الطريق إلى الثورة
2012-12-09
عندما هزم عبد الناصر ونظيره السوري حافظ الاسد في ما سمي يومها بنكسة يونيو حزيران كان على جيل الشباب، خاصة الطلاب، أن يحاول فهم سبب الهزيمة .. يومها أطلق يوسف شاهين عصفوره، محاولا هو أيضا أن يفهم كيف أدى الفساد والاستبداد الذي ارتبطا معا وتطورا معا نتيجة للحكم المطلق العسكري، وكيف انتهيا إلى الهزيمة .. أطلق شباب الجامعات المصرية يومها العنان لمظاهراته وهتافاته بالحرية والصمود، مخترقا أحد أهم محرمات النظام الناصري، لكن هذه الجرأة المفاجئة التي انتابت الشباب بطلابهم وعمالهم تركت أيضا أثرها العميق على النخبة الحاكمة .. بينما اختار قسم من النظام المضي في حرب الاستنزاف بكل آلامها وخسائرها وانتصاراتها، 'تعلم' قسم آخر من الحكام العسكر هو أيضا درسه من الهزيمة، بعد سنوات سيقوم هؤلاء بنقل البندقية إلى الكتف الآخر وبإعلان نهاية الحروب في المنطقة، حروبه هو، وسيتصالح مع خصمه السابق، الخارجي طبعا.. في نهاية الثمانينيات تكرر المشهد بتفاصيل مختلفة، الأنظمة التي اعتبرت نفسها 'اشتراكية' لعقود، وهي تترنح تحت انتفاضات شعوبها وتسقط بالجملة. جزء من البيروقراطية الحاكمة يغير 'قناعاته' أيضا بين ليلة وضحاها ويصبح جزءا من الأنظمة الجديدة أو، كما في روسيا وعدد من دول الاتحاد السوفياتي السابق، سيبقى هو الحاكم الفعلي لكن بمبررات إيديولوجية 'جديدة'، وطنية أو ليبرالية أو نيوليبرالية هذه المرة ..
يومها صمدت الأنظمة العربية المشابهة، لأسباب مختلفة، عقد حافظ الأسد 'مساومة تاريخية' مع الأمريكان، شارك بموجبها بتغطية حرب الخليج الأولى التي مثلت الإعلان الفعلي عن النظام العالمي الجديد مقابل حكم مطلق في لبنان، تركت القوات الأمريكية الظافرة في حرب الخليج حرس صدام الجمهوري وقوات نخبته تنسحب سليمة بينما ذبح آلاف الجنود العراقيين وهم ينسحبون على غير هدى من الكويت، ومن ثم اكتفت بالتفرج على قواته هذه وهي تسحق انتفاضة 1991 في جنوب وشمال العراق .. فقط بعد أن أكملت تلك القوات سحق الانتفاضة باستخدام المدفعية والدبابات والمروحيات ستفرض أمريكا منطقة حظر جوي في الشمال ثم ستضيف إليها منطقة حظر أخرى في الجنوب، إضافة إلى حصار اقتصادي مؤلم دفع ثمنه الباهظ جدا الشعب العراقي، سيمنح المنتصرون في حرب الخليج الأولى صدام حسين 12 عاما أخرى مؤلمة على عرش العراق .. كانت هذه الأنظمة تتحول بسرعة الآن إلى أنظمة عائلية، وأخذت تستخدم السياسات النيوليبرالية لكي تنقل ملكية الكثير من مؤسسات الدولة، التي كانت خاضعة لها (أي للبيروقراطية الحاكمة) لكن بشكل غير مباشر من خلال سيطرة الأخيرة المطلقة على جهاز الدولة، إلى 'رجال أعمال' مرتبطين مباشرة بها (رامي مخلوف، طريف الأخرس، أحمد عز، هشام طلعت مصطفى، آل الطرابلسي زوجة الرئيس التونسي، الخ) أي إلى ملكيتها المباشرة .. وبدأت هذه الأنظمة عملية إعادة توزيع متسارعة للدخل الوطني، كان هدفها الأساسي الانقضاض على الحصة الكبيرة نسبيا للكادحين من الموازنة العامة التي كانت تخصص لتغطية تكاليف عمالة كبيرة نسبيا تابعة 'للقطاع العام الحكومي' ولتغطية نفقات منظومتي تعليم ورعاية صحية شعبيتين كانتا رغم مستواهما الضعيف توفران هذه الخدمات بشكل ما لغالبية الناس ..
ستؤدي سيطرة رجال الأعمال الجدد وخصخصة البلاد عمليا لصالح رأس البيروقراطية الحاكمة بالضرورة إلى إنتاج 'جيل ضائع'، وجد نفسه دون عمل، دون تعليم لائق، بكلمة، دون أمل، دون مستقبل .. منذ الأيام الأولى لظهور الستالينية، عملت البيروقراطية الحاكمة على تفسير الصراع على الشكل التالي : إما هي أو الإمبريالية أو العدو الوطني أو الطبقي في الداخل .. زعمت أنه ليس للناس أي خيار آخر سوى الاستسلام لطغيانها ولاستغلالها، وأن مقاومتها تعني بكل بساطة الخيانة، أي الوقوف مع العدو القومي أو الطبقي أو الوطني .. قامت الستالينية، وأشكالها العربية والعالم ثالثية، على القمع الوحشي للجماهير تحديدا، على دولة بوليسية حقيقية، لكن أيضا على حكمة أساسية هي تحريم أي نقد وتجريمه، فهي لم تتسامح أبدا أبدا مع أي شكل من أشكال المقاومة الشعبية أو التنظيم الشعبي المستقل عنها، كانت القاعدة الرئيسية للحياة في هذه المجتمعات هي أن على كل شيء أن يمر من خلال أجهزة 'أمنها' وأن يبقــــى دائما تـــحت رقابة هذه الأجهزة التي تغلغلت في بنية المجتـــمع كالأخطبوط بل كالسرطان .. هذه الطبيعة القمعية التي بدت مستقرة إلى ما لا نهاية والهدوء الظاهري في الداخل دفع البيروقراطية الدولتية الأمنية العسكرية الحاكمة لأن تتصرف بكل شيء بدرجة عالية من الثقة بقدرتها على مواصلة وتوسيع نهبها وقمعها دون ظهور أية مقاومة جدية لها، سادة كل المنافذ على الناس ...
تمتع ريف دمشق مثلا بنهضة عمرانية بدأت في الثمانينيات ترافقت مع اتساع دمشق نفسها وهجرة قسم من أهلها إلى تلك الضواحي، سرعان ما ارتفعت الأبنية الإسمنتية مكان الحقول الزراعية ذات الدخل السنوي المتواضع وارتفعت معها أسعار الأراضي والبيوت هناك وشهدت المنطقة تحسنا ماديا مهما (حدث مثل هذا في مناطق أخرى كدرعا مثلا لسبب مختلف هو وجود عدد كبير من سكان المنطقة ممن يعملون في الخليج)، لكن البيروقراطية الحاكمة التي رصدت هذا التحسن في الوضع المادي والمعاشي لأصحاب تلك المناطق أرسلت إلى هناك مجموعة من أفسد موظفيها بغرض أساسي، هو محاولة تحويل القسم الأكبر من مكاسب هذا الوضع المعاشي الجديد إلى رصيد الحكام والمالكين الفعليين للبلاد، قام هؤلاء بفرض أشكال غريبة عجيبة من الضرائب المحلية بقصد نهب السكان المحليين وفي النهاية سيجبر الفساد المنفلت الناس هناك على العودة بمستواهم المعاشي لعقود إلى الوراء وسيقوم هؤلاء الموظفون الفاسدون المرتبطون بأعلى هرم السلطة في كثير من الأحيان بالاستيلاء على ممتلكات الناس هناك بأشكال مختلفة وبطريقة مستفزة جدا، كان الغضب يتزايد ولو أنه بقي تحت الرماد، حتى قام شاب تونسي بإحراق نفسه فانفجر كل شيء.
' كاتب سوري
عن جريدة القدس العربي.
08-أيار-2021
09-كانون الأول-2012 | |
19-كانون الثاني-2010 | |
15-كانون الثاني-2010 | |
11-تشرين الأول-2009 | |
06-تشرين الأول-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |