أوراق من سيرة آدم (6)
2008-07-27
فصل في حكاية الموسيقار فرمان
حين أحدق في النجوم البعيدة ليلاً، اسمع صوت آلتهِ الموسيقية العجيبة قادماً من أبعد النجوم، وقد لا يصدق الكثيرون انهُ كان عازفاً في الفرقة السيمفونية العراقية، وانه كان واحداً من الخالدين الذي لا يعرف بهم أحد، وقليلون جداً في هذا العالم الغريب من يعرف هذا الكائن الرائع، ويشرفني انني كنت واحداً ممن تشرفوا بالتعرف على هذا الكائن الإنساني المتفرد الذي يسمى فرمان، ولن أنس أبداً الجهاز القديم الذي كان يستخدمه لسماع الاسطوانات القديمة واعتقد انني سوف أظل احمل صورة ابتسامته الخالدة ونبرته الساخرة إلى الأبد، اعني ما دمت حياً، وسوف تظل كلماته خالدة في ذاكرتي على الرغم مما أعانيه من نسيان مزمن فهناك دائماً من يحضرون في ذاكرتك ذكريات لا تنسى وفرمان كان واحداً من هؤلاء الذين لا يمكن ان تنساهم ابداً لأنهم يحفرون وجودهم في قلبك وذاكرتك بطريقة سحريةٍ عجيبة .
ترك الفرقة الموسيقية لأن راتبها لم يكن يكفي طعاماً لأولاده، ففتح محلاً لبيع الكباب، وبوجهه البشوش ونبرته الساخرة ومحبة الناس استطاع ان يعيش مكتفياً بذاته، فكان محله ملتقى المبدعين والمثقفين والموسيقيين، وكان كل هؤلاء من التقدميين الذين تتابع خطواتهم قوى الظلام خطوة خطوة، اذكر أن احدهم كان يتابعني كظلي تماماً، وكان ينهي يومه بإيصالي إلى البيت، ولا أدري ما الذي دفعني لأن أدعوه ذات يوم إلى تناول العشاء معي بعد ان اخبرته اننا نلتقي باستمرار بشكل يكاد يجعلنا أصدقاء، اذكر انه ضحك بشكل لم اكن أتوقعه وغادرني وهو يضحك من دون ان يقول شيئاً، واذكر ان هذه الحكاية أصبحت موضع تندر العديد من الأصدقاء ومن بينهم فرمان الذي تعهد بتوفير الكباب لهذا المتابع اليومي إذا عاد إلى عادته في إيصالي إلى البيت يومياً.
حذرني فرمان والحزن بادٍ على ملامحه وهو يؤكد عليّ ان اكون أكثر حذراً، وحين سألته عن أسباب تحذيره اخبرني أنهم استدعوه وانه عانى الكثير من التعذيب وانهم اجلسوه على قنينة مشروبات روحية عدة مرات، ولكنه لم يعترف على الرغم من كل ما عاناه، وكان هذا يشعره بالفخر بالدرجة التي كنا نحن أيضاً نشعر بالفخر ونحن نشاهد معنوياته العالية، على الرغم من الألم الذي بدأ يترك تأثيره الواضح في ملامح فرمان، و على الرغم من القلق الذي بدأ يرافقه وهو يعلم ان هناك استدعاءات أخرى قادمة في الطريق إليه، وحقيقة الأمر انني أنا الآخر بدأت اشعر بالقلق، ونقلت تحذير فرمان إلى آخرين قد يتعرضون لما تعرض له، وقد توضح ان قوى الظلام بدأت تشدد قبضتها وتزيد من فعالية حركتها بعد ان وصلتنا أخبار آخرين تعرضوا للاعتقال والتعذيب كما تعرض له فرمان.
كان علينا ان نكون أكثر حذراً في تحركاتنا، خاصة وأننا معروفون لديهم جيداً، وحين كنت أمر على فرمان، كنت أدرك تماماً ملامح القلق على وجهه على الرغم من ابتسامته التي لا تكاد تفارقه أبداً، وكان هذا القلق مشتركاً بيننا على الرغم من إننا لا نتحدث فيه أبداً، حتى جاء اليوم الذي رأيت فيه فرمان منهاراً وهو يطلب مني أن أزوره في البيت، فبقيت أنتظر الساعة السادسة على أحر من الجمر، وأنا اتحرق شوقاً لمعرفة الجديد الذي تعرض له فرمان، فحركته وانفعاله وطريقة كلامه ونظرة الحزن التي اعرفها جيداً في عينيه حين يتعرض لمشكلة كبيرة محزنة، كلها علامات سبق وان عرفتها في فرمان، وعند السادسة كنت أطرق الباب ودخان السيكارة يصعد غيوماً من شفتي، فتح لي الباب وكان متعباً بشكل لم يسبق لي أن رأيته فيه، رحب بي وسرت وراءه إلى داخل البيـت، ولاحظت ثقل خطواته وهو يمشي أمامي هو الذي كان ينهب الأرض في سيره، أدركت ان كارثة قد وقعت، وكل ما يتوجب عليّ هو ان انتظر تفاصيلها، كانت علاقتي الروحية بهذا الكائن الحبيب لا يمكن وصفها، لأنها علاقة ترتبط بالأحاسيس والكلمات تقف عاجزة في معظم الأحيان عن وصف ما يعتمل في الداخل لأنه يحس ولا يوصف، فبدأت خطواتي تتثاقل وأنا أسير وراءه، وأنا انتظر تفاصيل الكارثة، كانت العاصفة التي تهب عليه تأخذ دورها لكي تهب علي أنا أيضاً، وكانت الغيمة التي تمطر عليه تأخذ دورها لتمطر عليّ أيضاً، كانا أخوة حقيقيين في الألم والفرح، على الرغم من ندرة افراحنا، ألقى بجسده المتعب وجلست إلى جواره وسرعان ما انهار وأجهش بالبكاء، وألقى رأسه على كتفي، مررت يدي فوق رأسه وقبلته من دون أن اتسرع في سؤاله عما حدث له، على الرغم من ان القلق بدأ ينهش قلبي بمخالف فولاذية، استراح قليلاً ثم قال لقد اعترفت، بقيت صامتاً وأنا انتظر منه التفاصيل فاسترسل وهو يقول لي انهم جاءوا إليه وحملوه في سيارة إلى ضاحية بعيدة عن مركز المدينة بعد ان عصبوا عينيه لكي لا يعرف الطريق، وهنا ادخلوه إلى بيت شاهد فيه ابنته التي خطفوها وامامها ثلاثة من الرجال شبه عراة، قال له الذي رافقه في السيارة هل تعترف أم يعرف الشباب شغلهم؟ وامام منظر ابنته وهي تبكي امام ثلاثة من أقذر مخلوقات الله، وأمام عرض مرافقه لاصطحاب ابنته معه في حالة اعترافه أعلن الاعتراف، قلت له لقد وقفت كما ينبغي لرجل شريف ان يقف في موقف كهذا لا بأس عليك أيها الرجل، قبلته عدة مرات وأنا أؤكد عليه ان موقفه كان شريفاً ويليق برجل اسمه فرمان، اما الخسائر فهي محتملة في كل وقت، وأن هذا لا يمكن ان يقلل من قيمته كانسان، بل ان هذا يؤكد قيمته كانسان حقيقي شريف حافظ على شرف أبنته وشرف عائلته في أقسى ظرف يمكن ان يتعرض له انسان وربما ارتاح فرمان لكلماتي غير انه ظل في دوامة الغبار التي كانت تعصف في داخله وربما خففت كلماتي المتواصلة شيئاً من احزانه، ولكن القاع كان ساخناً وملتهباً بالمشاعر الحزينة، المشاعر التي تركت آثارها القاسية على قلبه الكبير أكاد ألمسُ رياحها الحارة في أعماقه المضطربة، كانت أمسية سوداء بكل المقاييس وكانت آخر أمسية اقضيها مع فرمان فقد صدر أمر نقلي سياسياً مع أحد عشر سياسيا آخر فانتقلت إلى مدينة أخرى، وكنت انتهز فرصة زيارة المدينة لألتقي بفرمان وكانت لقاءات فرض عليها الزمن أن تكون متباعدة، ووصلني الخبر المرعب الذي يؤكد ان فرمان قد أصيب بالشلل، ذهبت إليه على وجه السرعة فشاهدت كتلة النور وقد تحولت إلى خراب بالكاد يمشي على قدميه ، احتضنته وبكيت وهذه هي المرة الأولى التي أبكي فيها على كتفه وأنا اعاتبه على ما وصل إليه، لم يكن الأمر بيده، كان الخراب الذي زرعته قوى الظلام قد وصل إلى قلبه، وكان هذا الخراب سرطاناً لاشفاء منه لدى رجل بالغ الحساسية مثل فرمان، كان حديثه متقطعاً ولم أكن افهم بعض كلماته، ومع ذلك أدركت ومضة سرور لمعت واهنة على وجهه الذي فقد بشاشته وهو يحاول الاحتفاء بي، وحين فارقته احتضنته بقوة ولم امتلك السيطرة على قطرات الدموع التي انسابت طبيعية من دون امتلك قدرة السيطرة عليها، كان فرمان جزءاً مني، وقد انتقل هذا الخراب الهائل ليسكن جسدي، شعرت حينها بان جيشا من المكروبات قد أقام معسكره في جسدي إلى الأبد، ولم أكن اعلم ان هذا سيكون آخر لقاء لي مع فرمان، فما ان دارت عجلة الزمن بضع خطوات حتى سمعت أن فرمان قد انتقل إلى رحمة الله أثر مرضه العضال الذي أودى بحياته، ومنذ رحل فرمان عن هذا العالم مضيئاً بكل القيم التي زرعها في أعماقي وأنا أمضي في هذا العالم بأمراض عديدة لم تفارقني يوماً حتى الآن وأعرف أنها لن تفارقني إلى الأبد.
الآن اشعر بانني قد استرحت قليلاً، لأنني قد استطعت ان أقول ما لم استطع قوله طوال أكثر من ثلاثين عاما، وأن افتح شيئاً من جراح الصفحات التي ما زالت مطوية في الأعماق، وأن أؤكد حقيقة ان هناك رجالاً خالدين قد لا يعرف بهم احد، رجالا لم يتركوا مؤلفات خالدة، أو اعمالاً خارقة، وكل ما فعلوه انهم عاشوا بامتلاء فوق هذا الكوكب، عاشوا متوهجين بانسانيتهم وحبهم المعاني الكبيرة التي كرسوا لها حياتهم وكان فرمان واحداً من هؤلاء الخالدين الذين لن تتذكرهم الكتب، فالقلوب وحدها هي التي تتذكر مثل هؤلاء الرجال، وحين أحدق في النجوم البعيدة ليلاً اسمع صوت آلة فرمان الموسيقية وهو يأتي من أبعد النجوم.
[email protected]
08-أيار-2021
05-آب-2008 | |
27-تموز-2008 | |
16-تموز-2008 | |
06-تموز-2008 | |
04-تموز-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |