مذكرات أناييس نين / المجلد الأول / ترجمة:
2009-02-10
(لقاء هنري ميللر)
[شتاء 1931-1932]
تشبه لوفيسيين القرية التي عاشت وماتت فيها السيدة بوفاري. إنها قرية قديمة، بكر، لم تمسّها الحياة الحديثة بأي تغيير. وهي تقع فوق تلّة تطل على نهر السين، يمكنك أن ترى باريس منها في الليالي الصافية. وفي لوفيسيين كنيسة قديمة تشرف على مجموعة من البيوت الصغيرة، وشوارعها مرصوفة بأحجار مكورة. وتوجد في القرية بيوت كبيرة وقصور، وتتربع على مشارفها قلعة. ويعود أحد هذه البيوت الكبيرة إلى السيدة دي باري التي قُطعت رأس حبيبها بالمقصلة أثناء الثورة، وأُلقي بها إلى حديقتها من فوق الجدار المغطى باللبلاب؛ لكنه أصبح الآن من أملاك عائلة كوتي.
وتحيط بالقرية غابة كان ملوك فرنسا يمارسون فيها الصيد ذات يوم. وتعود معظم أملاك لوفيسيين إلى رجل عجوز بدين شديد البخل. إنه أحد بخلاء بلزاك. وهو من شدة بخله، لا ينفق شيئاً ولا يجري أي إصلاحات على البيوت التي يملكها والتي أخذت تتآكل من الصدأ، وراح يتلفها المطر والأعشاب الضارة والبرد والماء الذي يرشح منها.
ووراء نوافذ بيوت القرية، تقبع نساء عجائز يمضين وقتهن في مراقبة المارة. وينحدر الشارع نزولاً على نحو غير مستو باتجاه نهر السين، الذي ينتصب على ضفته حانة ومطعم. وفي أيام الأحد، يتقاطر الناس من باريس، ويتناولون طعام الغداء، ويركبون زوارق التجديف على نهر السين، كما كان موباسان يحبّ أن يفعل.
أما الكلاب فلا تتوقف عن النباح طوال الليل. وفي فصل الصيف، تعبق رائحة زهر العسل في الحديقة، وفي الشتاء، تفوح منها رائحة الأوراق الندية. ويمكنك أن تسمع صافرة القطار الصغير القادم من باريس والعائد إليها. وهو قطار قديم، كأنه لا يزال يقلّ الشخصيات البارزة في روايات بروست المتجهة إلى الريف لتناول طعام العشاء.
عمر البيت الذي أقطنه مائتا سنة، وجدرانه سميكة، وفيه حديقة كبيرة، وله بوابة حديدية خضراء كبيرة لدخول السيارات، وإلى جانبها بوابة صغيرة خضراء لدخول الأشخاص. وتقبع خلف البيت حديقة كبيرة، وأمامه ممر يكسوه الحصى، وبركة امتلأت الآن بالتراب ونما فوقها اللبلاب؛ وتنتصب النافورة مثل شاهدة قبر. أما الجرس الذي يقرعه الناس، فهو يشبه الجرس الضخم الذي يتدلى من أعناق الأبقار.
ويظل الجرس يهتزّ ويتردد صداه بعد أن تشدّه بفترة طويلة. وعندما يُقرع، تفتح إميليا، الخادمة الإسبانية، البوابة الكبيرة وتدخل السيارة وتسير فوق الممر المكسو بالحصى، مصدرة صوت قرقعة.
ومن بين عريشة خشبية يكسوها اللبلاب، تظهر إحدى عشرة نافذة. وبغية التناسق، وضع مصراع للنافذة في الوسط، لكني أحلم غالباً بهذه الغرفة التي يغلفها الغموض، والتي لا وجود لها وراء المصراع الموصد.
وتقبع وراء البيت حديقة برّية واسعة متشابكة. وأنا لا أحبّ الحدائق الرسمية. ووراء البيت مباشرة، بقعة تكسوها الأشجار تجري فيها ساقية صغيرة عليها جسر صغير، مغطى باللبلاب والأشنة والسرخس.
يبدأ اليوم دائماً بسماع صوت عجلات سيارة تسحق الحصى.
تدفع إميليا مصراعي النافذة وتفتحهما، وهكذا يدخل النهار إلى البيت.
ومع سماع أول صوت للحصى وهو يُسحق تحت العجلات، يأتي نباح الكلب البوليسي، بانكو، وقرع أجراس الكنيسة.
عندما أنظر إلى البوابة الحديدية الخضراء الكبيرة من نافذتي، تبدو لي وكأنها بوابة سجن. إنه شعور جائر، لأني أعرف أنه من طبيعة البشر أن ينحوا باللائمة على شيء أو شخص ويحملّونه مسؤولية أي عقبة تعترضهم، بينما العقبة تقبع دوماً في داخل الشخص نفسه.
ومع أنني أعرف ذلك، فإني غالباً ما أقف عند النافذة وأحدّق في البوابة الحديدية الكبيرة المغلقة، وكأني آمل أن أفهم من هذا التأمل جميع العوائق الداخلية التي تعترضني لكي أنطلق إلى حياة منفتحة كاملة.
ولا يمكن لأي كمية من الزيت أن تخفّف من حدة صرير البوابة الروماتيزمي، لأنها تفخر بتاريخها من الصدأ الذي يمتد إلى مائتي سنة.
لكن البوابة الصغيرة التي يتدلى منها اللبلاب مثل شعر غير ممشط يتدلى فوق جبين طفل يجري، تبدو ناعسة وماكرة وكأنها نصف مفتوحة على الدوام.
كنت قد اخترت هذا البيت لأسباب عديدة.
لأنه كان يبدو أنه نبت من تحت الأرض مثل شجرة راسخة الجذور في وسط الحديقة القديمة. لا يوجد قبو في البيت، وجميع غرفه تقع على سطح الأرض. ويعتريني شعور بأن التراب ينتشر تحت البساط، وبأن جذوري قد تترسخ هنا، وفي الوقت نفسه، يتملكني إحساس بأني أصبحت جزءاً من البيت والحديقة، وبأني أستمد منهما عناصري المغذية كما تفعل النباتات.
كان أول شيء فعلته أنني أزلت التراب عن الحوض والنافورة وأعدتهما كما كانا. وعندها بدا لي أن البيت قد عاد إلى الحياة. كانت النافورة مبهجة وحيوية.
كنت أشعر بأني يجب أن أحضّر لحبّ قادم، كأن أفتح مظلات، وأمدّ السجاد الرسمي، وكأني يجب أن أخلق أولاً عالماً رائعاً يضمه، لكي أستقبل ضيف الشرف هذا استقبالاً يليق به.
في هذا المزاج من التحضير، كنت أتجول في أرجاء البيت، وأطلي جداراً ظهرت عليه بقع بسبب الرطوبة، وأعلّق مصباحاً يلقي ظلّ راقصة من بالي، وأرتب سريراً، وأضيف قطعاً من الحطب إلى الموقد.
وكنت قد طليت كلّ غرفة بلون مختلف، وكأن هناك غرفة تلائم كلّ مزاج من أمزجتي: الطلاء الأحمر للعواطف الجياشة، واللون الفيروزي الباهت لأحلام اليقظة، ولون الخوخ للرقة والحنان، واللون الأخضر للهدوء والراحة، واللون الرمادي للعمل على الآلة الكاتبة.
الحياة العادية لا تثيرني. إني لا أنشد سوى اللحظات المفعمة بالإثارة. إني اتفق مع السرياليين، أبحث عن الشيء الرائع.
أريد أن أكون كاتبة تذكّر الآخر
08-أيار-2021
14-كانون الأول-2019 | |
05-آب-2017 | |
09-آذار-2011 | |
03-أيار-2009 | |
10-شباط-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |