النص والمرأة
خاص ألف
2006-11-01
النص دون المرأة.. لا طعم له راجع كل ما مرَّ بك من نصوص، لا بد للمرأة من كينونة ما.. وإلا لما كان نصا.. بمعنى أخر لما كان وجوداً موازياً للحياة، حتى في النصوص التي تبدو ظاهراً خالية من قطب الكينونة الأهم، لو تمعّنا عميقاً في باطن النص، هاجسه، خلف الكلمة، خلف شطح الجملة، خلف الشاردة لوجدنا أن ثمة أنثى مطلقة تحوم بروحها بين الكلمات، وترف بأجنحتها حول قامات الحروف، تلويها، انغلاقها، انبساطها، تحوم الروح الأنثوية فاعلةً. في النصوص الموغلة في القدم نجدها الغاوية، فهي من دجنت أنكيدو جوار نبع الماء وأخرجته من التوحش إلى التحضر في مهمة نبيلة، وهي في النصوص الدينية من دلت آدم على الشجرة المحرمة وجعلته يرى ذاته، جسده ومواضع اللذة ممهدة لنسل الإنسان الباقي رغم طرده من الفردوس. في النص المسيحي المقدس هي من أغوت الله. مريم التي أختارها دون نساء العالم ليضع بذرته في رحمها ليكون أبنه المسيح رسول سلام ومحبة للعالم. صلة الوصول الجسدية في الثقافة الدينية بين الله والإنسان.
الأنثى هي من تنحت الوجود العاقل في أحشائها. إذ لولا الكينونة المتدفقة من غورها لما كان لهذا الكون من غائية غامضة، محيرةٍ، مدهشةٍ. لذيذةٌ في التأمل، في التفلسف، في اختلاف التفاسير. كل الأفكار قبل أن تكون كانت في رحمها. في ذلك البحر الأول.. بحرها المطلق الذي لا يبوح للشمس إلا بكائنٍ جديد يطلع من نزفها باكياً عارياً، مستغرباً من وحشة الدنيا والضوء والضجيج، مفزوعاً من الوجوه المنتظرة المحيطة بالجسد الذي نبّع منه، الصلبة الفاقدة رقرقة سائل بحره اللزج الدافئ العميق.
من ذاك البحر جاءت الدنيا.
من ذاك البحر الدفين الصغير.. صارت المعاني.
لم نكن سوى سمكة تسبح ببحر المرأة العميق اللزج!.
لما كنت منهمكاً في كتابة نص روايتي الأولى ـ رؤيا الغائب ـ صدرت عن دار المدى 1996 وفيما كنت أحاول استحضار أخي الصغير ـ الرسام كفاح إبراهيم ـ من الذاكرة، من تلك السنين، بالمخيلة وجدني أعود إلى رحم أمي الجليل في لحظة وجدٍ أمتزج بها زمنينا، بعد أن فقدته قبل أكثر من خمسة عشر عاماً من وقت كتابة النص. أخذوه من مكان اختفاءٍ في بغداد، ولم نعثر عليه في المقابر الجماعية. غيبوه عني في مسافة يباس الإنسان، السجن، الكره، الرعب، التعذيب حتى الموت، يباس يشبه عالم الظلمات في الأساطير. عالم غامض قاس، موحش صلب نقيض انسيابية وطلاوة ماء الرحم في بحره.
المرأة كونٌ ونحن الرجال لسنا سوى الذرة الدامعة المسكينة.
في غورها، في ظلالها يستطيع المرءُ ذو المخيلة أو المفطور عليها أن يلتقي بما شاء من أحبته الغيّاب. أنا شفت ولمست أخي الغائب في يَمِ بحرهِ، وفي مقدورنا أن نجد في فضائها صديقاً غاب أو غيِّبَ، مات في الحرب، خربته الدنيا، ضاع في المنافي، أو في السجون، أو، أو. تحت ظلال المرأة نستعيدُ أصدقاء، احبه، رفاق طفولة، صبا، شباب، ونحن ننشغل فيها.. نحلم برائحتها، بلمس يد الحبيبة، نكتب الرسائل ونلقيها أمامها في قارعة الطريق، نتلصص على جسدها من الشبابيك، نضاجعها في الأحلام، وبالخض، وتكون مدار همسنا في فيء جدار، على مقاعد مقهى، في ليل المحلة تحت أعمدة مصابيح الشارع، في التذكر، في المنفى، في الشيخوخة لما نحّنُ إلى تلك الأيام!. في نص "أخيلة العيون" المنشور في المنتدى الثقافي ـ دمشق 1999 العدد السابع. وجدتني وأنا على حافة الشيخوخة، مركوناً في المنفى أعيش مع صديقي "هاشم لفتة" المدله بالصبايا.. والشبابيك والعيون فلمسته بأصابعي ورأيت معه عيون الصبايا المختبئات خلف نوافذ البيوت المكتظة في محلة "الجديدة" القديمة، كان إلى جواري يغني وكأنه لم يقتل باكرا في الحرب. جعلني أرى صبايا صغيرات تعلقنَّ بيّ ولم أعرف الدخول لعالمهن خجلا وكان هاشم عارف بأسراره.
للمرأة الفسحة المتسعة.. الظليلة، المخفية، الظاهرة.
المرأة كونٌ ضعتُ فيه منذ بواكير وعيي في الحياة.. في النص، لا فرق لديَّ فأنا لست سوى حالمٍ.. أو فرد أدمن الحلم، أو بتعبير أدق رجلٌ أدمن المرأة في أحلامه وعينيه. أحلم بها في كل الأحوال والظروف.. وسط أهوال جبهة الحرب العراقية ـ الإيرانية، بين ثوار الجبل، في معسكرات اللاجئين، في الصحو والسكر.. في لحظات الخطر والرخاء، في ساحات غوسكلدة الدنمركية لما أشرب مع أصحابي المشردين السكارى. أحلم بكل لحظة وخيالها يُزهر أيامي.
المرأة علمتني الكتابة!.
كنت في محلتي الشعبية ـ حي العصري ـ المكونة من خليطٍ غير متجانس من البشر، فلاحين هجروا الريف، بدو استقروا للتو، أنصاف غجر، فقراء خرجوا من قلب المدينة. كنتُ كاتب رسائل غرام المحلة. كل رفيق من رفاق طفولتي وصباي وقع في حب صبية يترجاني كي أكتب له رسالة لحبيبته، فكنت أطلب منه أن يفضي لي بمشاعره وقصة حبه. أعيد صياغة مشاعره بالحروف، فيفوز هو بلذاتٍ وفرتها حروفي، وأفوزُ بأخيلة ذلك اللقاء في السر الذي يقصه عليّ لاهثاً، معترفاً بالجميل. أرحلُ منصتاً، متخيلاً كل ثنية بجسد الصبية، كل لمسه، كل آهة، كل غنج، كل لهاث، والجسد الأنثوي تطوطم لاحقاً بحيث صرت أرى بمنحوتة ما في متحف، أو برسمة لوحة جسداً حياً ينبض فأركن جواره ساعات مثل مخبول، فأراه يتحرك، ينهض من رقدته الأبدية، من الحجر، من جدار اللوحة، من ألوانها.. يجّنني فأهتاج فيه.. احنُّ.. ألمسهُ حالماً بذلك التقلب في بحري الأول، ألمسه وأخاف في خلوة قاعة متحف في كوبنهاجن.. هذا ما يتجلى واضحا في نص "جنية الأحلام" المنشور في القدس العربي 1997. وما سيأخذ حيزاً أوسع في نصي الروائي غير المنشور "برازخ وأخيلة" إذ يتحول الحجر إلى عالم أخر يعيش فيه البشر حياة أخرى.
وحدها المرأة تمنح الوجود غاية ما.. ودونها تصير الكينونة هباء. هذا يشمل النص والحياة، فليس لدي فصلٌ بينهما. أعيش الدنيا مثل نصٍ، وأعيش النص مثل الدنيا.. لا أقول هذا القول مجازاً بل هذا ما يصير معي. لم أكتب سوى ما عشته، حلمتُ به، تخيلتهُ، ما أخذني في أحلام يقظتي، أو ما رواه لي عابر أو صديق حميم عما حدث معه!.
أثمت التباس يثيره الكلام عن النص ـ الحياة؟!.
نعم ثمة التباس، لكن، لدى من؟.
لدى كل من يفكر تفكيراً ميكانيكاً، جافاً، أي يفكر بمنطق اليابسة لا بمنطق البحر، فيفصل بين النص والحياة أو يقارن بينهما مثله مثل ناقد أكاديمي لا يفهم من النص إلا ما التقى ومفاهيمه الجاهزة المستقاة من قياسات محددة قديمة ومعاصرة.
النص والحياة وحدة واحدة رغم استقلالية كينونتهما الظاهرية، فالأول جسده كلمات والثاني من لحم ودم. لكن المصائر والأقدار والحب والكره، القتل والنجاة، وكل تفاصيل الفرد في رحلته القصيرة في العمر.. واحدة.
فكيف الحديث عن المرأة في النص فقط!.
لسنا إلا ظلال للمرأة.. المرآة التي نرى في عمقها انعكاس ذواتنا في كل حالاتها
سنبقى في عطشٍ أبدي لها
سنبقى حتى لحظاتنا الأخيرة نكتوي بوجودها الفادح!.
أهم رموز الحضارة البشرية ميلا إلى السلام والمحبة سيدنا "المسيح" رغم رجولته بالجسد إلا أنه مسكون بروح أنثى في أقواله، وسيرته. لذا نسج النص النحتي والتشكيلي وبنى تصوراته حوله من هذا المنظور، إذ نراه منحوتاً في جدران الكنائس والأيقونات، وعلى خشب الكراسي وجدران الخشب، وعلى سطح اللوحة الزيتية جسداً مسالماً يستلقي في حضن مريم الكون.
سنبقى نلهث خلف النشوة المنبعثة من خيال جسدها بتضاريسه الخالدة؟!.
سنبقى نهيم بالخصر، والنحر، وقبتي النهدين، والبطن الضامرة، والحوض المستدير، والردف الثقيل، والفخذين المتينين، وبطة الساقين المليئة، والقدمين الصغيرتين الحالمتين، وما بين الفخذين. سر النشوة، سر النشوء، سر الشمس. هذا شيء أكثر من جليل.. أكبر وأهم من معاني الكينونة في عمومية المفاهيم الأسطورية القديمة، والدينية السماوية، وعقلانية الحضارة الحديثة بكل ما جلبته من تشويه لتجلى هذا الكائن الجليل بإباحيتها المقيتة.
جسد جليل يدعوك للصلاة بصمتٍ.. آمين
أعبد النهد.... فم الكون!.
أعبد الشق ما بين الفخذين
.. باب الكون!.
هل في قولي هذا (رؤيتي).. ثمة بدائية وثنية؟!.. لا أدري. لكنني أسجد بخشوع أمام باب الكون، جرحها الصغير النازف مع كل دورة قمر، أسجد متيماً مخبولا.
وأردد آمين!.
08-أيار-2021
04-آذار-2007 | |
05-كانون الثاني-2007 | |
24-كانون الأول-2006 | |
09-كانون الأول-2006 | |
01-تشرين الثاني-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |