أسنان بيضاء
2006-04-07
(أسنان بيضاء) للكاتبة زادي سمث
رواية الجمال والقوة والسلطة.
ترجمة وإعداد: فاتنة الكردي
دخلت عالم الأدب من بابه الواسع بروايتها الأولى (الأسنان البيضاء) التي وصفها النقاد بأنها احتفاء حقيقي بالواقعية المجنونة، وبالرواية الرائعة الصغيرة، سهلة القراءة والمجددة. بها حظيت الكاتبة زادي سميث بشهرة عالمية. وأصبحت وجها من وجوه الأدب البريطاني الجديد ورمزا كبيرا له في المملكة المتحدة. لا تمثل فقط الجيل الجديد من الكتاب في بلدها، بل تمثل إحدى الظواهر في عالم الأدب الإنجليزي اليوم. هي ظاهرة الّكتاب الإنجليز التي تأتي أصولهم من المستعمرات القديمة، وتجري في عروقهم دماء مختلطة (والدتها جامايكية، والدها بريطاني) وقد حصدت الرواية شبه الملحمية عددا مذهلا من الجوائز، وترجمت إلى العديد من اللغات الحية وتحولت إلى مسلسل تلفزيوني عرضته الـ(بي بي. سي).
المعجبون برواية سميث الأولى الواثقة (الأسنان البيضاء) التي ضمنتها سيرة ثلاث عائلات إنجليزية من أصول عرقية مختلفة... وشخصيات استقتها من مكان إقامتها ومسقط رأسها، في حي شمالي لندن يقطنه إلى جانب الطبقات العمالية والوسطى، اكبر عدد من المهاجرين المتنوعي الجنسيات (هنود، سود وإنجليز) مع كل ما يتضمنه هذا التنوع من مفارقات ثقافية وصدامات حضارية وثراء قصصي، لن يخيب أملهم بكتابها الجديد(عن الجمال) الذي يوازيه طموحا، وتم ترشيحه لجائزة (بوكر مان بوكر) الأدبية وبلوغه التصفيات النهائية.
مع أن العولمة الاقتصادية والسياسية ساهمت في تحريك الأفراد عبر الجغرافيا بحرية اكبر من السابق، إلا أنها وضعتهم على المحك، أمام هويتهم ومعتقداتهم وأخلاقياتهم الموروثة. لذا تطرح سميث في (عن الجمال) عدة أسئلة مفادها: من نحن في عالم تعولم وهمّشنا؟ لماذا تحب الناس؟ ما الأشياء الجميلة جدا في الحياة؟ وكم تذهب بعيدا للحصول عليها؟ ما هي الطريقة التي ينظر بها كل شخص إلى الفن و الأعمال الفنية. وما مدى قناعته بها؟؟؟ إلى أي مدى يحدد سواد البشرة الهوية؟ هذا السؤال بشكل خاص سئل من قبل أغلب شخصياتها.
في (عن الجمال) تنهل سميث من تجربتها في أمريكا؛ حيث أقامت عاما أو يزيد للدراسة هناك. وتلقي أصداء طفولتها في شمال لندن بظلالها على بعض أحداث الرواية التي تحكي عن مدينة كبيرة في الشاطىء الشرقي من أمريكا، بوسطن. وتروي قصة عائلتين تجدان أنفسهم في زاوية جميلة من أمريكا (ها ورد بيلسي، ومونتي كيبس). عائلتان بعيدتان، ومتباعدتان. متناقضتان كليا من حيث الأفكار السياسية وما يرونه خطأ و صوابا.. وكيف ينظرون إلى بعضهم للبحث عن أنفسهم، والتحولات الكبيرة المرافقة لهما. يجدون أنفسهم رموا سوية في زواية جميلة من أمريكا. تشرع بينهما حرب ثقافية وشخصية، تؤدي إلى اشتباك بين العائلتين المختلفتين بشكل جذري. تتكون العائلة الأولى ذات القيم الليبرالية، والمنزل الفوضوي المليء بالثرثرة الحيوية لأطفالهم الثلاثة (جيروم: الأكبر الذي يكافح من اجل أن يكون مؤمن في عائلة ملحدين صارمين، روزا: التي تعتقد بأن المثقفين يستطيعون تعويض كل شخص، ليفي: المراهق الذي يبحث بعد السواد الأصيل، ويعاشر عصابة من المهاجرين الهايتين) من زوجين انغرست حياتهما وثقافتهما في الكفاح المدني، وثورة الطلاب في ستينيات القرن المنصرم وصعود الثقافة الأكاديمية. ها ورد بيلسي الأب 57 عاما ، أكاديمي إنجليزي، ابيض، يعلم تاريخ الفن في كلية فنون نيو انجلند) المتحررة، عانى طويلا في ولينعتون، ويحاول كتابة نص عن الفنان الهولندي (رامبرانت) وزوجته الأفريقية الأمريكية السوداء كيكي. يناضلان من اجل إنقاذ زواجهما بعدا قامة الزوج علاقة غرامية مع إحدى زميلاته في العمل بعد ثلاثين سنة زواج قام على الحب والعاطفة إلى أن أصبحت العلاقة بينهما مليئة بالشكوى والإحباط والخيانة. فكيكي سمنت وترهلت وتحولت إلى رتلا من الشحم، ولم تعد تثيره جنسيا كما كانت سابقا.. أما العائلة الثانية ذات المنزل الثري المنظم كأنه عمل تجاري، فهي يمينية متطرفة، متحفظة ومتزمتة، تتألف من الأب مونتي كيبس وزوجته كارلين وابنتهما الجميلة فيكتوريا.
في (عن الجمال) تسلط سميث الضوء على أزمة الانتماء التي يعيشها المهاجرين، وتحاول رسم صورة للتعددية الثقافية الأمريكية والمقارنة بين الوجود الأمريكي الأسود المرفه نوعا ما (الهجين في الحياة الأمريكية) وبين أبناء الطبقة المسحوقة، من السود الفقراء التعساء في هايتي الذين يعيشون في عالم مليء بالإجحاف والفاقة والجريمة والإرهاب، الذين يعملون أعمالا غير مناسبة (مسح الأحذية)، في محاولة منها لإبراز وربط العلاقة بين الثروة والجاه الأمريكي، بالفقر والتشرد الذي يعيشه الهايتيون، ذلك البلد الذي لا يسمع به الأمريكيون ولا يعرفون مشاكله، مع انه لا يبعد كثيرا من أمريكا. وترى أن إغناء جيل الهجين الأمريكي بالمعلومات الصادقة والحقيقية عن ماضي أهلهم الشخصي ضرورة لابد منها في هذه الأيام، لتكون زادا لهم في الأيام المقبلة.
يرى بعض النقاد أن الرواية إعادة لكتاب (منزل هاورد) للروائي الإنجليزي (أي. أم.فور ستر) فالكثير من أحداث القصة مأخوذ مباشرة منها، مما يعطي القارىء إحساسا مزعجا بأنه قرأها من قبل. فالعمليين مبنيين على فكرة الالتصاق والتوتر والخلاف الذي يشير لعالميين: محافظ وليبرالي يمثلان عالميين مختلفين تفرقه الايدلوجيا. بالمقارنة بين كتاب فور ستر، وفي الوقت الذي يقوم به بتحليل العلاقات في داخل المجتمع الإنجليزي الادواردي في العقد الأول من القرن العشرين وقبل أعوام من اندلاع الحرب العالمية الأولى، علاقات الطبقة والسلطة والعدل الاجتماعي، خاصة بين التيار المحافظ والتيار الليبرالي. تتناول سميث الفرو قات الطبقية بتقانة وذكاء، بطريقة عصرية جدا فتحاول رصد التحولات الكبيرة في العائلتين، تلاحق ثورات الأبناء، وتصف ألفة الإخوة الذين هربوا لبرهة وجيزة بعيدا عن السلطة الأبوية،... تحتفي بثقافة الشباب، وتفتح أبعادا جديدة واعدة، تتحدى وتشكك في شرعية الترابية الاجتماعية، وتتفحص كيف تجعلنا الأفكار المسبقة حول الفن المتدني والراقي كموسيقا الراب ورامبرانت –عميانا لا نرى جمال هذه الأعمال. بل إنها تجد الجمال في الراب والشعر الراقي على السواء.
بمعنى آخر: الرواية هجاء اجتماعي حديث، جذاب وحاد، لكنه يعج بأصداء تحن إلى عصر حيث كانت المشاعر الجياشة والتحليل يعتبران ضروريين للعيش من خلالها تحيك سميث علاقات عائلية مدهشة ومعقدة تتحكم فيها تغييرات سريعة ودقيقة في المزاج ... وتقدم تحليلا رائعا للحياة العائلية ومؤسسة الزواج ... إضافة لتقاطعات شخصية وسياسية، نزاعات عرقية عالمية، حماسة دينية، أزمات شخصية، خنق عاطفي، صداقة غير مرغوب بها، شعور بالندم، سوء تفاهم، خيانة، موت، تراث غير متوقع يحل سلسلة الأحداث التي ترى كل الأطراف أجبرت لفحص الفرضيات غير المفصلية التي تستند حياتهم. نظرة صادقة في مكر الناس أيضا. وتضيف سميث بعدا إضافيا إلى تفحص فور ستر للصنف بإثارة الجنس والجنسية في المزيج: بدءا من الحوار الملون جدا من الرجال الشباب السود، إلى الجدال المصفى لمؤرخي الفن، وتعرض إمكانيات موهبة رائعة لاعتناق كل إمكانيات اللغة، مراراً وتكرراً تنتج الصور في تآلفهم. الكثير ينزعجون من بسؤال الاستعمال أو قيمة الفن والأدب، حيث كل القيم يبدو أنها قد قلبت: لا الثقافة العالية للأكاديمية ولا الثقافة المنخفضة للشارع تتجنب مثل هذا الاستجواب، فيما فكرة التمييز بينهم تشرح أيضا.
بتطوراته الجديدة يقترن أسلوب سميث في (عن الجمال) بالاستكشاف العميق للأخلاقيات والمثل التي ألهبت روايتها الأولى(الأسنان البيضاء) وكرست شهرتها في رقعة جغرافية طالت جامايكا وتركيا وبنغلاديش، إضافة لبريطانيا. ففي الوقت الذي تجاهد فيه كل من الشخصيات للعيش حسب مبادئها، تتعمد سميث إثارة توترا كبيرا بينها مستكشفة كيف تالف مثلها وتشكك فيها، بل وتتصادم معها. فمن خلال تنظيم عائلة بيلسي المتحررة حفلات شبابية، تدور نقاشات أكاديمية وفلسفية عن الجمال. فأستاذ الفن ها ورد بيلسي الذي يشعر بان الكثير من أفعال حياته قد انتهت، ولحظة شغفه المدمرة تلازم زواجه كالكابوس، وليس له خطط واضحة للنهاية. يمنعه تحليله الحماسي للجمال من أن يحب عملا فنيا بكل بساطة، هنا تعود سميث إلى الفنان رامبرانت –الذي حاول الإمساك بالبعد المادي في الإنسان وأثره على واقعه النفسي من خلال سلسلة لوحات شخصية رسمها لنفسه، بحيث تبدو لوحاته مرآة تنظر من خلالها كيكي لنفسها، ويبحث زوجها في وجهها عن حياته. أما ليفي الابن الأصغر للعائلة الذي يتكلم كأبناء الشارع فيمثل شخصية اغلب الشباب الجدد في أمريكا (الهجين) ممن يريدون الابتعاد عن جذور عائلاتهم المتوسطة وماضيها الشخصي، أملا في حياة جديدة مليئة بالحيوية. لكنه يدخل في البحث عن هويته السوداء الأصيلة بالاتفاق مع حشد من الهايتين الغاضبين سياسيا. تفشل قصة الحب الرومانسية الذي نشأت بين جيروم الابن الأكبر لعائلة بيلسي وفكتوريا ابنة عائلة مونتي كيبس الذي ألف كتابا (ضد رامبرانت) فالعائلة تمثل عكس قيم عائلته الليبرالية التي نشأ عليها. ويرى والده في علاقتهما إهانة كبيرة له، ولان عائلة بيلسي المتحررة لا ترتاح لعائلة كيبس اليسارية.
اثر التباس، ومشادة حادة (سوء تفاهم) بينهما حول جهاز ديسكمان لتشغيل الأقراص المدمجة تقع ابنة بيلسي روزا الفضولية في حب الشاب الأسود (كار ل) الشاعر ومغني الراب الموهوب، وعازف إيقاعاتها، وهو من الطبقة العاملة من الجزء القاسي لبوسطن. ومزيج فضولي من الطموح والاستياء تقرر عائلة روزا مساعدة كارل للخروج من حي الفقراء وتقدمه للنقاشات الأكاديمية. في الجانب الآخر تقوم علاقة وثيقة بين كيكي بيلسي اللطيفة وكار ولين كيبس التي تترك لها قطعة ثمينة من الفن الهايتي لتكون لها أثارا بعيدة المدى على العلاقة بين العائلتين، مع وصية ورسالة كتبتها على عجل بعد موتها، إلا أن عائلة كيبس تستثني وصية كارلين المكتوبة بعدما وجدت صعوبة في قبول تلك الصداقة ومن ثم يتعين عليها تحمل شعور الندم فيما تواجه لطّافة كيكي الودودة.
في معرض إشارتها لتحضيرات الحرب على العراق، تستخدم سميث بقدرتها المميزة على السرد: الحاضر وحروف الجر، لتؤكد الصلة، بالواقع الحاضر المليء باليساريين والمحافظين الجدد، تتساوى لغة الشخصيات اليومية، بكافة شرائحها، يتساوى الجميع، كلهم يتحدثون بلغة الشارع المثقلة بالحس اليومي: المثقف والهبي...والثائر.
ما يبعد الرواية عن كتاب منزل هاورد حوارات زادي سميث الحادة وقدرتها المذهلة في وصف التفاصيل والجدالات الحادة والمريرة بين الشخصيات، والاستماع للنقاشات، والانتقال من الأسلوب البسيط الحديث إلى العبارات الفكتورية المهيبة بالتناوب. وقدرتها على تمييز اللغات بامتياز، اللغة اليومية التي يتحدث بها أبطال الرواية –شباب اليوم- من الجيل الأمريكي خاصة المليئة بالراب، وألعاب الكومبيوتر، و(سي دي في دي)، بل وترجمتها .
رواية (عن الجمال) رواية باسلة لاستكشاف المادة الحزينة لسنوات البلوغ في القرن الحادي والعشرين. خليط شاذ، إدراكي مسل بالتناوب، يشد الانتباه عاطفيا ببعض الطعم القصصي للأسنان البيضاء. رواية مطلقة، محزنة ومضحكة، وصاخبة، هزلية نادرة حول الثقافة الخلافية، من السهل نسيانها، ومن الصعب تصديقها أحيانا لزادي سميث التي بالكاد خارج عشريناتها فروايتها ممتعة تقريبا على كل المستويات.
الكتاب: عن الجمال
المؤلفة: زادي سميث
إصدار ونشر: دار بنغوين –لندن –أيلول 2005 .
08-أيار-2021
07-نيسان-2006 | |
07-نيسان-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |