لقاء حميم مع الشاعر عبد الرحمن الأبنودي
2008-08-26
عبد الرحمن الأبنودي": الأدب فقد جماهيره؛ لأن الأدباء ابتعدوا عن الناس.. ومعظم شعر الفصحى الآن مصيره "مزبلة التاريخ"!
الحوار مع الخال "عبد الرحمن الأبنودي" لا يحتاج إلى مناسبة، وفي كل مرة تجلس إليه أو تستمع لعذب حديثه ستكتشف الجديد والمثير، ذهبنا إليه هذه المرة إلى الإسماعيلية حيث يقيم الآن بعيداً عن صخب وتلوث القاهرة كما نصحه الأطباء بعد عودته من رحلة العلاج الأخيرة، الحوار معه بدأ عن حال الشعر الآن، ولأن الحال لا يعجبه وجدنا نفسنا نُبحِر في عالم رفيقِ دربه وابن صعيده الشاعر الكبير "أمل دنقل" الذي مرَّ على رحيله في مايو الماضي ربع قرن، وهكذا بدأ الحوار مع الكبير ليكون معظمه عن كبير آخر...
هناك اتهام يتم توجيهه بشكل دائم للأدباء في هذه الأيام وهو وجود حالة من الانفصال الحاد بين موقف الأديب وإبداعه.. كيف ترى هذا؟
قديما كان الأدباء لهم مواقف ومعارك؛ لأن طبيعة المرحلة التي كانوا يعيشون بها كانت تفرض ذلك؛ حيث كان هناك برلمانات حقيقية وأحزاب فاعلة بالإضافة إلى إيمانهم بفكرة وضرورة التنوير وإيقاظ الناس.. لكن الآن لا نجد ذلك، لكني أيضا أستطيع أن أؤكد أن هذا الحال لن يدوم، وإذا دام فأملنا كبير في حماقة العدو؛ لأنه المنوط به إيقاظ هذه الأمة، فنحن نجد إسرائيل تتحرش بنا يوميا، وهي لن تكتفي بهذا؛ لأنها دولة توسعية، ونحن على الرغم من مهاودتها وتفريغنا لسيناء من أجلها وتسميتنا لكل مشروعاتنا بـ"السلام" إرضاءً لها... رغم كل ذلك لا نرى منها سلاماً. أما بالنسبة للأدباء والمثقفين الآن فهم يدّعون أنهم يفهمون الناس وهم ليسوا كذلك؛ فهم حوَّلوا الناس إلى مسائل جبر، والناس أصبحت لا صلة لها على الإطلاق بهم فلهم عالمهم وللمثقفين عالمهم، وأنا لي قصيدة تعبِّر عن ذلك اسمها "الدائرة المقطوعة" وكان بعض الإخوة الثوريين يتضايقون منها ويقولون أنهم فعلا نزلوا للناس وأنهم في قلب الجماهير، وهذا ليس صحيحا، ودلت التجارب أن الأحزاب التي لها نصف قرن من التواجد لم تصنع شيئا، بالعكس فقدت جماهيرها وهم سعداء بهذا الفقد. ثم إن المثقفين انشغلوا بلقمة العيش التي باتت من أصعب الأمور، والناس عموما باتت تحصل عليه بـ"خلع الضرس".
ألا ترى أن كثيراً من شعراء العامية الأن تأتي قصائدهم دون طعم أو لون وفي أحيان كثيرة بلا معنى؟
الشعر -بشكل عام- يعاني من كل هذا؛ لأن انفصال الشعر عن القضايا المهمة هو الذي أفقده الحيوية والخصوبة، وبالتالي الصلة بالبشر، ولن أتحدث عن المنفعة؛ لأن هناك اتجاهات تُدين توظيف الشعر ونفعيته، ولا أعني بذلك القضايا العامة بمعنى القضايا الجماهيرية والقضايا السياسية، فنحن دائما متّهمون بأننا نريد أن ندخل الشعر حظيرة الصراع مع الدولة، لكن ما أتحدث عن غيابه هو هذا الشعور بالناس، والشعور بأننا جزء من الكل ويجب على الشعراء والمثقفين إدراك أهمية هذا الشعور، وإلا سيسهل على أي نظام أن ينفخنا في الهواء.
هل ترى أن الشعر ما زال يمتلك القدرة على التغيير أو التعبير على الأقل عن قضايا الناس وهمومهم؟
ليس الشعر فقط الذي لم يعد قادراً على التغيير وإنما الأدب كله بشكل عام، فالأدب دائماً كان يمهد الطريق أمام السياسيين ويهيئ الناس للفعل السياسي، وانظر إلى الأدب قبل الثورة الفرنسية والروسية لكن الآن لا يوجد فعل سياسي بالمعنى الحقيقي.. الوحيد الذي يتحرك هم أعداء الشعب.
هل تعتبر أن اللجوء لقصيدة النثر في شعر العامية هو عجز عن كتابة القصيدة بشكلها التقليدي؟
ليس عجزاً وليس هروبا من القافية والوزن، وإنما هروب من الموقف كله، ودوما كانت قصيدة الشعر العربي يتم التعامل معها ليس بقيمتها الإبداعية وإنما بقيمتها الإنسانية.
هل تعتقد نفس الرأي في شعر الفصحي؟
وهل لديك قصيدة فصحى؟!! أنا أقرأ كل ما يكتب وأرى أن معظمه سيُرمى به في مزبلة التاريخ.
الكل يعرف صداقتك القوية التي جمعتك مع الشاعر الفذ "أمل دنقل".. كيف تنظر إليه بعد مرور 25 سنة على رحيله؟
"أمل دنقل" كان تجربة فذة وفريدة سواء على مستوى الإبداع أو على المستوى الإنساني كما كان سريعاً في التقاط الحياة من حوله وتجسيدها، فنجد أشعاره التي عبر فيها عن قراءاته مثل "أوراق أبي نواس" و"ابن نوح"... وغيرها غاية في الأهمية، لكن قمة أشعاره هي تلك التي كتبها وهو في رقدته بمعهد الأورام "أوراق الغرفة 8"، وقد كنت معاصراً لتلك الأشعار وكنت أسعد جدّاً حينما يقول لي إنه كتب قصيدة بالأمس ويقولها بإهمال ثم حين يقرأها كنت أشعر بأني غير قادر على التعبير، ولم أر حتى الآن إنسانا رصد وجود المريض والعالم من حوله بهذه الدقة وبهذه الحساسية وبهذه الأمانة الفريدة في التعبير عما يحسه فهو لم يكن شاعراً يستعير مواقف أو أحاسيس، وإنما شعره كان مرآة لأفكاره ولروحه وعواطفه، وحتى حينما رحل فقد رحل قويا جدّاً بعدما عامل الموت باستهانة، وكان يضحك وهو يحتضر، لذا فأنا أرى تجربة "أمل" في الحياة والشعر والموت فريدة من نوعها، ولم أر مثلها على الإطلاق إلا في حالة أمهاتنا "فاطنة قنديل" أمي، و"يامنة" عمتي، وأنا كتبت قصيدة عن أمي قلت فيها:
أمي والليل مليل
طعم الذات القليل بترفرف قبل ما ترحل
بجناح بريشات حزانى
وسددت ديونها وشرت كفن الدفانة
تقف للموت يوماتي.. مجاش ابن الجبانة!!
يعني هذا الاحتقار للموت، وكأن الموت فعل إرادي والتعامل معه على أساس أن هناك علاقة ندية مع هذا الموت فكان "أمل" خير تجسيد لها كما أنه كان يحظى باحترام حقيقي من المثقفين لقدراته الشعرية ولالتصاقه بمواقفه؛ لأنه كان رجلا لا يحمل غير وجهه، وما زلت حينما أذهب إلى صعيد مصر سواء كنت بمفردي أو في زمرة من الأصدقاء لا بد وأن أمر على قبر "أمل دنقل".
ما رأيك فيما قيل عن "أمل دنقل" أنه كان عدوانياً وسليط اللسان؟
"أمل" كان يخشاه من لا يعرفه؛ لأنه كان يبدو شرسا، وكأنه لا يطيق أحداً، وهو في الواقع كان يصنع سدا بينه وبين الآخرين؛ لكي يستطيع أن يقيم علاقة متوازنة وحقيقية. وأذكر أننا حينما كنا صغاراً كانت مشاكله تمشي معه، وتحت أقدامه، وأهله كانوا دائما يخوضون المعارك من أجله، وهم يعلمون أنه المتسبب أو السبب أو البادئ بالمشكلة والتعارك مع الآخرين، ولكنه كان لا يتعارك كنوع من الانفلات، ولكن كعاشق للخوض في التجارب، ولذلك اختار في أشعاره "أبا نواس" وغيره من المناوئين.. أي أنه استدعى من التراث المشاكسين القريبين من روحه، وكنت عندما تقترب منه تجده إنسانا قديما جدّاً إلا أنه شاعر حديث جدّاً جدّاً.
لماذا لم يحمل "أمل دنقل" الريف الذي أتى منه في قصيدته التي ظلت حتى وفاته لا تنتمي لهذا الريف بينما حملت كل قصائدك هذا المكان بشخوصه ولغته؟
أولا أنا و"أمل" كتبنا في بداياتنا بالفصحى، ولكن أنا أدركت أن قريتي "أبنود" التي أعشقها والتي سوف أكتب عنها لا تصلح للفصحى خاصة حينما ذهبت بقصائدي لقراءتها على رفاق الطفولة ورفاق الرعي، وأمشي خلف الحصادين لم أنل الترحيب المناسب أو الفرحة التي كنت أنتظرها بهذا الشعر، بل أحسست أن هناك حاجزاً زجاجياً حدث بيني وبين أحبائي الذين ليس بيني وبينهم أي حواجز، فكان لا بد وأن أفكر في الكتابة بلهجة هؤلاء الناس وأعبر عن عالمهم؛ وذلك لأن لديهم الموال والمربع، ومن ثم فهم ليسوا في حاجة إلى شعري وإذا لم أكن قادراً على أن أنفذ إليهم من خلال هذه الأشعار فلن يستمع إليّ أحد منهم، وبالتالي فلن يستمع إليّ أحد من كل "التحتيين" الذين اخترت الكتابة عنهم ولهم، لكن "أمل" اختار المثقفين وأن يصبح مع "محمود حسن إسماعيل" وغيره من الشعراء العظام. كما أن كل الوقائع والشخوص التاريخية التي استوحاها في أشعاره لم تكن لتخاطب الفلاحين، إنما تخاطب المتعلمين والمثقفين لكنه في قصيدته "لا تصالح" أظن أنه استقطب مساحات كبيرة من البشر وعلى الرغم من أنه استوحاها أيضا من "الزير سالم" و"كُليب" و"جليلة بنت مرة" إنما نزل بها -لأنها عبّرت عن الأمة العربية كلها- إلى مستويات أقرب للشعبية، وإن لم يتنازل عن عالمه الشعري وأدائه اللغوي، وكان قد نضج نضجا كبيراً في الاستفادة من الملحمة والعلاقة الحميمة من التراث، وفي النهاية فإن خريطة "أمل دنقل" الشعرية خريطة متسعة جدّاً وبطريقة غير عادية.
لو أنه كان ما زال حيا بيننا.. هل لك أن تصور لنا رأيه في المثقفين وموقفهم من الأوضاع التي نمر بها الآن؟
الحقيقة أن أمل كان معظم آرائه في المثقفين وفي الحياة السياسية تصب في شعره، ولم يكن يتحدث كثيرا في ذلك. وإنما كان يتحدث في المسائل التي تخصه وتخص أصدقاءه، وكان يعلم أن الكلام الكثير في السياسة يفسد القصيدة السياسية، وكذلك الكلام في الحب يفسد القصيدة الرومانسية، ويجعلك هذا الكلام مكتفيا بما قلت، ولا تقترب حبيبتك من شعرك.. وكان دائما لا يخبرنا بقصيدته التي ما زالت في علم الغيب ولم يكتبها بعد.
هل صحيح أن "أمل دنقل" تنبأ لك بالغنى والشهرة وأن الناس سينسونه؟
كنا صغاراً عندما قال لي هذا الكلام، وهي نبوءة شاعر، وهو أدرك منذ صغره أنه سيصير شاعراً فصيحاً، وسيكون مع الشعراء البعيدين عن الناس.. أما أنا فكنت منذ وقت مبكر معجباً بأغاني الفلاحين والصعايدة، واستطعت أن أكتب أغنيات في وقت مبكر جدّاً، فهو رأى أنني سوف أكتب شعراً سينال مساحة كبيرة من الجماهير لذا سأكون مشهورا جدّاً. لكن فكرة أني سأصبح غنياً فقد كان هذا غريباً عندما سمعته منه حتى أنه قال لي وقتها: أرجو عندما تصبح غنيا ألا تنساني، ويجب ألا نكون مفترقين. وهذه النبوءة لم أهتم بها حينها لكن في إحدى المرات وفي الغرفة 8 بمعهد الأورام وفي حضور زوجته قلت له: يا "أمل" زمان واحنا صغيرين قلت لي حاجة.. قال لي: فاكرها. وسرد لي هذه النبوءة دون أن أذكّره بها وكأنه يعلم بما أريد أن أقوله قبل أن أقوله. فهو بالرغم من أن أهل قريته كانوا يعتبرونه ناشزا إلا أنه كان إنسانا متطابقاً مع نفسه بعظمة لا مثيل لها، وأذكر عندما أوصاني بأن يدفن مع أبيه قال لي: سوف يقولون لك: لقد بنينا مقابر جديدة تليق بما وصل إليه "أمل دنقل"، ولا يصح أن يُدفن في المقابر القديمة فكن مصرّاً على دفني مع والدي.. وهي المعركة التي خضتها مع أهله لكي يدفن مع والده مثلما خضت معركة لكي يدفن "يحيى الطاهر عبد الله" أسفل "العالية" التي كتب عنها كثيرا في رواياته -رحمهما الله جميعاً.
----------------------------------------------------------------
سامح قاسم
شاعر وصحافي مصري مقيم بالقاهرة
08-أيار-2021
26-آب-2008 | |
23-آب-2007 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |