أورهان باموق تقاطع الرواية والمدينة.. فصول أضافية في السيرة
2009-02-07
اللحظة التي تنبه الكاتب فيها لظله على الحائط، أثناء تسكعه في مدينته، هي لحظة نادرة في حياته الجديدة، وممارسة التسكع مقترنة بالأدباء الذين يحتاجون إلى نبش مدنهم بين الفينة والأخرى، كممارسة إجرائية، حتى لا تنسى المدن أبناءها المرتحلين. ثمة شعور غامض يؤرق خيال الأديب، كأن يتوجب عليه أن يرد جميلاً ما للمكان الذي كبر أو ترعرع فيه، كما تقول الأنطولوجيات. يقف دقيقة امتنان في رؤوس الأزقة، قبل أن يغادرها... وهنا يكون السؤال: إلى أي مدى يكون الكاتب مديناً لمدينته بعيداً عن المجاملات الصحفية ومسايرة المجتمع؟ إلى أي مدى يدين لها وقد منحته أولاً ملامح نفسية معينة، وأجزاءً دقيقة من خارطته البيولوجية غير المرئية علمياً المكونة، ربما، لإبداعه، وحيثيات نفسجسمانية ستطلق شهقة العالم الذي قرر أن يشرح إبداع الكاتب وفق معطيات مختبرية... وستبقى شهقة الروائي، تحديداً، حين واجه لحظته الفريدة مراقباً ظله المقسوم إلى نصفين: نصف شرقي، ونصف غربي، هي الأهم.
روائي مثل أورهان باموق التركي وقف مطولاً أمام ظله وفي نيته المضمرة حتمية التضحية بأحدهما، فكتب سطوراً بدائية، مشوشة لسيرته الذاتية غير المعلنة تحت ضغط هذا القمع الاضطراري. باموق الذي ولد عام 1952 في اسطنبول، وأقام في الولايات المتحدة الأمريكية، وفيها تردد إلى جامعة كولومبيا... من ثم، على إثر إصدار روايته الأولى (العتمة والضوء)، منحته الصحيفة التركية اليومية ذات الشأن (ميلييت) جائزة الرواية عام 1979 لتتوالى الجوائز المحلية، وبعدها العالمية، وصولا لجائزة نوبل...
أهمية الانفصال الحاد في هوية أورهان الأدبية تكمن في أنه اختار الإنسان الفرد - محوره الأساس مع اسطنبول ، مدينته- رمزاً لتمرد الثورة على الغرب، وهذا التمرد أصيل إذا ما عدنا إلى أصول الكاتب ومفاهيمه حين اكتشف، أيضاً، ثقافته الغزيرة الباهرة، إزاء ماض مغرق بالعراقة. لا سيما أنه يعتمد في أسلوبه التعددية خلال بحثه عن الحقيقة... فتشكل رواياته لوحة فسيفسائية متنوعة شديدة الغرابة والثراء، وهذا ساهم في ترويج رواياته في العالم العربي، فقد يطمح روائيوه إلى تجربة هذا التعدد الاجتماعي السياسي كتابياً يوماً ما، لأن عالم الفرد في الرواية العربية هو إما الأحياء الشعبية ومناطق العشوائيات أو الأحياء الراقية.
اسطنبول التي تتبع ثقافياً أوروبا الشرقية رغم انغراسها في خاصرة الشرق العربي جغرافياً، وحسب رأي الكاتب التركي "أن يكون للمواطن في اسطنبول التي يقطنها تسعة ملايين نسمة، ثقافتان هو امتياز". وهذا التعقيد هو مفتاح الفهم الأول لهذا التعايش المهم والخطر بين العالمين، المكان الذي عاش فيه أورهان لا يزوره السياح، ومع ذلك فقد نجح، إلى حد ما، بإعادة خلق ومن ثم توثيق هذا التشظي الأدبي روائياً في المرحلة السياسية التركية الراهنة، وعلى المستوى الحداثي. وهو الآن يعد من أهم الكتاب الجدد في بلاده.
قد يرى الكاتب أن الحياة المجاورة في المدينة تحتمل كل ما يعانيه من هذا الانفصام، لكن قدر المبدع أن يتأثر بشكل مضاعف أينما كان. لاسيما إذا كانت اللغة هي أهم أدواته التي يستخدمها للتعبير، اللغة بكامل شفافيتها وجاهزيتها لنقل أطياف مثل هذه الحالة.
في المقابل روى تاريخ المدن الكثير من الروائيين والكتاب العرب، لكن المدن التي تحدثوا عنها ليست بهذا الحجم من التعقيد والإثارة، رغم ما تنطوي عليه من المقاهي الشعبية والأزقة، الأحياء الدافئة الحميمة، الأحداث الهامة، المفردات التاريخية والحياتية التي تتواجد في كل مدن العالم، ورغم ألوانها المعروفة تأخذ سيرتها فصول حكائية عديدة لا تنتهي. مع أن الأماكن الجغرافية لا تتعرض، غالباً، للتحولات الخطيرة التي تغير من خارطتها، وديموغرافيتها، فالمدن تبقى مثلما اعتدنا عليها، وفي المقابل تعتاد المدن أيضاً، حد التماهي، كتابها، لاسيما بعد أن صاروا بعداً نفسياً أخر لها. ألا يشبه نجيب محفوظ كمثال (القاهرة القديمة) لشدة ما روى عنها؟ فتشعر أن في ملامح وجهه العتيق المسن ملامح حارة ( بين القصرين )، أو (حي القلعة) رغم أنه كان يضع قبعة غربية! لكن سمرته طاغية تشبه الأحياء التي صورها في الروايات، والتي مازالت، حتى يومنا هذا، تعيش الحياة اليومية بالتفاصيل نفسها، تلبية لأقدارها ربما!
ألا يتقاسم فواز حداد الملامح مع مدينته دمشق، البشرة النظيفة ورهافة الأصابع، ساروجة، الميدان، سوق الحميدية، الأزقة التي تعرش عليها دالية...
اسطنبول الشرقية والغربية وبينهما الجسر الطويل، مدينة الكاتب التركي أورهان باموق موضوع رواياته، مازالت في أطوارها التشكيلية الأولى، فنحن الآن مازلنا متشوقين لسماع بقية القصة، قصة التجربة العلمانية في تركيا وأثرها المباشر على الأدب. ولكن أليست النهايات الواحدة هي سمة المدن المتوحدة السائدة الوفية لمصائرها الشرقيةأيضاً منذ خلقت، والتي نعيشها بمختلف أطوارها المكرورة؟ فما جدوى أن تروى فصول إضافية إذن؟ إلا إذا كانت مدننا تنوي التجربة حقاً بلا رادع حداثي حقيقي يقي هذه المدن من شيطان التشظي.
كندة السوادي
08-أيار-2021
21-حزيران-2009 | |
07-حزيران-2009 | |
22-نيسان-2009 | |
01-نيسان-2009 | |
24-آذار-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |