الديمقراطية بين الليبرالية و ضرورات التغيير
2006-11-27
تنتظر مجتمعاتنا إنجاز العديد من المهام و تجاوز الكثير من الأزمات المتراكمة, هذا يفترض أن تمتلك النخبة السياسية و المثقفة و بالتالي طبقات الشعب المختلفة أطروحاتها و مشروعاتها عن إنجاز هذه المهام و حل تلك الأزمات و يفترض أن يشكل الجدل بين هذه المشاريع, الذي يستهدف كسب تأييد الشعب في الداخل و الحوار مع الخارج الحوار الإيجابي بمعنى أنه لا يتأثر فقط و لا يكتفي بالتلقي, أساس الحراك المجتمعي و أساس التوصل إلى تحديد الخيارات المستقبلية..هذا لا يتعدى كونه خيالا غارقا في المثالية..فالمشاريع عمليا غير موجودة أو غير مكتملة الصياغة في أحسن الأحوال و ما تزال في حالتها الخطابية الخام..على غرار القومية و الاشتراكية في الخمسينيات و الستينيات من القرن العشرين اجتاحت الموجة الليبرالية النخبة المثقفة على الأقل هذه المرة و تحولت إلى قضية ملحة "حقيقية" جدا ضاغطة على مجمل الجدل
السياسي و الثقافي و لكن هل تمكنت هذه الموجة و النخبة التي تبنتها من خلق أو تكوين معالم مشروعها الخاص لإنجاز ضرورات النهضة الوطنية الديمقراطية التي ما زالت مطروحة بإلحاح منذ أواخر العقد التاسع عشر؟ أو هل ( في الأساس ) تطمح هذه الموجة لتحقيق هذه الحالة من النهوض الوطني الديمقراطي؟..ميز الكثيرون بينهم الأستاذ برهان غليون و حتى الكثير من الليبراليين الجدد أنفسهم بين الديمقراطية كقاعدة للجدل السياسي و الفكري قاعدة تؤسس للإقرار بحق الجميع في التعبير و المشاركة و بين الليبرالية التي وضعت نفسها كممارسة سياسية اقتصادية فكرية في معارضة سائر المشاريع التي وسمتها بالشمولية و شرعنت منطق سيطرتها على المجتمع و الدولة و إقصاء الآخرين أي باختصار تأسيس شمولية جديدة..هذه الليبرالية هي بتركيز شديد فكر و ممارسة النظام البرجوازي الغربي في مرحلة تاريخية خاصة و شروط محددة و حتى الآن فالسعي الفكري لليبراليين الجدد العرب لا يشكل أساسا "لتعريب" الليبرالية إذا كان هذا هو المقصود و هو لا يتجاوز حالة استيراد جاهزة معلبة ( على طريقة الفاست فوود الأمريكي ) لنتاج الليبرالية غربيا مع وعود غائمة بتحسن الأحوال دون مضمون برنامجي اقتصادي اجتماعي سياسي واضح أبعد من نقد الستالينية أو الأنظمة القوموية و الخطاب الأصولي و كشف عيوبها, هذا الفعل سلبي الطابع يستهلك منفردا جهود و إنتاج الليبراليين الجدد الفكري
ليبراليتنا و ليبراليتهم!
الليبرالية أمريكيا تستطيع أن تعد حتى الطبقة العاملة الأمريكية بالكثير سواء اقتصاديا أو على صعيد هامش المشاركة السياسية..غالبا بسبب التراكم الأولي الهائل و بسبب عالمية نشاط شركاتها الاحتكارية و التقدم التكنولوجي غير المسبوق فالنظام قادر على توفير دخول عالية لأرستقراطية خاصة من سائر الطبقات الأخرى لتشكل أساسا للمساومة بين الرأسمالية الحاكمة و بقية المجتمع..تستطيع الرأسمالية هنا تصوير الدفاع عن سطوتها الكونية كامبريالية أمام داخلها الخاص على أنه دفاع عن امتيازات هذا الداخل تارة أو على أنه دفاع عن نمط حياتها "الخاص الحر" تارة أخرى في عملية تجييش للداخل في بلادها وراء أهدافها الكونية الامبريالية..أما في دول الأطراف فالسؤال الجدي هو عن إمكانيات المشروع الليبرالي على المناورة داخليا و ماهية الوعود التي يستطيع أن يقطعها ( و يفي بها ) للشعب و صورة المجتمع في حالة تمكن هذا المشروع من التحقق على الأرض..حتى على مستوى عدونا التاريخي إسرائيل فالمشروع الليبرالي قد يستمر بتوفير إيجابيات معينة للشعب و يستطيع أن يزعم (استنادا على الحالة الصراعية بين القوميات و الطوائف و المذاهب و مع تصاعدها مع تقدم المشروع الأمريكي إقليميا) أنه الراص لصفوفه و الحامي الفعلي لوجوده أساسا..الشق الأول من أزمة المشروع الليبرالي عربيا تعود إلى أنه لا يريد و لا يستطيع أن يزعم أنه قابل للدفاع عن الداخل العربي المستباح عسكريا و سياسيا و فكريا بل على العكس فالخطاب الليبرالي الجديد عربيا يريد تغيير أو تعديل مضمون الهوية الوطنية و تعديل مفاهيم السيادة الوطنية و الاستقلال باتجاه إثبات شرعية التدخل الأجنبي وسيلة أساسية للتقدم باتجاه التغيير حسب وصفته الخاصة فهو بذلك يمثل الانعكاس السلبي للسياسات الإمبريالية الأمريكية التوسعية العنفية باتجاه داخله العربي..أما اقتصاديا فهو عبر سياسات الخصخصة و فتح الأبواب أمام استثمار رأس المال الأجنبي يحاول أن يعد بحالة أفضل من الراهن ( و إن كانت هي الأخرى غائمة و غير محددة) و هو يستخدم هذه الوصفة للتغيير أيضا في خدمة دعواته السياسية لإضعاف الاستبداد بالقول أن تحرير الاقتصاد سيرافقه تحرير الوضع السياسي..لكن هذه السياسات مطبقة بالفعل على الواقع فالعديد من الدول العربية أخذ بتطبيق سياسات الخصخصة منذ زمن حتى أنه حظي برضا مؤسسات العولمة الاقتصادية لكن هذا لم يترجم لا لنمو أو تطور في مؤسسات المجتمع المدني و لا دورها و لا في تقنين الاستبداد أو هز أساسه الاجتماعي أو في دمقرطة البناء السياسي ناهيك عن إنجاز ما وعد به من تحسن و انطلاقة في النشاط الاقتصادي أو حتى التخفيف من وطأة الأزمات الخانقة على الاقتصاد و على حياة الملايين (في مصر مثلا بدأ تطبيق هذه السياسات منذ فترة تعود إلى سبعينيات القرن العشرين) أما الدول التي ما زالت تستطيع تلبية حاجات شعوبها فهي أساسا الدول النفطية ذات الدخول العالية بشكل مصطنع..و كل ذلك على العكس من إدعاءات هذا الخطاب..عدا عن أن تنفيذ هذه السياسات النيو ليبرالية يمكن تطبيقها ( بل لعل تطبيقها أسهل و أقل توليدا للصراعات أو ردات الفعل الشعبية ) بيد الأنظمة القمعية اللا ديمقراطية..هكذا فما عدا أزمة الخطابات المنافسة و لا سيما في قضية الديمقراطية لا يملك الخطاب النيو ليبرالي الكثير..
الطرف الآخر من المشكلة أن قضية الديمقراطية تحمل طابعا حيويا حاليا ليس فقط لحل أزمة الأنظمة و ممارستها و قهرها للمجتمعات بل لدمقرطة مجمل النشاط الإنساني في مجتمعاتنا و إطلاق إمكانيات التطور و الفعل لمجتمعاتنا..إنها ذات حيوية خاصة لحالة الجدل الفكري المعرفي في بلادنا الضرورية لإطلاق المشروع النهضوي..و لذلك فقيام النيو ليبراليين بمصادرة موضوعة الديمقراطية في إطار خطابهم الخاص يفقد الحالة الراهنة إمكانيات هائلة للخروج من الأزمة فيسهل على الأنظمة تبرير استبدادها و للتيارات السياسية و الفكرية المعادية للمشروع النهضوي الوطني الديمقراطي أن تسيء لسمعة أصحاب هذا المشروع و للقيادات "التاريخية" للتيارات و القوى السياسية المختلفة المتمترسة خلف دوغمائياتها و "مشروعيتها" أن تصمد أمام دعوات و ضرورات التغيير..هذا يطرح بعمق ضرورة إجراء مراجعة ديمقراطية لمجمل خطابنا و ممارستنا السياسية و الفكرية مراجعة تنجز فعلا ما يدعيه النيو ليبراليين من تجاوز للسائد و تهيئة الأرضية للتغيير الوطني الديمقراطي .
08-أيار-2021
09-كانون الأول-2012 | |
19-كانون الثاني-2010 | |
15-كانون الثاني-2010 | |
11-تشرين الأول-2009 | |
06-تشرين الأول-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |