درويش.. صورة على الجدار
2008-08-15
استيقظت هذا الصباح وأنا أتمتم ببعض كلمات سقطت سهواً من منامي والتصقت لحظة على شفتيّ. حاولت تذكّر بقية الكلمات، ثم نهضت إلى أوراقي أفتش فيها عن زائرة الليل هذه. ورقة قديمة كتبتها يوم توفيت أمي. بعد بحث مضنٍ أدركت أني تركتها في دمشق مع كثيرات غيرها.
انشغلت ساعات قبل أن أجلس إلى حاسوبي وأفتح نافذة الانترنت فإذا به يقذف في وجهي تقريراً عن جنازة محمود درويش. لم أستوعب إلا العنوان وبعض الكلمات في السطرين الأولين. مات درويش في غفلة مني. أربعة أيام حال المرض والدراسة بيني وبين معرفة الخبر. انهالت عليّ وحدة أثقل مما ألبستني الغربة. كيف نواجه أحزاننا الملتصقة كظل؟! كيف نتابع أيامنا دون حب وأحلام؟! وهل نجرؤ على مواصلة الأحلام وقد مات سيدها؟!
جرفتني عاصفة البكاء من موقع إلى آخر أقرأ مشدوهة كلمات الرثاء ولمحات عن حياته تعرّف القرّاء بشخصية الفقيد وأعماله. أيّة سخرية أن يعلّبوك بصورة ذات إطار جاهز وشريط أسود صغير ويعلّقوك على الجدار لتموت هناك!
يقولون إن كان درويش مات فأشعاره لم تمت. أتغنينا أشعارك حقا عن إحساسٍ كان يملؤنا بأنّ أنبل الفرسان مازال يحمي بقية الأمل في صدورنا؟! يوم مات نزار قباني قالت الصديقة الصحفية فاطمة الشهابي: لم يبق من هؤلاء الشعراء الكبار غير درويش. هالتني الفكرة وخشيتُ من اتجاه العالم للسواد، وارتأيتُ أنّ سيدَ الشعر لايموت، أو على الأقل لن يموتَ في زمني. حمقاء كنتُ. فهذا الزمن- زمن الصراعات العربية- عربية- ليس لدرويش أو لي، وليس زمناً للحياة. عن زمن اقتتال فتح وحماس كتب درويش <أنت منذ الآن غيرك>:
مهما نظرتَ في عينيّ فلن تجد نظرتي هناك. خطفتها فضيحة.
قلبي ليس لي.. ولا لأحد. لقد استقلّ عني.
يومها رأيتُ في كلماته تأبينا لفلسطين والقضية ونفسه. لاأعرف لماذا في موجة الحزن الغاضب التي أغرقتنا جميعاً فكّرتُ: أتراه كان أخفّ وطاة لو مات درويش وبقيت القضية؟! اعتدنا أن نرفعَ الرسالاتِ فوق الأسماء والأشخاص، لكني رأيتُ فلسطين تحترق برصاص أهلها، والقضية تصير رماداً، وظلّ درويش يغذينا بالأمل والحب والجمال. كان صوتَ أمّة وشعبٍ عبّر عن أحزانهما ورسم أحلامهما. ولما صارت كلماته قيدا لروحه وشعره فكّ طوقه الحديدي، وسرّح جدائل مخيلته إلى واحات ورؤى جديدة للحب.عند أفق حياته الأخير لامسَ النار المضيئة، وهوى كفراشة مرهقة الجناح. لم يخن درويش نبعَه، لكنه اكتشف طرائق أخرى للتدفق. وحين رأى جعجعة النضال تطغى على نبض الحب وهمس الشعر حطّ رأسه على صدر الوطن ومات.
أيّة عظمة يختال بها الموتُ وقد عانق جسدكَ، واصطفاك لنفسه فرضيتَ!
لعلّه سيتوهّج دهراً وقد مسّ الشعلة الحية بشفتيه!
لعله – مرتويا بك- لايموت!
يوم ماتت أمي كتبتُ:( أمسكُ بطرف ثوب أمي وهي تطوف في أرجاء البيت الكبير تقضمُ كسرة من الخبز -هي مايسمحُ لها بها الوقتُ المزدحمُ بالأعمال- أرى كسرة الخبز هذه تتحول بين أصابع أمي إلى فطيرة شهية فأسلبها إياها وأركض سعيدة بما غنمتُ، بينما يستفيض وجهها بالحزن لوجبتي البسيطة مرددة: هي كسرة خبزٍ يابنتي.. لن تحبيها!
أقتربُ من جثمانها المسجى. ألمسُ وجهها ويديها وجسدها بهدوء يثير قلق الأقارب الذين ظننوني ذهلت، بينما كنت أحاول أن أكتشف كنه الموت فيها.. هذا الذي لمسها وعانقها.. لابدّ أن يغمره نورُها، وأن يصير جميلا كجنة قلبها)
كانت هذه الورقة الصغيرة التي كتبتها منذ عشرين سنة هي زائرة الليلة السابقة. وأعترف هنا أن إحساسي بجمالية الموت لم يستمرّ، فعندما عاد وأخذ أبي لم أرَ فيه إلا عدواناً وشراسة وغدرا. مَن أرسل تلك الخاطرة إلى منامي يوم جنازة درويش إذاً؟! وهل بلغت مصادقتي للموت حداً تجعلني أشتمه حتى وهو بعيد؟!
كأنّ للموت شخصياتٍ عديدة، وكأنّ ذاك الذي تجمّل بأمي نفسه الذي يتوهّجُ الآن وقد ضمّ إليه درويش. ولعلّها إحدى نزواتي الغريبة في حماية نفسي من انهيار الأمل أن أرى الموت أجمل من أحلامنا وعنفواننا وهذي الحياة على الأرض!
تباركَ الموتُ بك يادرويش وتفتحت في أعطافه سنابل القمح والورد والزيتون ورائحة خبز الأمهات وقهوتهنّ!
قد امتلأتَ بكل أسباب الرحيل كما تقول،ُ فامضِ وعلّم الموتَ معنى الوصول.
نَم هادئاً في كلامك واحلم بأنك تحلم
نَم هادئاً قرب نفسك
نم هادئا، سوف أحرس حلمك.
08-أيار-2021
26-تشرين الثاني-2010 | |
21-تشرين الثاني-2010 | |
01-أيار-2010 | |
29-آذار-2010 | |
14-تشرين الثاني-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |