الواحدية في تاريخ الفلسفة
2008-10-04
تقوم فلسفة شلينغ على مبدأ يقول أن التطور الفعلي يقود إلى التحول نحو التضاد, هذا هو أساس مذهبه المتعالي في تحقيق وعي الذات. وقد وصل شلينغ لنتيجته هذه بعد أن رفض مبدأ فيشه " إما النتيجة المتحقق أو السعي اللانهائي للهوية " معتبرا أن الشرطين ممكنين في آن واحد, ضاربا مثالا عمليا من خلال الذي يخيره اللص بين حياته ومحفظته ليقول أن لدى الإنسان خيارا ثالثا هو الخيار النبيل " الحياة والمحفظة معا ", ويبدو وصوله لهذه النتيجة تقدما ما كان يجب أن يفوت فيشه خصوصا وأن فيشه هو من قال في العلاقة بين السيد والعبد " إن كل من يعتبر نفسه سيدا للآخرين هو عبد, ومع انه لا يبدو هكذا دائما تجده على كل حال يحمل روح العبودية في أعماقه, سوف يركع أمام أول إنسان أقوى منه ويمكنه أن يستعبده, الحر فقط هو الذي يريد أن يجعل كل الذين حوله أحرارا ". هكذا فكرة غريب ألا تحررها هكذا قناعة, إنه التسلسل المنطقي لتداعي الأفكار, ولكن يبدو أن فيشه لم يرد التصادم مع نفسه, فإلغاء اللا- أنا لا يمكن أن يؤدي إلا إلى أن الأنا = الأنا, وهكذا تنتهي الذات بتحققها موضوعا وهو القائل بلا نهائية العلاقة.
شلينغ بدأ من حيث انتهى فيشه محاولا أن يكون تقدميا ومحافظا في آن في طرحه الفلسفي, فهو لم يغادر النظرة التاريخية التي تقول بأن حركة التاريخ تسير في دائرة تعيد إنتاج نفسها مرة بعد مرة مازجا إياها برأي معاصريه من الفلاسفة القائلين أن حركة التاريخ تسير إلى الأمام بلا توقف, معتبرا أن الذاتي يسعى بطبعه للموضوعي كما تسعى الفراشة إلى ضوء القنديل فالشعور ينسجم في مرحلة ما مع اللاشعور بلا مخطط سابق.
الانسجام بين الشعور واللاشعور يصل في النهاية إلى تحقيق غاية الأنا في التكون كموضوع, أي أن الوعي الذاتي لابد وأن يتطور عبر التأمل الفيضي حتى يصبح في مرحلة ما نقيضا لذاته وأن ينتهي للاستغراق في الموضوعية, أي كأنه يريد أن يعطل نظرية فيشه عن لا انتهاء الأنا بدفعه الذات كي تنتهي كالموضوع عبر النشاط العقلي الفسلفي الباحث عن الموضوع انطلاقا من الذات معتمدا على ما أسماه " الإبصار " كمحرك للوعي, أي لحظة الإدراك الفكري, والذي جعله مفتاح فهم تناقضات الديالكتيك. لقد علق شلينع الفلسفة على الحدس كي تفهم, وهذا كان موضوع نقد هيغل له لأن الأخير اعتبر أن كل أشكال المعرفة هي نتيجة للتأمل والفعل العقلي المباشر حتى وإن بدا التصور الأولي للعملية العقلية غير مباشر, أي أنه رفض بالمطلق رأي شلينغ في القول بأن التعبير عن الحدس العقلي أو محاولة تصويره تلغيه أو أن يكون عملية غير قابلة للخضوع للقانون المنطقي مبطلا أي استحالة في تحويل هكذا نشاط إلى موضوع للعقل أو التصورات العقلية.
وبالرغم من حدة النقد الهيغلي لمبدأ الحدس الشلينعي إلا أننا يمكن أن نتلمس بعض " الاستبصار " لدى هيغل حين نفكك مراحل التطور الاستدلالي لديه والنقص الإيضاحي في التوسطات التي سلكتها المعرفة في مبدأ الرفع والإبقاء الذي قال به. فمع أن النتيجة النهائية تكون منطقية ومنسجمة مع سير العملية الفكرية التأملية إلا أن منهجه الإنتيلجنسي يفقد بوصلته في تقديم تعليل لتطور النتيجة أي أنها تسير غير ملتزمة قانونا رياضيا يمكن استنباطه, مما يعيدنا إلى أن الاستبصار كان حاضرا لدى هيغل حتى وإن عارضه.
الاستبصار, كما يرى شلينغ, يدفع وعي الذات لترتقي الأنا به من مرتبة إلى أخرى تفيض مع كل تأمل إلى سوية جديدة حتى تبلغ دفقات العقل الأولى, أي العقل المطلق, والذي هو نتيجة حتمية للبحث الفلسفي الطبيعي وهو تاليا النهاية المطلقة لكل تطورات اللاشعور أو الاستبصارية.
أما العلم فهو حيز أحادي يستخرج بشكل مستمر غير متوقف من التطور الأزلي للدفقات العقلية, أي أن العلم لا يخضع لفعل المطلق الواحد بل لعدد متتابع من الأفعال لا نهائي يسمح بإعادة تشكيل الكون ليس بالاستناد إلى ديالكتيك الطبيعة بل عبر قوانين الفعل نفسها, فالأنا تقوم ببناء المادة بشكل تطوري محققة ذاتها بالتوجه إلى الأمام بحركة أزلية بصورة موضوعية مستخلصة مقولات أعلى من مقولات أدنى باستمرارية لا منتهية لتصوغ مفاهيم بغير تصور مسبق للعقل عن وجودها في تلك المقدمات, مفهوم عن المفهوم, كما يقول حرفيا, والذي يكمن في كل فعل شعوري أو هدف حركي.
التطور اللاشعوري المستند إلى قانون الدفق العقلي المتتابع ينقل الإنسان في مرحلة من مراحل الوعي من إدراك الكون إلى تغيره, فالقوانين الموضوعية المستنبطة أساسا من حركة الطبيعة والتي تنعكس لنا كمفاهيم تستمر في النشاط والفعل كي ما يصبح العالم الذي ندركه كموضوع تصوري والعالم الذي ندركه في الحواس موضوعا واحد في النهاية. أي أن شلينغ أقام رابطا بين الهدف الذاتي الموضوعي والمصدر الموضوعي له, وهو رأي كان قد قال به أبو الفلاسفة سقراط " غاية العالم كامنة فيه ".
كمون الغاية عند سقراط أو العقل المطلق عند شلينغ أو " الواحدية " عند اسبينوزا هي تعبيرات للسؤال الفلسفي الأول: من أين يأتي الكون وإلى أين يذهب؟. لقد كان هناك دائما ميل لدى الفلاسفة للقبول بمبدأ الواحدية ولكن الأساس الفلسفي ظهر بصورة قاطعة أول مرة لدى اسبينوزا فقد رأى أن المبدأ الأول للكون لا بد وأن يكون مفردا وهو وحدة واحدة متجانسة لأن الحقيقة المطلقة لا تكون مطلقة ونهائية إلا أن تعتمد على نفسها دون أي شيء خارجها, وبما أنها لا تعتمد على شيء خارجها فهي تحدد نفسها بنفسها, فوجود حقيقتين نهائيتين يعني أن كل منهما تحدد الأخرى, وهذا يعني ضمنا أن أي منهما لم تعد تحدد نفسها بنفسها بل بما هو خارج عنها, هذا هو الأساس الفلسفي للواحدية, منها أنطلق اسبينوزا و عندها انتهى شلينغ, و عقيدةً هذا يصبح " monotheism ", وإن كان ملتبس شرحه هناك ربما بضررٍ انطلوجي أعاق حرية التعبير.
إلا أن الاستسلام للمقولة " الواحدية " يدخلنا في إشكالية عقلية, فحين نفترض الموجودات قد انطلقت من الواحدية الأولى النقية فإننا سوف نصبح مجبرين على القبول بالكثرة في الواحد لتبرير التنوع الوجودي.
فلو تحدثنا تجريديا, كي لا نزعج المتدينين, فإننا مطالبون بإيجاد تفسير عقلي للانتقال من الواحد المجرد المطلق إلى الوجود الفعلي الكثير بادراك الحواس, ومن هنا كانت كل الفلسفات الواحدية تنتهي إلى ثنائية كي تحل الإشكالية, فلا يمكن للواحدية أن تحرر الفكر وباقي صفاته و أجزاءه ومدركاته ما لم تكن بذاتها كثيرة.
فلو قلنا أن الخير هو متحرر من الواحدية فلا بد لنا لتحديد الخير أن نتحدث عن الكيفية والماهية و من ثم عن الذوق ومراتبه وتكوينه ونستمر في التجزئة حتى نصل للتفاصيل الدقيقة والتي بمجملها ترسم لنا الكون الذي نعاينه بحواسنا والتي يجب أن تكون متحررة أصلا كوجود من الواحدية. وهنا نصبح أمام خيارين: إما القبول بالكثرة في الواحد أو القبول بالانقطاع في الفيض من الواحد, وهذا كثرة أيضا, هذا الالتباس حله هيغل بمعادلته المستندة إلى أضلاع المثلث, العدم الصيرورة الوجود, فمن العدم يأتي الوجود وبالصيرورة يعود إلى العدم لينتج من جديد الوجود بحامل قضية لا منتهية, لاشيء يخرج من اللاشيء, فشيئية كل شيء هي القانون الذي يحكم العلاقة بين تسلسل الموجودات في وجودها عبر حركة تصاعدية في المقولات تنتهي إلى الروح المطلق أو العقل الكلي النهائي.
لقد أعاد هيغل صياغة الكون عبر مقولات تستنبط إحداها من الأخرى حتى ينتهي الوجود إلى المقولة الأكثر شمولا أو كلية الكليات ألا وهي الوجود. أي بدلا من أن يبدأ الوجود من الموجد, كما عند اسبينوزا, بدأ من الوجود عند هيغل وبهذا التجريد الأعلى حل المشكلة التاريخية للفلسفة والتوحيد.
ببساطة لو اخترنا أي مقولة من مقولات الوجود وأردنا أن نبدأ بمعالجتها فلا بد وأن تكون بداية تعريفنا لها أنها " موجودة " لذا فإن الوجود لا بد وأن يشكل في وعينا المقولة الأولى التي تنطلق منها كل المقولات كونه القاسم المشترك بين كل المقولات, كل ما علينا أن نفعله بعد ذلك هو أن نحرك فكرنا ليس نحو آلية استنباط المقولات بل نحو التعرف إلى الآلية التي تستنبط بها المقولات نفسها لنفسها.
فالمقولات موجودة منذ الأزل وليس استنباطها إلا اكتشافا علميا للعملية التي تستنبط بها المقولات نفسها بنفسها, هذه الحقيقة الموضوعية لا تعارض وعينا الذاتي ولكنها تعارض قسرية خيالاتنا للموضوعية, فإن تحررنا من هذا الإكراه الذاتي صار تسلسل استنباط المقولات منسجم مع الوعي الموضوعي.
لقد وحد هيغل بين الضدين, العدم والوجود, فحتى العدم كي يناقش لا بد وأن يكون موجودا في الوجود, لقد كانت هذه العلاقة فتحا هو الأعظم في تاريخ الفكر الإنساني أخرجته من تناقض الواحدية والكثرة التي طالما أتبعت وأزلت الفلاسفة والمناقشات الدينية وجعلتها دائما تنتهي إلى عقم جدلي ممل ومهلك.
لقد كان تاريخ الفلسفة على الدوام في حال من التأرجح المستمر بين التعددية التي قال بها الماديون وبين الواحدية التي قال بها الصوفيون والمثاليون والتجريديون ولكن بالخرق الذي أحدثه مثلث هيغل ( عدم صيرورة وجود ) صار هناك جسر بين الواحدية والتعددية. هنا كانت عظمة هيغل, لان هذا المبدأ سوف ينجر على كل حركة الطبيعة, بما فيها التاريخ, وهو ما سوف ينقل التاريخ من مدونة إلى حالة حية مستمرة تتجه إلى غاية واضحة تعرف نفسها وتحقق ذاتها بشكلها الأكثر تطورا ووعيا ألا وهو الإنسان كفاعل ومتأثر غير مستقل عن وعي الطبيعة وغايتها النهائية, هي ليست آلية لقراءة التاريخ بل لاستنباط المستقبل أيضا.
--
حسام مطلق
08-أيار-2021
12-كانون الأول-2008 | |
04-تشرين الأول-2008 | |
30-آب-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |