غزوة التلفزيون الكبرى
2006-07-05
أنواع الاسلام على شاشات التلفزيون : اسلام المفتي الرسمي ـ لإسلام القاعدة ـ وإسلام الحوزة
العلمية
مادمنا قد عدنا إلى عصر الغزوات، من غزوة مانهاتن لبرجي التجارة العالمي، إلى غزوة قطار أنفاق لندن، إلى غزوة محطة القطارات الاسبانية، فلا توجد تسمية أدق لهجمة العمائم واللحى والمسابح الكثيفة على شاشات القنوات الفضائية من وصفها بـ (غزوة التلفزيون الكبرى)، فلم يعد المواطن العربي يفتح محطة تلفزيونية إلا ويشاهد سماحةً تفتي في قضية، أو فضيلةً تجتهد في مسألة، أو سيّداً يتفقه في حادثة، والبرامج الوحيدة التي نجت من غزوة التلفزيون الكبرى حتى اليوم في الشاشات العربية هي برامج الطبخ،
وأرجو أن لايذكرهم كلامي بها، فينقضوا عليها ويأخذوها أخذ عزيز مقتدر، فباستثنائها لم يعد يمر برنامج إلا وتطل منه لحية، أو تلوح منه عمامة، أو تظهر فيه سبحة، حتى ليظن المشاهد أن سماحتهم وفضيلتهم وسيادتهم صاروا يفضلون الاستديو التلفزيوني على صحن المسجد، والكاميرا على محرابه، والمايكرفون على منبره، وأصبحوا يمضون أوقاتهم على الشاشات، أكثر مما يمضونها في العبادات، وينتظرون اتصال معدي البرامج التلفزيونية بهم، أكثر من انتظارهم لأصوات مؤذني الصلوات، ويفضلون استغفار الله لتخلفهم عن صلاة الجماعة بسبب ارتباطهم ببث تلفزيوني مباشر، على الاعتذار عن المشاركة في هذا البث.
أسمع الآن في هذه اللحظة وفي هذا السطر من مقالي قارئاً حقيقياً وليس افتراضياً، يعترض على انتقادي لـ (غزوة التلفزيون الكبرى) التي تدور رحاها يومياً على الشاشات العربية، على اعتبار أن غايتها الكبرى نشر الدعوة الاسلامية، وأطلب من هذا القارئ المعترض أن يشرح لي أي دعوة اسلامية تقوم هذه الغزوة التلفزيونية الفضائية والأرضية بنشرها، فأي متابع بسيط للشاشات العربية، سيجد أن الاسلام الذي يقدمه سماحتهم وفضيلتهم وسيادتهم ليس اسلاماً واحداً، لو أجرى مقارنة بين مايسمعه منهم، فهناك اسلام المفتي الرسمي في الدول العربية، وهو اسلام سياحي من فئة الخمس نجوم مرفه، شبعه يصل إلى حد التخمة، حتى ليستطيع المشاهد لو دقق قليلاً أن يرى اللقمة الأخيرة في حلقه عندما يظهر متحدثاً في برنامج ما، وفي جبته ينضوي الخطباء الرسميين لصلاة الجمعة والعيدين، الذين حددت وظائفهم باعتبارهم الناطقين الدينيين باسم حكومات بلادهم، ويفهون الاسلام مختصراً في الآية الكريمة "وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم" إلا أنهم يجتهدون في تفسيرها، بتقديم طاعة أولي الأمر على طاعة الله ورسوله، وهذا يفسر اقتصار عملهم على الدعاء بطول العمر لزعيم دولتهم، والثناء على كل قرار أو إجراء تتخذه سلطتهم، متنقلين بين متضادتها ببهلوانية كما لو أنهم من خريجي مدرسة سيرك موسكو لا كليات الشريعة، فإن أعلنت دولتهم العداء لاسرائيل فإن "وأعدوا لهم مااستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" جاهزة، وإن بدلت سياستها باتجاه مفاوضات ومعاهدات السلام فإن "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" حاضرة، ولولا الجبة والقفطان والعمامة لما استطاع المشاهد التفريق بينهم وبين مذيعي التلفزيون في البرامج التي يظهرون بها، لأن فصاحة عربيتهم وثراء أمثلتهم وفرط تزلفهم تقدمهم باعتبارهم النموذج المثالي والكامل للمذيع في التلفزيونات الرسمية، ولولا اللحية والسبحة وزبيبة الصلاة على جباههم –كما يسميها اخوتنا المصريون- لظن المتابع انهم مدراء ماليون أو أمناء صندوق أو محاسبون، لأنهم يقضون معظم أوقاتهم بحساب مردود عملهم بالريالات والدراهم والليرات والدينارات والهدايا العينية والأعطيات، أكثر مما يحسبونه بالحسنات والسيئات والقرب من الجنة والبعد عن النار.
وهناك اسلام تنظيم القاعدة الذي تظهر عناصره ومؤيدوه ومنظروه على الشاشات التلفزيونية بسحن متجهمة عبوسة، كما لو أنها قضت حياتها في أداء شخصية ياغو الشريرة في مسرحية شكسبير الشهيرة (عطيل)، تهدد وتتوعد وتتفاخر بالتفجيرات وقطع الرؤوس ورؤية أجساد البشر ممزقة، ودماؤهم مهدورة، بطريقة أقرب إلى استعراضات عصابات الاجرام في أفلام الكاوبوي ، مختصرة الاسلام في الآية الكريمة "ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون"، كما لو أنه دين موت لا دين حياة، وكما لو أن الله أرسل نبيه لتخريب الأرض لا لعمارها، وإذا كان المشاهد العربي لأفلام قطع الرؤوس وجز الأعناق بالسيوف التي تصور وترسل للعرض في المحطات التلفزيونية، يستطيع أن يلتمس بعض الأعذار لوحشية تلك المشاهد، باعتبار أنه معني بشكل أو بآخر بالقضية التي يدافع عنها هؤلاء، ومتفهم لمرجعياتها الجهادية، فإن أي مشاهد غربي لايملك مفاتيح الشيفرة الاسلامية التي يتحدث بها هؤلاء، سيظن من خلال مشاهدته للقطات الاجرامية أنه يواجه ديناً ارهابياً، وأن المسلمين ليسوا أكثر من مجموعة قتلة.
أما النوع الثالث من الاسلام الذي غزا شاشات المحطات التلفزيونية بالترافق مع الغزو الأمريكي للعراق، فهو اسلام الحوزة العلمية في العراق، الذي لايوجد وصف أدق له من نعته بالثأري فلاهم له لعمائمه البيضاء والسوداء في كل ظهور تلفزيوني إلا الانتقام لدماء الامام علي بن أبي ولمقتل الامام الحسين، في محاولة عصرية لاعادة معركة صفين مع تغيير نتيجتها، ويلاحقه شبح صورة معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد فيراهما في وجوه مواطنيه من أبناء سامراء والموصل وبغداد، ويعتبر الاحتلال الأمريكي للعراق تحريراً له من أحفادهما، وتحكم حضوره التلفزيوني طقوس المناحة الكربلائية، ويصر على إعادة تمثيلها في أي ندوة أو مقابلة أو حوار.
أمام هذه الاتجاهات الثلاثة المتناقضة التي تستأثر الآن بتقديم صورة الاسلام على الشاشات، أخلى الاسلام المعتدل المنفتح المتنور مكانه لصالح دين عصابي متشدد يكره الآخر، ويلغيه بدلاً من أن يحاوره، ويقتله بدلاً من أن يهديه بالموعظة الحسنة، بحيث صرنا كمسلمين عاديين نشعر بالغربة أمام غزوة العمائم واللحى والمسابح الكبرى للتلفزيون، التي تمثل أي شيء آخر إلا الاسلام، ونشتهي أن يمر برنامج في أية محطة تلفزيونية يفلت من عمامة تتسلل إليه، أو لحية تطل منه، أو سبحة يعلو صوت اصطكاك حباتها على صوت الحوار فيه.
قبل أن أنهي لابد من الاشارة إلى أنه ماقبل ظهور قناة المنار اللبنانية كانت العمائم واللحى والمسابح مجرد ضيوف مؤقتين على مرتدي البدلات وربطات العنق، لكن مع ظهورها تم تدشين عصر تلفزيون الحجاب والعمامة واللحية رسمياً، وصار منظر مذيعاته بالحجاب يدفعني بشكل لا إرادي في كل مرة أود مشاهدة المنار، وقبل أن أضغط على جهاز التحكم في يدي، إلى غض بصري للحظة والصراخ بصوت عال: ياساتر.. يالله.. دستور، كمن يدخل بيتاً غريباً فيه نساء، ويود أن يترك لهم فرصة لتغطية رؤوسهن إن كانوا سافرات، ثم بعدها أنظر إلى شاشة المنار!
القدس العربي 3 /7/ 2006
08-أيار-2021
22-تشرين الثاني-2008 | |
تقرير العربية نت السينمائي الأسبوعي: فيلم "مطلوب": أكشن محكم لحدث مفتعل |
18-آب-2008 |
22-شباط-2007 | |
19-شباط-2007 | |
رقابة سورية التلفزيونية: معركة ذي قار تحتاج لموافقة السفارة الإيرانية |
04-تشرين الأول-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |