فن تشكيلي / حضور الغياب....رؤيا فاتح المدرس
متعب أنزو
2006-04-08
لقد كانت الحياة ومازالت غرفة انتظار الموت لكنها المشقة التي يتكبدها المبدع و"فاتح المدرس" كان حاضراً كما بهاء الرؤيا.. لكنه كان يضرب بالمستحيل.
إنها الذاكرة التي تستغرقنا وكأننا كلما أمعنا في الموت اعتباطاً أو اتفاقاً توهجت الحياة في أعماقنا، لكنه الجريان الدائم وراء التجريب و "فاتح المدرس" لم يستحم في النهر مرتين، الكثير من الجاهزية والاستعداد والموهبة القديمة والمثقفة لتحطيم الرؤى وإعادة ترتيب ما تبعثر من صفاتها الذهنية والروحية.. كانت روحه الشفافة هي التي تتلامع وتتراءى خلف لوحاته.
قانونه الوحيد هو حيوية الحركة، لم يكن مفتوناً بالجماليات "الأستاتيك" أو الفانتازيا على حساب أي شيء، لقد كان جارحاً بما لا يقاس إنما من أجل أنسنة الإنسان والارتفاع بدرجات عن وحشيته، كان يعاني اغتراباً مفترساً وقلقاً ينفض روحه ذرة.. ذرة.
عندما تهاوى "فاتح المدرس" كان خارجاً عن ذاته الموزعة في أعماله بعدالة لا ريب بموازينها، إنما هو التجبر الخلاق والمواجهة المرهفة، كانت روحه تغدق بكرم لا مثيل على الجميع الذين توزعوا حوله في طيران الرؤيا بينما بقي هو مشدوداً إلى أرضه الأولى ومكانه الأولى.. حتى لحظة رحيله ظل "المعلم" يرتاب من فكرة الموت واستمر طوال حياته يعلن بفرشاته على الملأ أنه لن يغادر هذا العالم حتى يقرر هو ذلك.. في حديثه "لأدونيس" في لقاء يعود إلى العام "1998" في فضاء "غاليري الأتاسي" يؤكد أن اللوحة ليست انفعالاً مزيفاً وإنما هي لحظة تقنية من لحظات العذاب الإنساني المريب وأن الفنان معنى في النهاية بتصوير الجوهري من المساحات السخيفة والمختفية من الروح الإنسانية.. وأن فعل الرسم هو تملك شيطاني يتشكل من الفكرة المجسدة لبريق الإبداع، وعليه فإن إطلاق طاقات اللغة في الأدب يوازيه تماماً استلهام قيم اللون للتعبير عن لحظة التماس بين الإنسان وعالمه الخارجي واستحضار الممكن من مخاوفه للقذف بها دفعة واحدة على السطح الأبيض.
لا يمكن الحديث عن "فاتح المدرس" دون الوقوع في متاهات الاستحالة والغبش الذي يغلف عالمه التشكيلي في مشروع مترام عبر مساحة زمنية تزيد عن "60" عاماً حيث يقودنا إليه بقوله "إن التشكيل الذهني الذي يفرض ذاته عليّ في لحظة الذروة في الحقيقة رؤية تستحيل في كياني إلى حالات غريزية تنعكس في اللوحة على هيئة بقع لونية وأشكال ليس من الضروري أن تمت بصلة إلى الحدث الذي أملاه أو إلى الفكرة التي استدعتها" .
وقد بلغت جرأة المعلم في سعيه الحثيث للتجريد الشرفي والاقتراب أكثر فأكثر من المطلق في التعامل مع الدلالات البصرية للأشياء والأحاسيس وتعميمها وفق فهم كوني غير محدد بزمان ومكان.
وعند تلك الزوايا الحادة التي أنشأها يتوارى الواقع ويصبح المعنى مجموعة رؤى غير واضحة المعالم تتسارع أمام المتلقي في أمزجة لونية حائرة.. حيث البشر عبارة عن رؤوس سابحة في فضاء معتم وغائم سديمي يسرقك مما أنت فيه ليضعك في داخله دون أن تستطيع التحكم بدرجة التجاذب المتبادلة.
اليوم تعود الحياة إلى روح "فاتح المدرس" لمناسبة المعرض الأستعادي لأهم أعماله, التي يستضيفه مرسمه أواسط هذا الشهر والمتزامن مع ذكرى ولادته، ....المتزامن أيضا مع منحه وسام الاستحقاق السوري بعد سبع سنوات مغلفة بالغياب، المتزامن أيضا وأيضا مع إطلاق اسمه على إحدى قاعات قسم التصوير في "كلية الفنون الجميلة" بعد عقود من الحضور المدهش للمدرس في لغة التشكيل السوري والعربي والعالمي.
العرض الذي كعادته يأتي هادئا بعيدا عن الضجيج عند تقاطع إحداثيات المكان في ساحة النجمة في دمشق حيث كان "فاتح المدرس" يرسم في غفلة من الوقت والهواء والتراب.
والمعرض لهذا العام سيضم أعمالاً تعرض للمرة الأولى إضافة إلى الأعمال التشكيلية الهامة التي كان قد أبدعها طوال حياته اللونية الغنية، وهو يشكل إعادة أمينة لروح المعلم الحاضر الغائب في عالم اللون السوري.