الحدس والفكر الإنساني
2008-12-12
يظن الكثيرون أن الفكر الإنساني هو نتيجة حتمية للبحث العلمي المحض, للملاحظة والتجريب, هنا في السطور أدناه أسلط الضوء على جانب أخر مهم من مصادر الفكر الإنساني : الحدس.
كي نفهم دور الحدس في الحضارة والمعرفة نحن بداية مدعون للتميز بينه وبين الوعي, أو التفكير المنطقي, هذا من جانب. ومن جانب أخر مدعون للتميز بين الحوار الداخلي وبين التأمل الغوصي.
بداية أن عنصري الوعي هما : التفكير والإرادة, وكلاهما يتولدان مما تعكسه الحواس التواصلية مع الميحط, أما الخيال فلا يتعدى كونه إعادة تركيب, وإن احيانا بشكل معقد, للموجودات. فلا يتصور اساسا أن يعمل الوعي في اللاموجود, لأنه ببساطة حين يكون لا موجود فهو غائب عن وعينا وتاليا نحن لا نعرف به كي نفكر به.
قد يقول قائل ولكن ماذا عن الموجود الغيبي " الله " ؟. الحقيقة أن وجود الله هو وجود عقلي واسقاطي فمكوناته أو عناصر وعينا به, اي " السلطة – القوة – القدرة – الجمال ..الخ " هي موجودات أولية في وعينا لباقي الكائنات وانتاج الله على تلك الصيغة هو إعادة تجميع لها وفقا لضرورة نفسية. اي ان العناصر التي يتكون منها الله في وعينا هي عناصر موجودة وليست لا موجودة وتاليا النتيجة النهائية لتجميع تلك العناصر هو التركيب الخيال الذي قلنا الناتج عن عنصري الوعي " التفكير والإرادة ", اي هو بكلمة مختصرة فرض.
الفرض, كما هو معلوم لا يقدم معطيات للادراك أي هو ليس معلومة بذاته بل هو تعليل وتحليل للمعلومات, الوعي يمتحنها ويمارس عليها النقد, اي هو لا يوجدها من العدم لأن الوعي بطبيعته لا يدرك إلا الموجود وتاليا كل ما هو عقلي واعي يكون استجابة للمستوى الشعوري.
أما الحدس فيأتي من منطقة ما تحت الشعور, منطقة أعمق من الوعي لذا لا يخضع لقوانين الإدراك والمحاكمة العقلية وهذا مادفع القدماء كي يطلقوا ألفاظا مثل " الإلهام – الوحي " على الأفكار التي لا ترتبط بالملاحظة الخارجية, هم ببساطة ردوها إلى مصدر فوقي بدلا من مصدر غوصي.
العقل الواعي يقوم بتحليل الموضوع المعقد إلى عناصره الأساسية البسيطة, يفكك ويركب, أي يعيد إنشاء الموجود. أما الحدس فيأتي من اللاموجود حتى وهو يعالج الموجود, وهو لهذا يأخذ الصفة الكلية ويعالج الماهية عابرا فوق الإثبات العقلي بطرقه الواعية المعروفة. هو متحرر من المحاكمة العقلية. بتعبير آخر يمكننا أن نقول أن الحدس هو المادة الأساسية التي تحرك السؤال الفرضي فيما المحاكمة العقلية هي التفسير التجريبي للفرضية.
من هنا فإن إخضاع الحدس لقواعد المحاكمة العقلية هو أشبه بقياس السرعة بالكلغ, فمع أن هناك علاقة سببية بين السرعة والكتلة إلا أن العلاقة المصطلحية في ذات اللحظة غير قائمة. ذلك أن كل من الوعي والحدس يخضعان لآلية منفصلة تماما ليس فقط في العمل بل في الماهية والمصدرية والتراتبية الزمنية.
مما لاشك فيه أن الوعي عام وشامل وموجود لدى كل البشر الأصحاء, ولكن الحدس يبدأ وجوده لديهم من الصفر+ اصغر رقم يمكن تخيله وصولا إلى هوة واسعة جدا. من هنا كانت الفكرة في التأليه والنبوة, فقد كانت تفسير واعي لحدس غير مدرك بالعقل الواعي. أنه قياس للسرعة بالكغ. مصدر هذا الإلتباس في التفسير متحرر من الطبقة تحت ما تحت الشعورية وتسمى بطبقة الصور الأساسية والتي تتشكل منها المادة الذهنية الأساسية لكل البشر من تراكم الأساطير والمعتقدات يبدأ الإنسان بتلقيها عبر الإيماء الحركي والنبرة الصوتية حتى قبل بلوغه سن الإدراك وقبل أن ينطق أولى كلماته. هي صور مشتركة بين البشر من حيث الطبيعة مختلفة من حيث التفاصيل. تماما كما القلب والكبد من ضرورات التكوين الحيواني للإنسان, فإن تلك الصور مشتركة بدورها وحتمية ذهنية بينهم بغض النظر عن الثقافة والوعي. الثقافة والوعي تحددان ألوان الصورة لا الصورة نفسها. وهذا ما تعول عليه التيارات الدينية في مداهمة العامة بالقول " ان الإنسان يولد على الفطرة " الحقيقة أنه يولد مساويا من حيث الصور للصفر ولكن ادخال تلك الصور يسبق حتى النطق ولذا تحررها يبدأ مع التحرر التواصلي الأول, وهنا مصدر الإلتباس, خصوصا وأن تلك الصور, وبحكم أقدميتها الزمنية, تصبح الأساس الذي تقوم عليه باقي الصور, ولذا هي تسيرهم حتى عكس إرادتهم, تماما كما تشاهدون شجرة تتجه أغصانها عكس تغلغل أشعة الشمس, رغم أن قانون التركيب الضوئي يفرض أن تكون الجهة نحو الغرب حيث أشعة الشمس أغزر, إلا أن حركة الرياح قد تدفع تلك الأغصان إلى استجابة مغايرة للطبيعة والضرورات العضوية.
يبدو لي أن ترتيب الوعي البسيط يحدده الترتيب الجغرافي لمواقع الشعور,أي : الصور الأصلية, الحدس ما تحت الشعوري, الوعي والإدراك. وهذه التقسيمات كنت قد تطرقت لها في مقال سابق عبر مصطلحات تواصلية بالشكل التالي " الرغبات الكامنة, منطقة السر, السلوك الظاهر. وبالرغم من اختلاف الموضوع هنا عن المقال المشار اليه " آلية القرار – النفس وأقسامها " إلا أن العلاقة التركيبية واحدة ولعل العودة إليه بالنظر إلى الصيغة المبسطة له قد تساعد على فهم الفكرة بشكل أفضل لمن وجد في الشرح السابق مشقة.
إذن وقد وصلنا إلى فصل واضح بين ما هو واعي وخاضع لعلاقات وقوانين الإسقراء والإستدلال وبين ما هو حدسي قادم من التحت شعوري غير الخاضع لقوانين المحاكمة العقلية صار علينا أن نفصل بين عناصر التواصل مع المنطقتين, اقصد منطقة الوعي والمنطقة التحت شعورية.
وهذا في الصوفية يسمى " علم الحجة وعلم اليقين ".
08-أيار-2021
12-كانون الأول-2008 | |
04-تشرين الأول-2008 | |
30-آب-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |