المكان و طقوس القداسة و انتهاك الإنسان
2010-01-15
لا شك أن المكان يشكل اختزالا للعلاقات الاجتماعية السائدة , بين الجنسين , و بين الأجيال كما بين الطبقات الاجتماعية . ففي بيوتنا الحالية تتبدى التراتبية الهرمية داخل الأسرة مثلا في ترتيب غرف المنزل و اختصاص كل منها بمجموعة ما من أفراد الأسرة و ترتيبها من حيث الأهمية و المركزية أو ما توفره للأب , أو الأبوين , من قدرة على مراقبة بقية أفراد الأسرة و التأثير في سلوكهم , تقوم هذه التراتبية على الفصل بين البشر على أساس تمايز الأعلى عن الأدنى , الفصل بين الجنسين , الفصل بين الأجيال , لصالح الذكر , الأب , الأبوين , و مركزية فكرة الملكية الخاصة نفسها التي تتبدى في ملكية كل شيء من قبل الذكر السيد , و خضوع كل شيء لهيمنته المطلقة أو شبه المطلقة , و في غرفة خاصة لاستقبال الضيوف – الغرباء , غرفة خارجية و شبه معزولة تحافظ بصرامة على مركز الأسرة بعيدا عن الأعين و عن الغرباء , أما التطور الذي جاءت به الحضارة الرأسمالية الغربية لتفاصيل هذا المكان , فهي غرفة الجلوس التي تشكل قاعة اجتماعات للأسرة تخفف من الفصل بين أفراد الأسرة بأن تخلق طريقة مباشرة في التوجيه و إعطاء الأوامر وممارسة السلطة بين الأب و بين أفراد أسرته عوضا عن الحرملك و السرملك الذي كان يقوم على درجة أعلى من الانفصال و استسلام أفراد الأسرة لسلطة الذكر أو الأب , عدا عن أن غرفة الجلوس الجديدة تتحلق حول مركز يختزل ثقافة الاستهلاك الاقتصادي و الفكري و الثقافي و الخضوع أمام السلطة السياسية ألا و هو التلفزيون , فرغم ضرورة استسلام الجميع لسلطة الأب لكنهم في نظر الرأسمالية مستهلكون يجب أن يتمتعوا بحرية الاستهلاك دون أن يؤثر هذا في منطق التراتبية و الهيمنة داخل الأسرة و خاصة في المجتمع بل بما يعززه . ينقسم المكان بين مقدس و آخر مهمش , كأي شيء في حياتنا , يحتل المسجد أو الكنيسة , السجن , قسم الشرطة , أبنية الوزارات المختلفة , المدرسة , القصر , تحتل المركز أو أنها تتنافس على المركز , و يشكل الشارع نفسه صورة رمزية صريحة عن حقيقة واقع البشر , السير في اتجاه واحد , مفروض , وسط زحام من البشر , لكن كل منهم معزول في الواقع عن الآخر , يسيرون فقط إلى جوار بعضهم البعض في عزلة حقيقية , انكفاء داخلي , بشكل أشبه بالقطيع منه بتشكيل واع من البشر , الأمر الذي يجعلهم أكثر طواعية في نهاية الأمر , تذكروا أن نظرية العقد الاجتماعي تبدأ بفرضية أن البشر يضعون حدا لعزلتهم عن بعضهم البعض و يتخلون طواعية عن الحرية المطلقة التي تخلقها هذه العزلة لتنتهي بوضع يقوم على خلق اغتراب الإنسان ليس فقط عن الإنسان الآخر بل حتى عن ذاته هو أيضا , أي نقل هذه العزلة لمستوى أعلى و غرسها داخل الذات الإنسانية نفسها لقمع احتمالات التمرد و الحرية , هذا الاغتراب شرط ضروري لأية سلطة بحيث يصبح البشر مجرد رعايا و تصبح السلطة هي المرجع الضروري الذي يشكل العلاقة المفقودة بين أفراد مغتربين عن الآخرين و عن ذواتهم لدرجة أنهم يقبلون بالفعل أن يكونوا رعايا لهذه السلطة , لتؤكد أن الاغتراب و العزلة هي نتاج لواقع جمعي يقوم على استغلال و قمع البشر , و يسيطر على هذا الشارع و يتحكم بحركته الشرطي , المميز ببزته الخاصة , و بالسلاح الذي قد يحمله أو ترمز إليه بزته الرسمية , و يخضع له الجميع كشرط لا مناص له للسير في الشارع و كنتيجة لوضعية خاصة ترمز إليها بزته , جرأته على تحدي عزلته الخاصة , و على إصدار الأوامر , و سلاحه العلني أو الخفي . من هنا يمكن أن نقول أن عالم طفولتنا الأولى , و الذي نشعر تجاهه بحنين جارف , منتهك بقوة من مظاهر سلطة الآخرين و قمعهم , الذي يأخذ الشكل الأبوي غالبا , و أن رفضنا المؤقت له في فترة المراهقة سرعان ما يذوي , لصالح عملية تدجين ناجحة على الأغلب , تنتهي بأن نبدأ شخصيا بممارسة انتهازية للقمع , نحن أنفسنا , تجاه بعض الآخرين , انتهازية لأن حدود ممارسة القمع هنا مشروطة بمكاننا في المنظومة الهائلة للقمع , في تراتبيتها الصارمة , الشرطي لا يضرب أيا كان , إنه يلتزم بضرب من يؤمر بضربهم , ككهول تنتهي عملية تدجيننا , تحويلنا من طلاب يمارسون السخرية من معلميهم و مدرستهم لأنهم مشاريع بشر حقيقيين أي أحرار إلى معلمين يمارسون القمع تجاه طلابهم أي مجرد سجانين يعيشون هم أيضا برضا و قناعة في زنازين أخرى من ذلك السجن الكبير , لسبب وجيه جدا هو اجتيازنا بنجاح لامتحانات غبية في جامعات غبية تقوم على ديكتاتورية لا تقبل النقاش للمدرسين و المدراء , تنتهي بتحولنا من صغار يتفجرون برغبات هائلة يلاحقهم الكبار و يراقبونهم و يعظونهم , إلى أن نصبح كبارا نراقب و نعظ الصغار , لذلك علينا أن نعيد تشكيل عالم طفولتنا , تماما كما علينا أن نفعل ذلك بعالمنا الواقعي , كأفراد و كمجموعات , بعد أن نستبعد منه كل رموز القمع , علينا أن نحرق كل ما هو قمعي و غير إنساني , مهما أعلن و صرح بغير ذلك , من تراثنا و من حاضرنا , الشخصي و الجمعي , علينا أن نقتل الأب , لكن دون أن نعود فيم بعد لعبادته كطوطم , كهوية , كقدر , كرمز لعجزنا , لقهرنا , لعبوديتنا . و علينا بالمقابل , لنثبت حريتنا , أن نبقى مراهقين للأبد , متمردين دوما , أحرار دوما , ألا نصبح آباء , ألا نتقمص شخصية الشرطي أو الأب أو الواعظ سواء بالمعنى السيكولوجي أو الاجتماعي أو الرمزي , ليس فقط لأن هذا يعني إعادة خلق القمع من جديد على حساب ضحايا آخرين بقدر ما يعني انضمامنا النهائي إلى تراتبية العالم الواقعي القائمة على قهرنا لصالح من هو أعلى و أن نقهر نحن من هو أدنى منا . علينا أن نحرر وعينا و لا وعينا من كل رموز القمع , لأن قمع الآخر هو الشرط الضروري لقمعنا الشخصي . علينا أن نفجر المكان كجزء من تفجير الواقع بأسره , كجزء من هدم تراتبية هذا العالم , تحويله من مكان مغلق , محاصر , الأمر الذي يسهل عملية تقسيمه إلى ملكيات خاصة كما تفعل الحكومات بأرضنا عندما تقسمها بحدود وهمية ترمز صراحة إلى ملكيتها هي لنا و لأرضنا , و ترمز لهذه الحقيقة , حقيقة ملكيتها لنا و لحياتنا و لأرضنا , برموز كجوازات السفر و شرطة الحدود و ما تسميه بالجمارك و الأعلام و الأناشيد الوطنية , إن المكان المغلق مخصص للسيطرة و أشبه بالسجن المحاط بالأسلاك الشائكة , و مهمة الحفاظ على إغلاقه هي مهمة صريحة لكل أجهزة القمع المسلحة التي تسمى بالشرطة , الجيش , القضاء , و الأجهزة السرية للقمع الوحشي لتكريس ملكيته لصالح أقلية ما , لتكريس ملكية كل من يعيش عليه لصالح أقلية ما , أما المكان المفتوح , المتمرد , الحر , فإنه عصي على الأسوار و الحراس و الحواجز , إنه فضاء غير محدود , لإمكانيات غير محدودة , لبشر أحرار . القضية الثانية في تدمير المكان و تغييره كمكان مخصص لممارسة قمع البشر هو إلغاء القداسة , و إدانة كل التهم الأخلاقية و الأحكام المسبقة التي تفرضها المنظومات الأخلاقية السائدة , و بالتالي الإيديولوجية و السياسية و الفكرية و الدينية السائدة , ضد الأماكن التي يمارس فيها الإنسان حياته بحرية خارج تلك المنظومات أو على الضد منها . كما يجب رفع السرية عن هذه الأماكن , كما يجب رفع السرية عن الحلم , عن أحلامنا , لتحطيم الفواصل بين الواقع و الحلم كما كان السورياليون ينادون , أن لا تبقى الحرية و العدالة أسيرة الأحلام فقط , أن تصبح شيئا ملموسا , مؤسسات ملموسة تحطم الهيمنة و تعلن الإنسان , الواقعي , البروليتاري بالضرورة , في مجتمع ينقسم بين سادة و عبيد , مركزا لهذا العالم , لا السادة , لكن هذا ليس إعلانا لديكتاتورية البروليتاريا كما أرادت بيروقراطية الأحزاب الستالينية , بل لعالم لا عبيد فيه , عالم كل إنسان فيه سيد نفسه و مصيره الشخصي و مصير البشرية جمعاء.................
08-أيار-2021
09-كانون الأول-2012 | |
19-كانون الثاني-2010 | |
15-كانون الثاني-2010 | |
11-تشرين الأول-2009 | |
06-تشرين الأول-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |