جمهورية السلحفاة
2007-12-31
لمّا علمت النملة هنيّة باختراعِ الحاسوب والانترنت ووصولهما إلى البلاد صارحت قومها بأنّها لم
تعد تطيقُ العيشَ في جُحرٍ ترابيّ طوالَ أشهرِ الشتاء، وغادرتهم محمّلة بنصائحِ الكبارِ وتمنياتهم بالحظّ السعيد.ورغمَ أنّ وسائلَ الاتصالِ الحديثة أنتجت ألواناً من الحريّة، ويسّرت المعرفة لكلّ من يريدها، فإنّ الأمرَ لم يكن كذلك بالنسبة لهنية. فأن تجلسَ نملة على مقعدِ الجامعة، وتتقدّمَ لنيل الماجستير في علم طبقاتِ الأرض أمرٌ جعلَ البشرَ يفغرون أفواههم ثمّ ينسَون أن يطبقوها.
ناضلت طويلاً لتكونَ إنسانة، ويوماً بعد يوم راحَ يرسخُ في شعورها أنّها مجرّد هوام، إلى أن وصلتها رسالة من حكيم قريتها يقولُ فيها:" إنّ شعبَ النمل بكامله فخورٌ بك، ويعدّ نجاحَكِ في شقّ قنواتٍ بيننا وبين بني البشر مهمّة نبيلة ، بل سفارة تليقُ بكِ".
سالت الدموعُ من عينيّ هنية وهي تتخيّلُ الجليلَ ذا القلنسوة السوداء، وقرّرت أن تكونَ معلّمة تنقلُ
حكمة شعبها المتكوّنة عبرَ مائة مليون سنة إلى بني البشر.
تأنّقت بارتداء ثيابها. صففت قرنيّ الاستشعار. نظرت إلى نفسها في المرآة، ودهمها إحساسٌ لطيفٌ بالعزّة.
لمّعت أحذيتها الثلاثة، ومضت في رحلتها الجديدة. استقلّت أربعَ حافلاتٍ وسيارتيّ أجرة لتجمعَ الأوراقَ المطلوبة للتعيين.
وقفت أمامَ كوّاتٍ صغيرة باحترامٍ وأدبٍ جم تنتظرُ أن يخطّ الموظّفون رسوماً بدائية لامعنى لها على حواشي أوراقها، هامسة لنفسها:
" ماأعجبَ هؤلاء البشرَ، وماأصعبَ فهمهم! لماذا يتشبّثون بهذا الابتكارِ الطفليّ- الذي يسمّونه توقيعاً- رغمَ ماوصلوا إليه من تقدّمٍ علميّ وفنيّ"؟!
نظرَ إليها موظفٌ له شكلٌ باردٌ ورخو كالشمع ولسانٌ كالفتيل المشتعل، خاطبها من طرفِ فمه بصوتٍ كنقيق الضفدع:
" أنتِ أيّتها النملة الضئيلة! معاملتك ناقصة. ارجعي غداً".
وسعلَ فطارت السيجارة من فمه، فقهقه ضاحكاً وماجَ كرشه أمامه، وماعَ جسده الهلاميّ. وماكادت تبتعدُ خطواتٍ حتى اهتزّ قرنا الاستشعار، والتقطا صوتَ الضفدعِ يسألُ رفيقه:" هل تصدّقُ حكاية القائد والنملة"؟ ردّ صوتُ حمارٍ حكيم:" يجبُ أن نتحقّقَ إن كانَ هذا القائدُ انتصرَ فعلاً أم هي إحدى مزاعمِ التاريخ"! فعاد الأول ينقّ:" غداً تعودُ النملة ونرى"!
انزرعت منذ الصباحِ الباكرِ أمامَ الكوّة المغلقة على رأسِ صفّ من المراجعين متذكّرة رحلات ِ البحث عن الطعام في قريتها البعيدة.
كم من القوافلِ قادت بنجاحٍ تامّ! لم تذكر أنّ ذرّة واحدة مالت عن الصف وقطعت السلسلة الرائعة. أطلّ الوجهُ الشمعيّ أخيراً من الكوّة. جالت عيناه يميناً ويساراً. غمزَ بعينه رجلاً يقفُ وراءَ هنية، فنظرَ هذا إليها ضاحكاً ببلاهة ، وتقدّم خطوة عملاقة ليحتلّ مكانها. وفعلَ الثاني مثله. حاولت هنية أن تتشبّث بموقعها الثالث بعذوبة، وهي تظنّ أنّ الكاميرا الخفية ترصدها، ثمّ وجدت معظمَ الرجال يزاحمونها ويدفعونها إلى الوراء، فحمدت اللهَ على قوانين حماية البيئة التي منعت هؤلاء من أن يدهسوها بأقدامهم. ركنت في آخرِ الصفّ كنبتة مشلوعة ذابلة تستمعُ إلى زفراتِ الناسِ وشكاويهم وتعليقاتهم الساخرة. انتظرت حتى الثانية ظهراً حيثُ بدأ الموظفون يتسرّبون سرّاً قبلَ أن يصلَ دورها، فانصرفت خائبة تشتمُ وتلعنُ بكلّ الألفاظ التي تعلّمتها من البشر.
في اليوم التالي انتظرت كعادتها منذ الثامنة حتى العاشرة ليأتي موظفٌ ما . تقدّمت إليه بورقةٍ تحتاجُ توقيعاً، وعلى شفتيها طعمُ كلماتٍ جنينية:" صباحُ الخير سيادة الوزير"! نظرَ إليها الموظفُ شزراً، وقد وقفت خصلة شعرٍ فوق جبينه كعرفِ الديك، وانتفخَ عرقٌ في عنقه، فانتابَ الهلعُ هنية من فكرة أن يكونَ اسمه سليمان ويترجمَ ماهمهمت به بلغتها الخاصة.
قالَ كمن يضربُ بالسوطَ:" يافتّاح ياعليم! انتظري حتى نشربَ قهوتنا".
وانتظرت نصف ساعة أخرى، وكبرياؤها ترتجفُ غيظاً وغضباً، لكنّها سكنت فجاءة لتتابعَ ثرثرة الموظف مع زميلته التي ناولته فنجانَ القهوة بجسدٍ يتقصّعُ في أضيق الملابس ووجهٍ مطليّ بأصباغٍ ثقيلة تمنعُ إطلالة الصباح من مباركته.
قالَ معابثاً:" مابكِ كلّما اقتربتِ منّي سالَ ريقكِ"؟ فصرخَ موظفٌ من آخر الحجرة:" لابدّ أنّها كلبة جائعة"! وانفجرَ بقية الموظفين بالضحك، بينما علا صوتٌ آخر:" المهم ألاّ تكونَ مسعورة". تمتمت هنية:" ياللهول"! وصمتت مرعوبة.
استمرّت تجمّعُ أوراقَها بعنادٍ أحياناً ويأسٍ أحياناً أخرى: قيدَ النفوس، وثيقتيّ الثانوية والجامعة، الكشف الطبي، التبرّع بالدم، غير موظف، غير محكوم وغيرها... وكانَ عليها كنملةٍ ناهضة من تحت الغبار أن تعبرَ جهاتِ المدينة الأربعة، وتطوفَ مبتهلة لتعودَ ببركاتِ حجّها الإنسانيّ. لفت على الدوائر السبعة، وجابت الغرفَ الثلاثين، واجتازت أصعبَ المتاهات لترصّعَ بالتوقيعات والأختام ثروتها الورقية المتنامية.
بينما كانت الحواسيبُ- أعظمُ اختراعاتِ العصر- والتي تكاثرت كالأرانب في الدوائر الحكومية، تخترقُ حُجبَ الزمان والمكان، وتقبسُ شعلة البهجة والمتعة والطرافة.
نظرت هنية بفضولٍ إلى شاشاتٍ تطلّ منها أوراقُ لعب. تنحّت جانباً لئلاّ تزعجَ ثلاثَ موظفاتٍ التففنَ حولَ جهازٍ أخذت صاحبته تقرأ شاشته.
توتّرَ قرنا الاستشعار، فسمعت هنية الصوتَ الناعمَ يموءُ:" جلست نملة مع حبيبها الفيل. صاحَ بذعرٍ: جاء أبوكِ! فقالت: اختبئ ورائي بسرعة"! وانطلقت الضحكاتُ الناعمة صوبَ هنية كندفِ الثلج. أنقذها صوتُ موظفٍ آخر:" هِي رندا! اسمعي برجك اليوم".
لمحت رقعة شطرنج تطلّ من شاشة أخرى، فأحسّت باحترامٍ خاص تجاه الموظف الذي يخوضُ غمارَ معركته بطمأنينةٍ منصرفاً عن كلّ المعوّقات السخيفة. ويبدو أنّ أشدّ المعوقات لم يتأخّر كثيراً، فقد رأت هنية بأمّ عينها كيف بترَ مراجعٌ لحوحٌ اللعبة الأنيقة دون رحمة طالباً بياناً بوضعه الماليّ مشفوعاً بتوصية وسلامٍ حارّين.
سأله الموظفُ عن اسمه ومكانِ عمله، ولسانُ حاله يقولُ:" لولا سلامك سبقَ كلامك... وبدأ يرقمُ الحروفَ بأصابعَ تنضحُ قرفاً واستياءً، مالبثت- وقد لاحظت نظراتِ المراجعين- أن اعتدلت في حركاتها منجزة عملها بدقة دون أن يفوتها ادّعاءُ التراخي واللامبالاة الموحيين بمهارتها. ولم تستطع الأصابعُ أخيراً إلاّ أن ترتعشَ بالزهو والكبرياء، وهي تلملمُ النظراتِ الفضولية التي انسفحت بصمتٍ وخشوعٍ، وركعت أمامَ هالة هذه الآلة المهيبة الساحرة والجليلة.
بعد لحظاتٍ فقط أعطتِ الأصابعُ المُراجعَ رقمَ سجلّه ليبحثَ عنه بين الملفاتِ الضخمة التي شغلت جانبيّ الحجرة الواسعة.
مرّت أكثرُ من ساعة أنهت فيها هنية عملها وخرجت، والشاطرُ حسن مازالَ يبحثُ في خزائن البحار السبعة عن لؤلؤته الثمينة. وقد تساءلت هنية بينها وبين نفسها:" لِمَ لم تُنقَلِ البياناتُ كاملة إلى الحاسوب؟ هل يخشَون على الخزائن من معاناة الإحساس بالضآلة والعجز إذا ماأحيلت إلى التقاعد"؟ ثمّ قرّرت:" ربّما هذا الحاسوب الذي يتباهى الغربُ باختراعه مازالَ عاجزاً عن القيام بما يفعله أي مواطن بسيط في هذا البلد"!
مع ذلك لم تشعر بالفخر من إنجازاتها المتراكمة في ظرفٍ كبير حملته بصعوبة وقد فاقَ وزنها بمئات المرات، وكسرَ زوجاً من أرجلها الستة ، فأعانها عصفورٌ بقشّتين صغيرتين تعكّزت عليهما مستغربة كيف يسيرُ العملاقُ الإنسانيّ على اثنتين فقط. همهمت لنفسها:" ربّما لذلك هو ضعيفُ الهمّة".
واصلت صعودَ السلالمِ المتّسخة، وأنينٌ موجعٌ يتسلّقُ روحها. يلتصقُ بعظامها الدقيقة لتهبطَ أخيراً باليأسِ والخيبة والضياع والحيرة مكتشفة أخطاءَ بعض الموظفين، وجهلَهم بطبيعة القوانين والأنظمة. وهذا تطلّبَ منها أن تبدأ من جديد تتقاذفها الدوائرُ والمكاتبُ ككرةٍ ترمى باليدِ حيناً وحيناً تشوطها الأقدامُ، وأصواتُ اللاعبين تتراشقُ كسهامٍ تحدّدُ خطّ سيرها:" يمين، يسار، فوق، تحت".
في البداية لم تفهم هذه المصطلحات الظرفية أو الإشاريّة المختزلة، وإن استفهمت من موظفٍ ما أعادَ نفسَ التعبير بعصبيةٍ أكبر. إلاّ صاحب الوجه المجدور والرأسِ الأصلع. كان سخيّاً في توجيهه:" الآنسة منال. فوقي". وكأنّه انتبه فجاءة إلى كلماته، فاهتزّ جسده صاخباً من الضحك، وتناثرت قطراتُ لعابه مع الكلمات المعربدة:" تخيّلوا ! الآنسة منال فوقي! ها ها ها ها ". وانسحبت النملةُ بغضبٍ وخجل.
في نومها راحت هنيةُ تتمتمُ:" يمين، يسار، فوق"، وجسمها المتعبُ يهرولُ في كافّة الاتجاهات ثمّ يهوي إلى تحت، ويهوي على رأسها رفٌّ كاملٌ من الكتب التي تملأ حجرتها، وينفتحُ كتابُ حكاياتٍ على صورة أرنب وسلحفاة يتسابقان في الجري. تمطّ هنية عنقها من تحت أسفارِ المعرفة لتسمعَ صوتَ جليلِِ النملِ يتدفق مهيباً:" السلحفاة ياأبنائي أنبلُ من ذاك الأرنب المراهق الذي يثبُ هنا وهناك".
وماكادت تطلّ على صفحة أخرى حتى انتفضَ آخرُ الأطياف العالقة برموشها فارّاً إلى الأعماق الخفية.
استيقظت مكسّرة من شقاءِ النهاراتِ وانفجارِ الألمِ والاحباط عبرَ تراتيلها الليلية.
غسلت وجهها فزالَ آخرُ ظلٍّ من ابتساماتها، وارتخت الشفتان بذبولٍ كبيرٍ متدلّيتين فوق ذقنها الصغيرة المدبّبة.
زمّت بين حاجبيها فزاغت نظراتها داخلها. بدت لها الكتبُ والمراجعُ المتراكمة على طاولتها أهراماتٍ ضخمة، وتراءت لها شهادة الماجستير حلماً يحتاجُ تحقيقه إلى زمنٍ حسّاسٍ يلفظُ زفراتِ الروتين والتراخي عن مفاصله المتكلّسة. لقد غضبَ منها هذا الزمن المتعبّدُ لطقوسِ ضعفه، وثارَ على خطواتها الصاعدة المتفائلة، فجذبها لترتدَّ إلى القاعِ الأسفل، وتسيرَ في ركبِ الأمّة المناضلة بتؤدةٍ وصبرٍ عجيب.
ركبت الحافلة وحدها. دون آمالها الكبيرة. نزلت عند مقبرة الدحداح، وانعطفت إلى اليسار. فاجأتها سلحفاةٌ ضخمة تلوبُ أقدامُها في الأرض ببطءٍ خرافيّ، وأسرابٌ من السوس تتزاحمُ عليها. تدخلُ فاها الملتوي بؤساً وحزناً. تسري في شرايينها وأوردتها، وتعيثُ بقلعتها الحصينة. صادفت في الطريق عاملاتٍ من بني جنسها لهم ملامحٌ مختلفة عن قريتها. أحنوا جميعهم قرونَ الاستشعارِ كتحيّةٍ قوميّة، ثمّ تابعت طريقها، وقد سرى في جسدها تيّارٌ ولّدته حركة السلحفاةِ المتواترة الرتيبة.. توقف لحظة عدّلت السلحفاة فيها من وضعها.
اتّكأت على ذراعٍ جديد. نظرت حولها بعيونٍ وسنى وعاودت سيرها- بل نومها- الحثيث. وفي غطيطها راحت تتمتمُ:" يمين، يسار، فوق، تحت". وتذكّرت هنية الطيفَ الهاربَ من نومها ليلة أمس. كان سلحفاة غيوراً لاتملكُ حيوية الأرنب ولا دأبَ الحكاية. علّقت في عنقها تعويذة الكترونية.
كان لابدّ للتقاليدِ العريقة أن تستمرّ، وأن تنحني الهاماتُ أمامَ المستحاثّاتِ وغبارِ المتاحفِ العابقِ بالخيالات، فاندفعت ذرّيّة جديدة من السلاحفِ الحاسوبية الصغيرة تجوبُ أروقة الدوائرِ الحكومية. تلتهمُ خرائطَ الوجودِ بوجوهٍ كالحة وعيونٍ مثقلة بالنعاس.
تصطادُ الآمالَ الخارجة على القانون، وتقدّمها قرابينَ ولاءٍ على صليبِ الجهاتِ الأربع. راقبت هنية الناسَ كيف يتحرّكون كآلاتٍ دقيقة توجّههم بوصلة جديدة، وأخذت علاقتها مع المكان والجهات تتطوّرُ، ودخلت في ذهنها مفاهيمُ معاصرة عن اليمين واليسار والفوق والتحت. لاحظت أنّ هذه التعابيرَ تُستخدَم بعفويّة ودون مراقبة سياسية، فراحت تتأرجحُ بين اليمين واليسارِ بخفة، وتقفزُ من فوق إلى تحت ومن تحت إلى فوق دونَ عُقَدِ الطبقاتِ وإرباكاتها.
وراحت تذوبُ بكلِّ ماترى، وتصيرُ جزءاً من عالَمٍ ميكانيكيّ التصوّف. تلوبُ روحُها خلف حقوقها الوطنية كإحدى الرعايا في جمهورية السلحفاة.
وحين نجحت أخيراً في اجتيازِ الممرّاتِ والتهامِ الغبارِ القدسيّ، ووقّعَ لها المديرُ على ورقةٍ مع شيفرة جديدة:
" إلى الدائرة"، تفتّحت فيها طاقاتٌ خلاّقة، وقد نضجت برمجتُها التي ظلّت تغذ إليها السيرَ منذ مجيئها إلى هذه البلاد- واعية أو غيرَ واعية- فالتفتت كلّها إلى الخلف، وقد انبعثت فيها روحُ سلالة فريدة.
تقدّمت خطواتٍ بطيئةً وموزونة إلى وسطِ الحجرة، وراحت تدورُ حول نفسها وتدورُ وتدور
08-أيار-2021
26-تشرين الثاني-2010 | |
21-تشرين الثاني-2010 | |
01-أيار-2010 | |
29-آذار-2010 | |
14-تشرين الثاني-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |