موت شاعر
2007-01-05
خاص ألف
يموت شاعر يعلكـ السلطان ...
شمعة
يموت جاهل تعتلكـ بالكوخ...
دمعة
علي الشباني
مات الشاعر العراقي ـ كزار حنتوش ـ أخر صعاليك الشعر العراقي ملتحقا بصديقه جان دمو، والشاعر ـ عقيل علي ـ في 30 ـ 12 ـ 2006. هذا النص عنه وعن العراق والصداقة والعذاب
وَهْمٌ ويخطف العمر
لما قامت الحرب عام 1980 مع إيران قلنا أنها مسألة أيام وتتوقف. لكنها طالت لشهر، قلنا ستتوقف بعد عدة أشهر. ولما مرت سنة بدأ اليأس يمسك بالقلوب فأصابنا الوجوم والشرود وبتنا نتذمر سراً..
في السنة الثانية مصائرنا اختلفت وأصبح كل يسلك حسب ما يراه مناسبا كي لا يفقد ضميره أو كينونته حيث الكل معرض للسوق جنديا للجبهات.
وقتها صدقنا وهم اللحظة السابقة للنوم.. وهم الغد.. وهم الهدوء والسلام.. وزوال الغمة..
وهمٌ في وهمٍ في وهمٍ.. ويخطف عمر العراقي..
مرَّ عمري.
عبرت الخمسين في العام الماضي وما زلت أتوهم السلام والعودة إلى بيتي في "الحي العصري" وقضاء ما تبقى من وشل العمر فيه
العراقي ركبته الأوهام وضيعته!.
رغم هذه الحقيقة فمازلنا نصدق أوهامنا حتى الرمق الأخير!.
أقول ذلك والمئات لا بل آلاف العراقيين ماتوا وهم يظنون أنهم راجعون غدا إلى بيت الطفولة والمحلة ووهم السلام الضائع مع بداية الوعي والنضج.
والفرح من صيد أمس حد للزغر مذبوح
علي الشباني
لم أكن أظن أنني حينما تسللت إلى الجبل هاربا من الجبهة والقمع أنني سأظل غريبا قرابة عشرين عاماً.
أقول غريباً. لأنني ما أن غادرت الديوانية وعاد من المستحيل الرجوع إليها. من هناك.. من الجبل بدأت أشعر بالنفي وسط ظروف غير طبيعية، دوران بين الجبال والقرى البعيدة. قصف جوي ومدفعي، العيش مثل درويش النوم بالجوامع والأكل ببيوت الفلاحين.. والموت يحوم حولك لاقطا رفيق من رفاقك بين الحين والحين.. وكل ليلة أحلم قبل النوم بلحظة عودتي إلى المدينة..
كنت أحمل مدينتي معي في شرودي وسهري ولحظات شوقي ظاناً أن الأمر سرعان ما ينقضي.. لكن الحرب مع إيران انقضت لنجد أنفسنا مقصيين عبر الحدود في معسكرات اللجوء في تركيا ثم إيران.
صار الحلم أبعد والأفق أكثر حلكةً..
لما أستقر بي المقام هنا في الدانمارك عام 1992 مرت سبعة أعوام على مغادرتي المدينة.. كان الحصار والدكتاتور والأفق المستحيل. فدأبت على الكتابة لأصدقاء عرفت أنهم لا زالوا أحياء.. بعضهم صار من رموز المدينة..
ماذا يتبقى للمنفى غير محاولة تجميع شظايا الماضي البعيدة، أمكنة الطفولة، بقايا ذكريات، دفاتر قديمة، أشعار كان يحبها، تنسم أخبار بشرها وهذا ما سيجده القارئ في رسائل كزار حنتوش في التسعينات. سيجد حوارات عن أشعار شعبية قديمة عن دفتر لشهيد ضاع في مقبرة جماعية. كنت أكتب لكل من راسلته كي يصف لي كيف تغيرت المدينة من بقى حيا ومن غادر، هاهو كزار يكتب لي عما جرى لمحلة من أقدم محلات المدينة "الجديدة" واصفا كيف قصت شوارعها الضيقة وضاعت ملامحها القديمة. لما رجعت إلى العراق في زيارة تتبعت الأمكنة المندثرة وعثرت على بقاياها.. ووجدت البيت الذي عشت واختفيت فيه في محلة "الجِديْدة" وكتبت عنه روايتي غير المنشورة "برازخ وأخيلة" قد تحول نصفه إلى شارع والنصف الآخر إلى محل سمكره.. سيكتب لي عما أحزنني إذ حول أخوتي الحديقة التي كان أبي يعنى بها إلى دكان. سأكتب رسالة غاضبة لهم، فيكتبون لي رسالة اعتذار واصفين اللحظة التي سقطت فيها النخلة التي زرعها أبي فصيلة إلى أن أثمرت.. وكيف بكت أخواتي وأخواني لحظة السقوط وكأنهم يفقدون أبي إلى الأبد.
جمعت وصلي بالمدينة طوال التسعينات، في تفاصيلها، بالرسائل فوصلتني أعداد لا حصر لها من الرسائل جعلتني وكأنني أعيش في باطنها ولو بالأخيلة التي تبثها كلمات الرسائل بأسماء بشرها وشوارعها وشؤون يومهم. كان ذلك زادي في النص.
في السيارة التي أقلتني مع المهندس اللامع "حسين هاتف" وهو مغترب أخر من أبناء مدينتي يقيم في ألمانيا، وما أن اقتربنا من المدينة سألني:
ـ ما هو شعورك هذه اللحظة؟!.
أجبته فوراً:
ـ وكأنني غادرتها صباحا إلى بغداد وعدت في المساء!.
وفعلا وجدتها وكأنني غادرتها بالأمس والذي أختلف أن وجوه الأصدقاء والمعارف والأمكنة شاخت وأصبحت أكثر بؤساً.
هل كنتُ حقا أحيا ذلك الشعور أم أنني أصنع وهم أخر من أوهامي؟!.
لا أدري..
أريد فقط الآن نسج شيئا عن كزار حنتوش والمدينة والأيام!.
بيت فقير في شارع فرعي
أرتبط بيت كزار في الحي الجمهوري بفترة مبكرة من حياتي، إذ كنت أتردد على شارع قريب من شارعهم حينما تعلقت بفتاة تسكن بمنطقتهم.. كان ذلك عام 1971 وعن طريق أولاد المحلة الذين كانوا زملائي في الصف الدراسي تصادقت مع أخيه الأصغر الذي يكبرني أيضا بثلاثة أعوام "هادي" ـ سيرد ذكره بالرسائل ـ. توطدت علاقتنا وكان ما يجمعنا قربنا من اليسار وكرهنا للبعث والقومية.. كنا نقضي الوقت بالمذاكرة تحت مصابيح الشارع حتى طلوع الفجر أيام الامتحانات. وكنت أذهب مع "هادي" للبيت لتناول الغداء.. ليس هنالك مائدة ولا كرسي.. تناولنا أم كزار الناحلة، المعصبة بالسواد المغضنة الوجه أرغفة من حلق التنور ويكسر هادي بصل بكفه المضمومة. نتوسد تراب الحوش ونلتهم بسعادة الخبز الحار والبصل. البيت يتكون من غرفتين وباحة.. هل ما أتذكره مضبوطا أم أضفي على الأمكنة ما يجود به التذكر من أخيلة مضافة.. لا أدري لكن الشيء الأكيد هو خلو البيت من الأثاث سألت هادي عن أبيه فرمقني بعينين مرحتين وقال:
ـ مات يوم أمس ما أتذكره كنت صغيرا!.
الباحة ترابية والغرف كذلك. كنا وقت القيلولة نهرب من وهج الظهيرة إلى ظلال الغرف وترابها البارد الذي أتذوق برودته حتى هذه اللحظة. وهنالك رأيت كزار أول مرة يدخل البيت. ألقى التحية مبتسما وتوجه بصمت إلى الغرفة البعيدة عن المدخل تابعت حركة ذراعيه المميزة وكفه الممسكة كتاب وجريدة ـ لما زارني العام الماضي 2004 في بيت أهلي بالحي العصري كان يحمل كتاب وجريدة أيضا وحركة ذراعه محتفظة بالإيقاع نفسه ـ . قال هادي:
ـ هذا أخي كزار!.
علمت لاحقا أن يعمل مساحا في الطرق والجسور وهو معيل العائلة.
أرتبط ذلك البيت بحدث مهم وقع تلك الأيام جعلني لا أستطيع العودة إلى بيت أهلي فبت في بيت كزار. وقتها كانت لدينا علاقة بتنظيمات الحزب الشيوعي السرية بالمدينة. وكان هادي يوصلني إلى منتصف المسافة بين حيينا المتجاورين. خرجنا تلك الليلة فوجدنا المنطقة مطوقة بالشرطة ورجال الأمن. والشوارع خالية من المارة. عدنا فورا إلى البيت، ففي عبنا خروف، كما يقول المثل العراقي. بعد ربع ساعة دفع كزار الباب وهتف:
ـ ما تدرون!.
ـ ..
أردف بأسف:
ـ قتلوه.. قتلوه لـ "محمود ناصر"!.
بهتت قوانا وحدقنا نحوه بذهول قبل أن يلمنا الحزن والكآبة وكأننا فقدنا أسطورة عَوّلنا عليها بالسر وما يضفه الهمس والمخيلة على ما يفعله:
ـ هل كان حقاً ما نسج حوله؟!.
سوف أتيقن لاحقا وصديقي الشاعر المرحوم عزيز السماوي، في منتصف السبعينات يريني صورة لرجل حليق الشعر يشخص نحوي من عمق الورق القديم بعينين قويتين واثقتين صارمتين، قائلا:
ـ هذا المناضل محمود ناصر!.
أخبرني عن عزم أحد الفنانين نحت تمثال لمحمود، ثم سرد علي تفاصيل كثيرة عن ذلك "الشقاوة" حسب التعبير العراقي "الفتوة" حسب التعبير المصري. العادل القوي الذي يحق الحق ولا يرضى باعتداء القوي على الضعيف، المغيث لكل من يستنجد به، نزيل السجون الذي تهابه الشرطة في مراكز التوقيف. كان الناس يتناقلون قصصاُ عن تغلبه على مركز شرطة كامل بالضرب لأنه لا يسكت عن الإهانة. فأصبح مرهوب الجانب محترما عندما يحل نزيلا بالسجن ـ هذا النمط ظاهرة عربية بامتياز كتب عنها نجيب محفوظ قصصا وكان سائدة جدا ففي عراق الخمسينات والستينات ومع وصول البعث إلى السلطة قامت بمحاولة توظيف كل شقيٍ في أجهزته القمعية، ومن لم يتعاون قتل في ظروف غامضة.
أما "محمود ناصر" الديواني فقد أصطف على يسار اليسار وأنخرط منذ أواخر الستينات في تنظيمات القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي. ولما ضربت هرب العديد من زملاء محمود ملتحقين بالحركات الفلسطينية وعاشوا تجاربها العنيفة ـ رحيم العكيلي ـ الذي عاش تجربة أيلول الأسود في الأردن وعاد عام 1973 وله قصة أخرى. أما محمود ناصر فبقى مختفياً بريف الديوانية يدخل المدينة بين الحين والحين ويجعل أثريائها يدفعون ما يقوم أود مجموعة الثوار المختفين بعد انهيار "عزيز الحاج" وظهوره ذليلا على شاشة التلفاز. لا أتذكر بالضبط من كان ذلك الفنان الذي يود تحويل تلك الصورة الفوتوغرافية إلى تمثال..
هل كان صديق المرحوم عزيز السماوي، الفنان التشكيلي "فيصل لعيبي" أم النحات الصعلوك "منقذ شريدة"؟.. لا أتذكر لكن الذي موقن منه أنه واحد منهما.
وقتها أنحاز الوسط الأدبي اليساري برمته إلا القلة إلى القيادة المركزية ليس فعلا بل هوىً في ذلك المد اليساري الذي أعقب مقتل "تشي جيفارا" في أدغال "بوليفييا" 1967.
أسطورة تهاوت في تلك الليلة!.
أسطورة من أساطير التي ينسجها الحالمون بمدينة فاضلة!.
لا نكف.. نحلم من جديد خالقين أسطورة جديد.. هكذا كنا نفكر في كل من يختفي عن أنظار السلطات مقاوما.. هكذا حلمنا بالعديد ممن أختفي في أواخر السبعينات.. إلى أن جربتُ الاختفاء فتعرفتُ مدى فداحة وعجز وخوف المختفي عن الأنظار.. سأعطف عن نفسي وعلى عينين تحملق نحوي بأمل عند لقاء سري مع أولئك الحالمين.
وتتكرر التجربة..
سوف لا يكف البشر عن الحلم وإضفاء قدرات هائلة على مختفٍ يرتجف من الرعب رغم قوته!.
سيذهب هادي بعيدا يكمل معهد المعلمين ويتزوج كما يذكر كزار في إحدى الرسا
08-أيار-2021
04-آذار-2007 | |
05-كانون الثاني-2007 | |
24-كانون الأول-2006 | |
09-كانون الأول-2006 | |
01-تشرين الثاني-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |