاقِ الفكر والخيال بأجنحة الكتب. فهلا أعدتم إلى مكتباتنا ماسلختم من فضاءاتها ونجومها ورؤاها؟
بالاشتراك مع زمان الوصل
08-أيار-2021
26-تشرين الثاني-2010 | |
21-تشرين الثاني-2010 | |
01-أيار-2010 | |
29-آذار-2010 | |
14-تشرين الثاني-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |