فن تشكيلي / معرض استعادي لفرنسيس بيكون- التدخل لدى افتراضات القبح
متعب أنزو
2006-04-07
يشكل الفنان الانكليزي فرنسيس بيكون (1909 ـ 1992) إلى حد كبير برهاناً حياً على مقولة الشاعر الايرلندي ويليام بيتس : "لا يمكن لأي نفس أن تبدع دون أن تكون منشطرة". ففي حياته كما في فنه، استطاع الفنان المحافظة على توازن عابر لكن ثابت بين مواقف متناقضة كلياً. وتظهر هذه الازدواجية بشكل واضح من خلال أعماله فتبلغ نسباً خارقة لدى تفسيره لمواضيع مسيحية لها ثقل رمزي كبير، كما تظهر في رسومه لرجال معزولين يصرخون داخل أقفاص أو لنساء مسمّرة على الأسرّة بواسطة محاقن. وفي طريقه، يعكس بيكون جميع المفاهيم التقليدية للمقدّس والمدنّس ويستبدلها بمفاهيمه المتحرّكة وغير المتوقعة.
ويحاول المعرض الذي ينظمه حالياً متحف مايول الباريسي لفرنسيس بيكون، ويضم 41 لوحة بينها خمس ثلاثيات تم جمعها من متاحف ومجموعات خاصة أوروبية وأميركية وآسيوية، القيام بجردة حساب لشروط حضور المقدّس والمدنّس في فنه. وبالتالي يسمح لنا بلمس عدد من الألغاز الكامنة في الصور المزعجة للغاية التي ينفذها هذا الفنان العملاق. وفي السياق ذاته، يسهل علينا المعرض فهم كيف أن فناناً ملحداً بعنف كبيكون رسم بشكل استحواذي موضوع الصلب وسلسلة كبيرة من اللوحات (أكثر من 45) مستوحاة من بورتريه البابا إينوسان العاشر للفنان الاسباني الكبير وفيلاسكيز.
انطلقت فكرة المعرض على أساس جمع أكبر عدد ممكن من اللوحات التي حققها بيكون في الخمسينات حول موضوع "البابا" تبعاً لفيلاسكيز، نظراً إلى كون هذه الفترة هي الأقوى والأهم من عمله الفني. فخلالها كان الفنان لا يزال يبحث عن ذاته. إذ كان يقوم بكثير من المحاولات ويتلف عدداً كبيراً من أعماله. كما أن هنالك سراً خفياً في لوحات تلك الفترة، ربما يعود إلى أنه لم يدرك ما كان يفعله، إذ كان لا يزال بعيداً عن بيكون اليقظ والمتملك لمفهومه وطريقة صنعه للوحته ولكن أيضاً لعملية إخراجه للوجوه والأشكال، مرحلة سيبلغها في السبعينات ونلاحظ خلالها سيطرة شبه كاملة على عمله وبالتالي انعدام ذلك الصراع مع الموضوع ومادة لوحته المثير. فما يمنح فترة الخمسينات كامل أهميتها هو بالتحديد عدم تمكنه الكلي، وأحياناً الأخرق، من طريقة صنع لوحته، الأمر الذي يمد هذه الأخيرة ببعد خفي أو مجهول ويشحن صوره بشكل مؤثر للغاية.
. لدى مشاهدتنا للوحات بيكون التي تعالج موضوع الصلب، نتساءل عما إذا كان الفنان هو المصلوب شخصياً على خشبة آلامه والتناقضات التي تكوّن شخصيته وشعوره بالذنب تجاه عائلته. فداخل عائلة كبيرة تبع معظم رجالها السلك العسكري. ويعطي بيكون شخصياً تفسيراً محايداً لموضوع الصلب خلاصته أنه هيكل مدهش يمكننا تلبيسه جميع أنواع المشاعر.
المشكلة مع بيكون هي أنه لم يكن يحب أن تفسر لوحاته، خصوصاً حين يرتكز التفسير على عناصر من سيرته الذاتية. إذ كان يخاف أن يضعف هذا النوع من التفسيرات قوة صوره. أما سبب معالجة موضوع "البابا" وبهذه الكثافة فأقل تعقيداً لأن بيكون بنفسه كان يقول بأنه مهووس كلياً ببورتريه فيلاسكيز للبابا إينوسان العاشر. والذي كان يعتبره أهم بورتريه مرسوم في العالم. إذ كان يقدر بشكل كبير التوفيق المذهل للفنان الاسباني العملاق بين العظمة المقصود تجسيدها والواقعية المستخدمة لرسم هذه اللوحة. كما أن بيكون كان مفتوناً أيضاً بسلطة البابا العليا ومسألة سموّه فوق الجميع. لكن هل عبر معالجته لهذين الموضوعين المسيحيين كان لديه نية تدنيس المقدسات؟. بعض النقاد رأوا في الحبر الأعظم صورة الأب، الأمر الذي يجعل من ثورة الفنان ضد السلطة الدينية ثورة ضد السلطة الأبوية أيضاً.
مهما كانت قيمة هذه التفسيرات، تبقى ميزة بيكون الأساسية طوال مساره توقه إلى أن يكون أكثر عفوية ممكنة في فنه وتحقيقه للأشياء بأقل درجة وعي ممكنة. من هنا أهمية توقف المعرض الحالي عند فترة الخمسينات فقط حيث يلعب العقل الباطن , دوره الأكبر مقارنة بكامل انتاجه اللاحق. كما كان الفنان آنذاك منفتحاً على جميع أنواع التأثيرات التي كانت تمتزج داخله، إذ كان ينظر أحياناً إلى نفسه وكأنه وسيط. وإرادته في بلوغ أكبر هامش حرية ممكن ليس فقط في عمله ولكن في حياته أيضاً. وتجدر الإشارة في النهاية إلى عدم ارتباط بيكون بأي تقليد فني بريطاني، بل نجده يفضل فن الفراعنة ومايكل أنجلو ورامبرانت وفيلاسكيز وغويا. أما أهم فنان تأثر به فهو بيكاسو، وإن تغذى أيضاً من وسائل السرياليين وهمومهم. وتعلمه على نفسه ومن خلال نظره فقط، بدون متابعة أي دروس أكاديمية لم يمنعه من أن يصبح الفنان الانكليزي الأكثر شهرة، بعد تورنر، وأحد أكبر فناني القرن العشرين من دون شك.