الممثل
خاص ألف
2010-11-26
سمعتْ لولوة صوتَ سيارة تتباطأ في السير أمام بيتها فمطت عنقها من فوق طاولة
الحاسوب ونظرت من النافذة. رأت موظفة البريد القصيرة القامة تغادرُ سيارتها حاملة رزمة كبيرة من الرسائل والأوراق، وتتجه إلى يمين المدخل حيث اصطفت صناديق البريد العشرة. فتحت لولوة نافذتها بسرعة ونادت:
صباح الخير سيدة روبنسون... هل تحملين أية رسائل خارجية إليّ؟
- كيف حالك ياعزيزتي؟ آمل أن يحملَ لك الغدُ حظاً أوفر.
كان الحنينُ إلى الوطن قد فاجأ لولوة بعد وصولها إلى الولايات المتحدة بأيام فقط ، فراحت تنشرُ قصائدَ في منتدىً إلكترونيّ يصدر من وطنها. بعد شهرٍ وصلتها رسالة ورقية وقعها صاحبها باسم مستعار قرأت فيها:
" لقصيدتك ألقٌ ورعشة ضياء يصبُّان في القلب كشلالات صغيرة لاتحطّمُ،
لكنها تفري الروح.
مشاعرك القوية وخيالك الجامح نسرٌ وريحٌ يتعاركان ويحملان بعضهما.
مع إعجاب ومحبة الأمير الدمشقي".
تتالى وصول الرسائل مطلع كل شهر. ومع أنّها ضحكت من رومانتيكيتها، وجدتْ نفسها تنتظرها وتقرؤها بشهية ومتعة خاصة. وإذ خشيت من ازديادِ تعلّقها بها قرّرتْ التوقفَ عن نشر قصائدها لتختبرَ طبيعة إعجاب الأمير. لمّا نفتْ موظفة البريد اليومَ مجيءَ الرسالة ضبطت لولوة نفسها تشعرُ بإحباطٍ تراكمَ خلال عشرة أيام من الانتظار، فشعرتْ بالخجل وارتدّت إلى نافذتها الأرحب الإنترنت، وانشغلت ثانية بتقليب الصفحات الإلكترونية لمكتبتها الجامعية. بدا بعد لحظات أنّ المكتبة لم تزوّدها بكل ماتريد، فزفرتْ بضيقٍ واستياء وهي تردّدُ لنفسها : " إذا كانت معظم الصفحات تعرضُ ملخصاتٍ فقط عن الأبحاث، أين أجدُ الأبحاث الكاملة؟!" لمحتْ كلماتٍ صغيرة أسفل الشاشة المضيئة تنبئها بوصول رسائل جديدة، لكنها كانت قد قرّرت الذهاب إلى المكتبة العامة فأطفأت حاسوبها وبدّلت ثيابها بسرعة. رنّ الهاتف بينما كانت تسرّحُ شعرها. سمعت عمتها هند تجيب بالعربية من الحجرة الثانية:
فريال! ماذا هناك؟ هل أخي بخير؟
- ....
- الحمد لله. سيفكّ الجص الأسبوع القادم؟ حسناً.
وضعت لولوة بضعة أوراق وأشياء أخرى في حقيبتها ودخلت إلى غرفة العمة التي تابعت حديثها على الهاتف: تريدين التحدث إلى لولوة؟ أشارت لولوة لعمتها بأن تنفي وجودها وغادرت البيت ملوّحة بيدها. استغربت اتصال زوجة أبيها، لكنها لم تبدِ حماسة للحديث معها لأي سبب.
مضت إلى مرآب البناء الذي يشترك المستأجرون في استعماله، فأخرجت درّاجتها الهوائية وجرّتها على مهل باتجاه الطريق الرئيسيّ. رأت جارها جاك عائداً من نزهته الصباحية مع كلبه الضخم. أخذ الكلب يثب أمامه مصدراً أصواتاً صاخبة، وكأنه يريدُ الإفلات من حبله والاندفاع نحوها. جاهدت ألا تبدي ذعراً أو تحفظاً حتى لاتؤذي مشاعرَ العجوز المغرم بكلبه. هتف جاك بصوتٍ مرتفع وهو مازال بعيداً: صباح الخير
ياصغيرتي. كيف حال عمتك العجوز؟ لم أرها منذ أيام. ورغم أنّ لولوة تضحك من
عادة الأمريكيين بإلقاء التحية عن بُعد وجدت نفسها تصرخ مثلهم: هي متوعكة قليلاً،
لكنّ السيدة فيلي تسلّيها كلّ يوم.
- كم تحبُّ الثرثرة هاتان العجوزان!
اعتلت دراجتها وقادتها مسرعة قبل أن يستوقفها، ويحدّثها عن مغامرات كلبه مع قطة السيد بيل المغرورة الطائشة. هدّأت من سرعتها لمّا تجاوزت الحي، فاليوم هو السبت، ويمكنها أن تستمتع بتفاصيل الطريق طالما أنّ المكتبة لن تفتح قبل التاسعة.
كانت شمسُ نيسانَ تغري بالانطلاق، وتخربشُ على الوجوه فيضَ نداءاتها ، بينما حثّ أساتذة الجامعة الطلابَ –وقد اقتربت امتحانات آخر الفصل- على مزيد من العمل والإنجاز. قادت لولوة دراجتها عبر طريق (تشِري هِل) مستمتعة بمنظر الأشجار المزهرة. رأت الطيورَ ترفرفُ جذلى بعد أن انزاح الثلج أخيراً عن هذه البقعة من العالم... كانتون... إحدى أجمل ضواحي ديترويت. شهورُ الشتاء الطويلة جعلتها تظنّ أنّ الماردَ الأبيض سيظلُّ نائماً هنا إلى آخر الدهر. هاقد رحل فجاءة وانبعثت بهجة ومسرة في كل عطفة درب وحنية قلب. هاهنا بيتٌ تحيطه أنواعٌ فاتنة من الورود، وهناك قطيعٌ من الماعز أوغزلان ودببة وأطفالٌ يلهون صُمّموا من الأسلاك المعدنية أو الخشب ليضيئوا في المناسبات والأعياد. وذاك بيتٌ تتوسط حديقته نافورة تقفزُ حولها الأسماك الحمراء والبرتقالية. لقد وثبت الحياة من مرقدها فانشغل الناسُ بوضع بصمات خاصة لمنازلهم، وانطلقوا يسرحون في الأخضر الشاسع، وقد تهادَت أسرابُ البط بينهم مطمئنة. رأت أطفالاً يلعبون الكرة في ساحة حيّهم ونساءً يقدن كلابهنّ الصغيرة في تباهٍ واستعراض متوسّلاتٍ التفاتة إعجاب بحيوانتهن المدلّلة، وآخرين يهرولون لاهثين وقد تأخروا في تريّضهم فاصطادتهم الشمسُ بغتة وأوهنت طاقاتهم.
انعطفت لولوة إلى طريق كانتون سنتر، ورمقت بعينها دارَ البلدية. لقد جاءت إليها منذ أشهرٍ لتحصلَ على بطاقة شخصية. لم يكن مرّ على وجودها في الولايات أكثر من أسبوع، إلا أنّ الموظفة التي التقطت لها صورة علّقت قائلة: ألا تستطيعين الابتسام
للحظة واحدة؟ تجاوزت لولوة دار البلدية إلى الموقف الخاص بمكتبة كانتون العامة
حيث ركنت دراجتها ودخلت.
فاجأها صوتُ انسكاب الماء آتياً من يسار المدخل فأحست بالعطش، ومضت إلى سبيل جميل يتدفق ماءٌ باردٌ منه. كان هناك طفلان دون الخامسة من عمرهما. أحدهما أشقر منمنم الملامح يفيضُ بشاشة وحيوية. بلّل يديه بالماء ومسح راحتيه فوق وجنتين سوداوين لرفيقة يبدو قابلها للتو. لم ترَ لولوة سواداً يفوق لونَ هذه القطة العذبة، ولم ترَ عينين حوراوين واسعتين أجمل من عينيها. أمّا الشعرُ فقد انهمر من رأسها جداولَ صغيرة من عنبرٍ أسود تزينه حبات لؤلؤ بيضاء. اقتربت من رفيقها الصغير وقبلته على فمه. راحت والدتها تعتذر للأم الشقراء محرجة من تصرّف ابنتها. أمّا هو فقد أمسك رفيقته من يدها وجرّها إلى قسم الأطفال عن يمين المدخل.
ابتسمت لولوة وقد خطر ببالها مايكل الأسود الوسيم زميلها في الصف. قال لها أول مرة تحادثا وهو يضغط على يدها بحرارة: لم أرَ ذهبية حمراء جميلة مثلك! كأنك
قطعة من الشمس سقطت ونمت في رحم الخريف! كان جريئاً ومتلهفاً كهذه الطفلة من
أبناء عرقه. فيضُ عينيه الذي يشي بعمق التجربة وذكاء الإحساس عانقَ فيها خوفأ وقلقاً وتردّداً حملته خيبة بعد خيبة. منذ المحاضرات الأولى انجذب إلى هدوئها الناعم بينما لفتَت حيويته انتباه معظم الأساتذة. نفضتْ لولوة رأسها مبعدة صورته عن خيالها، وقد فطنت إلى واجباتها الدراسية، ومضت إلى ماتبغي من مراجع. فكرتْ أن تستعينَ بحاسوب المكتبة ليرشدها إلى الكتب الموجودة حول موضوعها. تذكّرت أنّ الحاسوبَ سيعطيها عنوانَ الكتاب ورقمه، وأنّها قد تحدّق طويلاً في عشرات الكتب المتراصّة ليسمحَ لها الكتابُ فجاءة أن تراه، فلجأت مباشرة إلى موظفة في حوالي الخمسين من عمرها: مرحبا. هل يمكنك مساعدتي في إيجاد مراجع ما عن الإمبراطورة ثيودورا؟
- بالتأكيد ياعزيزتي. لدينا الآن كتابان هما (الإمبراطورات البيزنطيات) لليندا غارلاند و (الإمبراطورة ثيودورا) لجيمس ألان إيفان. هناك كتاب آخر لكنه معار، وأظن سيمرّ أسبوعان قبل موعد استعادته، إن لم تكوني في عجلة من أمرك.
اتخذت لولوة ركناً هادئاً في قاعة مطالعة وجلست تقرأ وتسجّل ملاحظاتها. أحسّت أنّ اختيار السيدة شيلر أستاذة تاريخ الفن لها منذ أيام لتجيب عن سؤالها لم يكن عشوائياً:
ما الدور الذي لعبته ثيودورا في السياسة والدين كما يتجلى في لوحات الفنانين الذين صوّروها؟
- لم تكن ثيودورا مجرد زوجة للإمبراطور جيستينيان. كانت مستشارته في جميع الأمور وحتى الحربية منها. ولعلّ أهم سماتها على الإطلاق أنّها سورية مثلي.
ضحك الطلابُ وابتسمت الأستاذة وهي تقول: لاتبالغي في حماستك الوطنية يالولوة،
فهناك أكثر من وجهة نظر حول دماء ثيودورا.
- صدّقيني إنّ ملامحها سورية.
- لم ألحظ أنها تشبهك أبدا.
- لعلها تشبه السوريين أكثر مني. كأنها أيقونة قدّيسة في حي باب توما الدمشقي.
- حسناً. يمكنك أن تدرسي صورها وتقارنيها بصور شخصيات سورية تاريخية في بحث منهجي.
بعيداً عن قضية الدم والهوية كان لوالد لولوة الممثل المسرحيّ تأثير خاص عليها إذ اشتهر بأداء دور جيستينيان في مسرحية (ثيودورا والامبراطور)، وطالما سألته في طفولتها أن يعيدا بعض المشاهد متقمصة هي دور الامبراطورة. ومع تقدم وعيها ودراستها ازدادَ تقديرها وافتتانها بشخصية ثيودورا التي جاءت من طبقة وضيعة لتساهمَ ببناء إمبراطورية بيزنطة في القرن السادس الميلادي. قرأت بشغف عن حياتها المبكرة وعملها كممثلة مسرح وعاهرة ثم اعتزالها وميلها إلى التديّن فاجتماعها الهام بالإمبراطور الذي أحبّها وآمن بمساواتها له في الذكاء فتزوجها مغيّراً القانونَ الذي يحظر مثل هذا الزواج. وسرحت تتخيل المشهد الذي ظلّ في ذاكرة الناس عن
ثيودورا في مسرحيتها (ليدا والأوز):
(شابّة جميلة مستلقية على الأرض. تحلُّ بتكاسلٍ أزرارَ ثوبها الخشن الطويل فينكشف عن منظرٍ جانبي لساقين متناسقتين وبطن أبيض صغير ونهدٍ ورديّ بديع التكوير. تهرعُ أوزات بيضاء إليها، فتفتحُ الراعية كيساً إلى جانبها وتملأ قبضتها مما فيه. تنثرُ حبوبَ القمح فوق بطنها وتبقي جزءاً في يدها. يرتعشُ البطنُ الجميل وقد نقرت أوزة سرّته لتحصل على حبة قمح وقعت فيها. حين ترى ليدا براعة أوزاتها في التقاط الحب دون أن يجرحنها أو يسقطن حبة واحدة على الأرض تملأ فمها بما تبقى في يدها من حبوب وتزمُّ شفتيها لحظة ثم تمدّهما في انفراجة صغيرة. تسرعُ أصغرُ الأوزاتِ إلى اعتلاء فسحة صدرها وتناول الحَبّ من فمها. تلتهم الأوزة كاملَ الحب فتنهضُ المرأة وهي تجذبُ ثوبها إليها). تمتمت لولوة: يبدو أنّ كلَّ مافعلته ثيودورا كان متقنا إلى حد الكمال. وعكفت على بحثها تكتب: " لمّا عمّ الإضرابُ العاصمة القسطنطينية
أوائل حكم الإمبراطور وقفت ثيودورا تخطبُ في الناس: ليهربِ الإمبراطورُ إن شاء، أما أنا فإني باقية لأواجهَ المصير. وقد خلِقت القبورُ للملوك. فكان لموقفها وكلامها أكبر الأثر على صمود جيستينيان وتعزيز حكمه".
أحسّت لولوة بالجوع فتركت الكتاب والأوراق على الطاولة وذهبت إلى استراحة المكتبة. أخذت سندويشتين من الجبنة وكأساً من الشوكولا، وتوجهت إلى طاولة صغيرة. التهمت طعامها وراحت ترتشف الشرابَ الساخن بتلذذ. أخرجت من محفظتها آخر رسالة وصلتها من الأمير الدمشقيّ. تأملت الورقة المشغولة بأناقة. كلماتٌ سوداء مطبوعة على ورقة سماوية كطيور مرفرفة بينما تناثرت في القسم الأدنى منها أزهار وردية شاحبة كأنها ترتجف فوق صفحة ماء. أحسّت صوتَ الأمير يملأ كيانها للمرة العاشرة ذاك الشهر، ولم تكن تعرف نبرة صوته، فاخترعت صوتاً رخيماً شجيّاً يليقُ بالحب. ناداها:
" كحزمة من قوس قزح أمسكُ بآفاق روحكِ
تنفلتين من بين أصابعي
وينداحُ شِعرُك في سكون المدى.
تنهضُ الأحلامُ من مخابئها
تمتدُّ ذراعاي من قلب الغاب
تحاولان أن تحيطا بكِ
تنفثين الشِّعر في وجهي كساحرة عصية
وتهربين في الضباب.
أنادي اسمك
فيهتزُّ على شفتيَّ دندنة على أوتار عود
أناديك
فهلاّ ترجعين يوماً إلى بلاد النور؟؟؟؟؟"
همست لولوة لنفسها: "لن أسمح لغريقٍ أن يجذبني إلى أعماق البحيرات الراكدة". مايثيرُ استغرابَها أنّ هذا الرجلَ المجهولَ يمتلكُ كلَّ الوقت ليتوهمَ ويحلم. فيه شيء يشبه والديها. كم يخشَون أجنحتها وسِحرَ الغرب! أريجُ الياسمين الذي انبعث بنعومة من الرسالة هصر قلبها من الحنين إلى دروب دمشقَ وحاراتها الشذية. وكأنّ لشوقها صدىً فوجئت بالسيدة سامية رستم تقبلُ عليها مع طفلتها: أوه… لولوة حبيبتي… ماأخبارك؟ انحنت لولوة تقبّل الصغيرة، فإذا بسامية تقول بلهجة بين التأنيب والاستعراض: ألا تعلمين أنّ تقبيل الأطفال الغرباء مثير للريبة في الغرب؟ صدمتها ملاحظة مواطنتها
ولم تعرف بما تجيبها. من حسن حظها كانت المرأة بصحبة سيدة أمريكية وأطفالهما فتوجّهت إلى طاولة أخرى.
قابلت لولوة سامية ثلاثَ مراتٍ فقط لكنها كل مرة كانت تشعرُ بالتوتر. لم تقصد السيدة على الأغلب الإساءة أو الإزعاج، بل كان يمكن أن تكونَ مدرّبة جيدة للولوة على الانخراط في المجتمع الأمريكي دون أن تفقد هويتها وطبيعتها، لكنّ أناقتها المفرطة هي أكثر مايحرج لولوة. واليوم بالذات ارتدت لولوة سروالاً عريضاً من الكتان الأزرق الداكن وبلوزة خضراء باهتة اللون وربطة شعر فضية. أما قدماها فقد حشرتهما في صندل بني يشبه الصرصار إلى حد كبير. أستاذ اللغة السيد كِدي يقول: لاأفهمُ لِمَ
يشغلُ الناسُ أنفسَهم بما إذا كانت ملابسهم متناسقة الألوان أم لا. القميصُ النظيفُ لابدّ أن يناسبَ سروالاً نظيفا. ظروفُ حياتها الجديدة جعلتها تميل إلى مقولة كِدي مؤمنة أنّ
الأسلوبَ البسيط في العيش والذي اختاره الأمريكيون منذ إعلان الاستقلال يتناسب مع مفاهيم الحرية والعمل والإنجاز أكثر من أناقة سامية رستم التي ظلّت كأيّة سيدة شامية تقفُ بشموخ على كعبٍ عالٍ حتى في المنتزهات وحفلات الشواء.
إضافة لتأثر لولوة بالسيد كِدي الذي تنبعث منه على الدوام رائحة صابون طيبة صارت - كطالبة فنون- تلاحظُ أن الفوضى الطبيعية في تجميع الألوان تقودها إلى اكتشاف علاقات تناغم جديدة بينها، كذلك تشعرُ أنّ بساطة هندامها تظهرُ جمالها الطبيعي المميّز. فجلدها الذهبيّ يذكّرُ بحُمرة النحاس. الأنف أخنسُ ودقيقٌ، والوجنتان منمّشتان قليلاً تضيئهما غمازتان جميلتان. عيناها لوزيتان بلون البن المحروق، وخصلاتُ شعرها تلبي نداء الفصول فتتوهّجُ صيفاً بحمرة مشعة كحلوى شوكولا بالكرز.
اختارت لولوة هذه المرة حاسوباً وجلست إليه. رأت أن تفتحَ بريدَها الإلكترونيّ قبل أن تشرعَ بكتابة بحثها. وجدت حوالي عشرين رسالة من أمها وأصدقائها جميعها مؤشرة بكلمة (تحويل). محتها دون أن تفتحها مردّدة لنفسها: أحتاجُ فراغ عمرٍ لأقرأ هذه الرسائل. منذ انفصل والدا لولوة أخذت الأم -وقد تزوجت ثانية- تبحث عن طريقة سهلة
تحفظُ بها صلتها بابنتها، فراحت تتحفُ بريدها الإلكتروني يومياً برسائل عديدة جاهزة لارابط بينها. والدها أيضاً فشل في التواصل معها بعد زواجه الثاني كما فشل في أن يكون ذاته في الحياة. فنجاحه على خشبة المسرح انتهى أسيرَ حاجاته المادية، فهجره إلى كتابة الدراما التلفزيونية، لكنّ عدمَ إدراكه لاختلاف تقنيات الفنيَّن كانت السبب في أنه ظلَّ يقدّمُ نفسه للناس: أنا جيستينيان… الإمبراطور. قرأت لولوة: " كان قد مضى أكثر من عشر سنوات على وفاة ثيودورا حين عاد الإمبراطور جستينيان منتصراً في حربه مع الهانز عام 559 فمشى إلى مزارها وأضاء لها الشموع". استعادتْ ذاك المشهدَ الختاميّ مردّدة مناجاة الامبراطور لزوجه: أيتها الإمبراطورة الجميلة التي تجلّت النساءُ جميعاً في جوانب ذاتك، وزدتيهنّ مع ذلك حكمة وذكاء وبصيرة… بماذا أتقرّبُ إليكِ وكلُّ ماأملكُ من عرش ومال لم ينجحْ في استبقائك معي مزيداً من اللحظات، بينما مازالتْ روحُك ترعاني وتبثّ االقوة والعزيمة في حنايا فؤادي؟! أتسمعين هتافات الجنود الظافرين؟ ها قد عدتُ اليومَ منتصراً. لو رأيتِ الناسَ على الطرقات رجالاً ونساء وأطفالاً يهللون وينثرون الزهور! لعلّ هديتي هذه تليقُ بروحك عاشقةِ الصمود و الانتصارات. غمغمت لولوة: لكنّ جيستينيان المزيف لم يحتج أكثر من أيام فقط ريثما يستبدلُ أثاثَ بيته ويغيّرُ الهواءَ العابقَ بأنفاس زوجه الأولى.
السرعة المحمومة في زواج الأب –والتي دفعت الأم المهانة إلى الزواج أيضاً- سبّبت شرخاً في علاقتهما بابنتهما الوحيدة. لم تشعر لولوة بامتنان لوالدها لموافقته الفورية على إكمال دراستها في الولايات المتحدة. أنبأها حدسها أنّ لزوجته الثانية دوراً رئيساً في إبعادها عنه. فضلت أن تغادرَ قبل أن تشهدَ كامل ضعفه وتخاذله لتحميَ بقايا ذاكرتها عن هويته الأبويّة. مع ذلك كثيراً ماأحسّت في صوته قلقاً شديداً عليها كانت تعيده إلى عدم إنجاب الزوجة الثانية.
مع وصول كل رسالة من رسائل الأمير الدمشقيّ كانت لولوة تتأكّد من شفائها ونجاتها من تراجيديا الشرق، وتجدُ نفسَها تفكّرُ بقوة بمايكل… بعبثيته ولهوه وإنجازاته. تقضي جُلَّ وقتها في الدراسة لتحرزَ الدرجات العالية التي ينالها هو بجهود أيسر. كادت تعترف ببطء تفكيرها واستيعابها وتتخلى عن أحلامها الثيودورية، فقال لها مواسياً: لاتقارني نفسك بي. تحتاجين سنوات لتمتطي عنقَ اللغة وتضربي بها في الأقاصي. ثم أضاف مبتسماً: لكنّ أياما برفقتي ستجعلك تمضين أبعد من الجلد لتشربي موسيقانا ولوحاتنا وأشعارنا. كانت هذه دعوة أنيقة منه لتسمحَ له بمضاجعتها. الأمير حاولَ العكس. أرادَ أن يدخلها عالمه بالكلمات. ورغم رأيها بعدم نضجه وجدت نفسها تنتظر رسائله بقوة "أليس جميلاًً أن نعرفَ أنّ هناك في مكان ما من يهتم لنا؟" وهمست لنفسها: "مايكل أيضاً لايخلو من رومانتيكية الشرق".
كانا واقفين منذ أيام عند موقف الباص. جاهدت أن تفتح عينيها في أشعة شمس الظهيرة. قال لها مبتسما: أغمضي عينيك لحظة لأنقلك إلى أحضان جدّتي إفريقيّة. نظرت بتساؤل، فتابعَ: هل تظنين أن جلديَ الأسود الآن أكثر حرية مما كان عليه في أرض الفوضى والتدفق والجنون ؟! وتساءلتْ: "هل الفوضى والجنون في الأرض أو في الدماء؟!"
تذكّرت حين جاءت شقيقة مايكل إلى الجامعة لتصحبه بسيارتها. كان قد حدّثها سابقا
عن أخته الكبرى التي ربته بعد وفاة والديه بحادث سيارة. توقعت لولوة أن ترى امرأة بشوش على شكل أم. وجدتها ممتلئة القدّ مع جمال وميل واضح إلى الألوان الصارخة في زينة وجهها وثيابها كمعظم الإفريقيات في أمريكا، وقد انفرجَ ثوبُها الضيقُ عن صدرٍ كبيرٍ لامعِ السواد. هتفت أول ماقابلت لولوة: " أوه! ماأجملك! رغبت لولوة أن تبادلها حرارة التحية لكنها فوجئت بالأخت المربية تحيط خصرها بذراعها وتضغطها إليها بقوة بينما لامسَ خدُّها صفحة وجه لولوة وانزاح برخاوة فوق أذنها منحدراً على عنقها وهي تهمسُ: " ماألدنَ جلدك!" وقفَ شَعرُ رأس لولوة والأوبارالناعمة في جسدها، وأحسّت باضطراب في أمعائها يسري في كامل جسدها كالكهرباء ويبعثُ فيها غثياناً لم تستطع كبته، فتراجعت خطوة إلى الوراء وهي تبلعُ ريقها. لاحظت المرأة شحوبَ الوجه الورديّ، فتراجعت ضاحكة وهي تتمتم بالاعتذار. تنهّدت لولوة وهي تستعيد نفسها من تلك الذكرى: "على الأقل تركت هذه المرأة مايكل لميوله الطبيعية".
نفضت هذه الأفكار جانباً وعادت تكتبُ: "لم تؤمن ثيودورا بالثالوث الأقدس الذي آمن به زوجها الإمبراطور، وإنما مالت إلى الاعتقاد بأنّ المسيحَ إنسانٌ ذو طبيعة بشرية، وكان لها دورٌ كبير في دعم طائفتها بعدما عانت من الملاحقة. لم تؤثر معارضتها الدينية لزوجها على علاقتهما وحبهما الفريد، وقد عاش الإمبراطور سبعة عشر عاماً بعد وفاتها ولم يتزوج غيرها".
في طريق العودة عرجت على مطعم (سَبْوي) لتشتري سندويشات شرائح الجبنة الباردة بالخضار الطازجة والفلفل الأسود والزيتون. نصحتها به أستاذة التصميم السيدة هورن: لاتأكلي من (مكدانُل) كثيراً، وإلا ستصبحين بدينة مثل معظمنا. كانت العمة هند تفضل الأطباق العربية، لكنّ صحتها المتدهورة وانشغال لولوة بالدراسة جعلاها تقبل بالوجبات السريعة الجاهزة، وتكتفي بين حين وآخر بإعداد وجبات بسيطة كالمعكرونة وحساء الدجاج وشوربة الخضار أو العدس.
لم ترغب هند بالعودة إلى بلدها بعد وفاة زوجها ورحيل أولادها إلى ولايات أخرى، فالتأمين الصحي وعناية المشفى أهم ماتحتاجه امرأة قاربت السبعين وتشكو من الربو وآلام الظهر و المفاصل. هكذا انتقلت إلى شقة صغيرة في بناء مخصص للمسنين. تضم الشقة غرفتين ومنافعهما. لمّا جاءت لولوة اكتفت العمة بالغرفة الكبيرة حيث جعلت ركناً للنوم وآخر وزعت فيه بعضَ المقاعد المريحة وخزانة للتحف والصمديات، كذلك فرحت لولوة بغرفتها الصغيرة المطلة على الحي.
عندما وصلت إلى البيت وضعت الدراجة في المرآب وعادت لتأخذ البريد. تفحّصته جيداً عسى أن تكون السيدة روبنسون سهت عن شيء مثير فيه. لم تجد غير البريد الروتيني من إعلانات المحال التجارية والشركات، وهكذا ناولته إلى عمتها التي جلست مع السيدة فيلي تتابعان برنامجاً كوميدياً في التلفاز وتثرثران. قدّمت لهما السندويشات وأرادت أن تمضي لغرفتها، فإذا بالسيدة فيلي تباغتها: ألم يصبح لديك حبيب ياحلوتي؟
أخشى أنك تصغين لمواعظ عمتك التقية وتأدين هذا الجمال البهي والشباب الفائر!
تدين لولوة لهذه السيدة بتسلية عمتها مما يتيح لها وقتاً أكبر لتتفرّغ لدراستها دون تأنيب ضمير ودون شكوى أو تذمّر من العمة، ولهذا تتقبّل أسئلتها الحشرية بصبر. راحت تأكل سندويشتها بانتظار أن يشتغل الحاسوب، ثم التهمت فطيرة تفاح قدمتها لها السيدة فيلي مع حديث مفصّل عن زيارة ابنتها وأحفادها الصغار لها البارحة وإحضارهم الحلوى لها.
رنّ الهاتف فمصّت أصابعها من السكّر ورفعت السماعة. سمعت صوتاً لم تتوقعه. صوتاً حادّاً وعصبياً: لولوة... أنا فريال.
- من؟! هل جرى لوالدي شيء؟!
- لا... لكن...
- ماذا هناك؟ أخبرتني العمة أنك اتصلت في الصباح أيضاً!
- والدك...
- مابه ؟ أرجوك!
- ماقصة الرسائل التي يرسلها إليك؟
- عمّ تتحدّثين؟ أيّة رسائل؟!
- كنتُ أراقبه منذ مدة وهو يصمم الأوراق على الحاسوب... أوراق زرقاء ووردية يطبع عليها شعراً ... لم أتوقع أنها موجهة إليك حتى عثرت البارحة على مسودة.
امتلأ حلق لولوة بالشوك. أيّة تمثيلية غريبة وسخيفة هذه! أفلتت السماعة من يدها، وراحت تهتز لحظات في الفراغ الكبير.
08-أيار-2021
26-تشرين الثاني-2010 | |
21-تشرين الثاني-2010 | |
01-أيار-2010 | |
29-آذار-2010 | |
14-تشرين الثاني-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |