أوراق من سيرة آدم
2008-04-15
// فصل في حكاية جدتي
لا أشك لحظة واحدة ان جدتي هي التي اشعلت حرب داحس والغبراء لتدخل
التاريخ من أضيق ابوابه ، كان الأولاد الذين اصبحوا بشوارب غليظة قد
تزوجوا جميعاً ، وخلفوا الكثير من الخلق والغريب ان جميع اولادها كانوا
من الذكور ولم تخلف بنتاً على الإطلاق كانوا يؤمنون بأن الخلفة هي رزق من
الله دون أي حساب او تفكير بالطريقة التي سيتربى بها عيال الله لذلك التقطت
الشوارع معظم عيال الله ليعملوا شتى الأعمال والمهن ومحظوظ ذلك الذي
يستطيع ان يصل الى الدراسة الإبتدائية وهذه معجزة لم تحصل لدى معظم اولاد
الجدة سُكنة التي كانت تتخذ من ابراهيم رأس الحربة في شن هجومات متواصلة
على اولادها الذين تشغلهم زوجاتهم عن السؤال عن أمهم الوحيدة وكان
ابرهيم هو الوحيد الذي يخشى الزواج لأنه يعرف نتيجة ما ستؤول اليه
أوضاعه اذا تزوج لذلك ظل محافظا على عزوبيته وهو يستمتع بين الحين
وألاخر بالهجومات التي كان يشنها على أخوته بدافع مباشر من مشعلة
الحرائق وكأنه كان ينتقم لعزوبيته منهم أو أنهم العائق الذي كان يحول
بينه وبين الزواج ، وعلامة الحرب التي لاشك فيها يعرفها الجميع دون
استثناء حيث كانت الجدة تجلس في باب الدار في أحيان كثيرة فاذا رأى
القادم طيف ابتسامة شاحبة على شفتي الجدة العجوز ، كان ذلك ايذاناً بأن
الأمور على ما يرام ، والكارثة تحدث حين تجلس الجدة مقطبة الجبين وهو
تشبك يديها وتدير اصبعين من أصابعها على شكل مروحة تدور ولا تتوقف ابداً
، عندها يعلم القادم ان هناك ثمة حرباً أكيدة على وشك ان تندلع وان عليه
ان يعد العدة لإستقبال السنة النيران التي ستنطلق من شفتي الجدة العجوز
والتي تنتهي غالباً بهجوم بالتواثي (أعني الهراوات ) التي تحتفظ الجدة
بالبعض منها لمثل هذه الأيام الساخنة ، وقد لاتوغر الجدة صدر ابراهيم فقط
فدهاؤها قادر على أن تضيف معه احد الأخوة الآخرين بعد ان تتنازل له قليلاً
عن رأيها فيه وعندها يهب هذا المسكين للمشاركة في الهجوم على أخوته وهو
يعتقد انه قد تخلص من لعنات مشعلة الحروب والحرائق ، غير انها في
الغالب كانت تعود الى سابق عهدها في التعاون مع هؤلاء الأخوة المتورطين
في الهجوم على اخوتهم الآخرين وسرعان ما يكتشفون دهاء والدتهم محاولين
التكفير عن خطاياهم أمام الأخوة الذين تعرضوا للهجوم ، ومآثر الجدة
العجوز معروفة لدى جميع ابناء محلة العنافصة والله وحده يعلم معنى هذا
الإسم الغريب ولكن آدم يعرف ان ( المعنفص) هوفي اقرب التعريفات الذي
المعاند في أي موقف دون ان يستند على رأي ثاقب، وهو يسمع بين الحين
والآخر من يقول ( المطي عنفص ) بمعنى انه عاند ولا يتحرك حتى لو اشتغلت
عليه عشرات الهراوات والسب بسيط وواضح اولا لأنه اجلَّكم الله مطي وثانياً انه
عنفص وربما لن يتحرك الإ بهمسات او توسلات مطي مثله وبهذه المناسبة اتذكر
لكم حكاية السكيّرين اللذيين كانا يقودان سيارة وهما يعودان في الليل
الى بيتيهما وعندها رأيا حماراً يسد الطريق الضيق فنزل السائق مترنحاً
وهو يحاول دفع الحمار بعيداً عن الطريق دون جدوى وعندها قال له زميله
أنا من يدبر هذا الأمر فنزل مترنحاً وهو لا يكاد يسند طوله واقترب من
الحمار وهمس في اذنه بعض الكلمات وحدثت المعجزة حيث تحرك الحمار بالفعل
فاتحاً الطريق ولكن الذي كان يجلس أمام مقعد القيادة لم يتحرك وقال
لزميله بربك قل لي كيف فعلت ذلك فضحك زميله وهو نقول ( لا تتعجب طلعنه
عِرف) أنا طبعاً لا أحاول ان اسيء الى ابناء محلتني فأنا واحد منهم في كل
الأحوال ولكنها محاولة في البحث عن معنى اسم اجهله وما وزلت اجهله منذ
اكثر من خمسين عاماً وأظن انني سوف أظل اجهله لما تبقى من حياتي ايضاً ،
وعادة ما يعود ابراهيم الى البيت متعباً فهو يعمل بنّاء للدور ومصلحاً
للاساسات في بعض الأحيان وقديماً كانوا يطلقون على عملية تصليح الآساسات (
توزير) والتوزير هو حفر جانب من الأساس الذي تعرض للرطوبة واستبداله
بطابوق مفخور جديد ولبخه بالسمنت ليتحمل الرطوبة لفترة زمنية اخرى
وعادة ما تكون الحفرة التي يحفرها ابراهيم لا تزيد على الربع متر وعندما
يكمل هذه المسافة ينتقل الى المسافة التي تليها والتي ترتبط بها ليحفر
مساحة اخرى داخل الجدار المهتريءوهكذا يتواصل العمل حتى يتم توزير كافة
مناطق الأساس التالفة طبعاً هذه العملية اختفت من الوجود تماماً ولم يعد
هناك ما يسمى بالتوزير بعد ان وصل البناء الى ما وصل اليه ، أقول غالباً
ماكان ابراهيم يعود متعباً واذا وجد المراوح مشتغله أعني إصبعي جدتي
بطبيعة الحال فان عليه ان يتهيأ لمعركة اليوم الأكيدة رغم كل ما يعانيه
من تعب ، وعبثا يحاول ان يوضح مدى تعبه فالجدة قادرة على إشعال نار
الفتنة بقدرة قل نظيرها على هذه الأرض ، ونظراً لأن ابراهيم يحسب حساب
العواقب ايضا وبأن هناك أولاداً قد يساعدون أباهم اذا تعرض لهجوم الجدة
العجوز ، كان يضطر للاستعانة ببعض العمال الذين يعملون تحت يده وكان
هؤلاء مرغمين على تلبية ندائه لا حباً بالحرب ولا حباً بابراهيم بل خوفاً منه
لأنه سيبحث في هذه الحالة عن عمال آخرين ويعرضهم للبطالة ، وفي ذلك
الوقت أعني قبل خمسين عاماً أو أكثر كان لكل بنّاء عماله الذين يعتمد
عليهم بل ان الأمر يتجاوز ذلك فلكل عامل اختصاصه فمن ينشر الجص أمام
البنّاء يختلف في مهاراته عن ذلك الذي يقذف بالطابوق ، فناشر الجص
يستطيع ان يكون بالسرعة التي يريدها البناّء من خلال تواصل خبرته في هذا
الإختصاص وهو يستطيع السير فوق السنتمترات التسعة وهي التي تمثل طول
الطابوقة دون خوف أو ووجل مهما ارتفع البناء ، وكلما ارتفع البناء
توضحت مهارة من يرمي الطابوقة الى الأسطه حيث يقذف بها من الأرض الى
الطابق الثاني الذي وصل اليه البناء وهي تقع في يد الأسطه بالضبط ، وقد
لا يعرف الكثيرون ان البنّاء في ذلك الوقت كان يبني ما لا يقل عن اربعة
آلاف طابوقة في اليوم الواحد وكان البيت يُسلَّم الى الساكن خلال ستة وعشرين
يوماً في اعلى الإحتمالات حيث يستلم مفاتيح البيت كاملاً خلال هذه الفترة ،
وطالما تعرض أبي الى هجومات ابراهيم وأحياناً الى هجومات ابراهيم والعم
فاضل الذي كان يشترك في مثل هذه الهجومات بين الحين والآخر ثم يُظهر ندمه
وأسفه ليعود ثانية للمشاركة في هجوم جديد ثم يعود ليظهر ندمه وأسفه
وهكذا كان يمشي على الحبلين في آن واحد بمهارة يُحسد ُ عليها فهو لم يخسر
الجدة حتى رحلت عن هذه العالم وهو كذلك لم يخسر اخوته الذين كان يعتدي
عليهم، بكثرة الأسف والقبلات المشهورة عنه حتى يزيل غضب الطرف المقابل
أقول العامل الذي يطرده ابراهيم سيصيع في الشوارع كما يقول اخواننا
المصريون وسوف يتعذر عليه الحصول على عمل فلكل بنّاء عماله والفرصة
الوحيدة للحصول على عمل هي في مرض احد العمال وربما موته وعندها قد
يحتاج الأسطه الى عامل جديد يضمه الى مجموعته الأثيرة وطبعاً مثل هذه
الفرص نادرة جداً لذلك كان العمال يلبون نداءات الأسطه ابراهيم في شن
الهجومات دون تردد ، ولكي يعوّض ابراهيم كبته الجنسي كان يذهب غالباً الى
منطقة الميدان في بغداد حيث كانت هناك منطقة خاصة ببائعات الهوى مقابل
دنانير معدودة كانت تعتبر ثروة في ذلك الوقت ونادراً ما كان أي انسان
قادراً على حمل ورقة من فئة خمسة دنانير ، كانت العملة في الغالب معدنية
، فلس ، فلسان ، اربعة فلوس ثم اصبحت خمسة ، عشرة فلوس ، درهم وهو ما
يعادل خمسين فلساُ ، مئة فلس ، خمسة وعشرون فلسا هذه هي العملات التي
كانت تخرخش في معظم جيوب المواطنين واذكر ان احد اخوتي ابتلع عملة من
فئة الفلسين فاضطر الى انتظار خروجه ليمسك بعملة الفلسين ويغسلها ويذهب
الى العطار لشراء ما يشتيهيه بها وقد اطلقنا عليه لقب ( أبو الفلسين )
وظل يحمل هذا اللقب طوال اكثر من عشرين عاماً طبعاً حين بدأ الشيب يعسكر
في شَعر معظمنا بدأنا نتحاشى الإشارة الى حكاية الفلسين التي ابتلعها وإن
كنا نود ان نشير لها لا بسبب الإساءة بل لأنها تذكرنا بذلك الماضي الذي
طواه الزمن لعلنا نحصل على صدى من ضحكات الماضي البعيد تلك الضحكات
التي كانت تنطلق من الأعماق رغم كل الأسى الذي كنا نعيش فيه ، كان
ابراهيم يعود من بغداد طلق المحيا ، بشوشاً ، رقيقاً مع عماله ، وقد
يمتلك الجرأة لعدة أيام في مواجهة رغبات الجدة العجوز ولكنه مع زوال
تأثير المخدر الذي تناوله لدى بائعات الهوى سرعان ما يعود الى سابق عهده
.
كان ابراهيم مولعاً بشراء بطاقات اليانصيب الى حد يصعب وصفه ، يمكن
القول انه كان مريضاً بداء شراء هذه البطاقات ولا يخلو جيبه ابداً من
بطاقات جديدة والغريب انه لا يمزق البطاقات التي يتم سحبها فهو يكره
تمزيق هذه البطاقات ، بل يحتفظ بها تحت فراشه ، ولو قلبت فراش ابراهيم
لرأيت العجب تحت هذه الفراش ، آلاف البطاقات وبعدة أنواع التي تمتد على
إمتداد هذا الفراش دون ان يفكر ابراهيم يوماً باتلافها أو التخلص منها ،
بل انه كان يضيف لها الجديد الذي يلقيه بأسف شديد لعدم فوزه ، ولا يعني
هذا انه لم يفز فلقد فاز بمبالغ قليلة وخلال فترات متباعدة مما دفعه
للاكثار من عدد البطاقات التي يشتريها أملاً بالحصول على فرص أكبر في
الفوز ، واعتقد ان الثروة التي انفقها ابراهيم على بطاقاته كانت تمكنه
من شراء اغلى بيت في العنافصة ولكن ماذا تفعل لرجل تكمن سعادته في
الترقب الدائم لمواعيد سحب اليانصيب رغم مئات حالات الفشل التي رافقته ،
وحين امتلك ابراهيم الجرأة الكاملة للتحرر الكامل من سلطة الجدة
العجوز وكان قد تجاوز الأربعين ولم يعد العمر يتسع لضياع آخر على طريق
العزوبية المتواصلة ، وتجرأ بالزواج رغم عواصف الجدة العجوز وهي ترى
آخر قلاعها تنهار في هذا العالم ، لم تحتمل هذه الصدمة ، الصدمة قليلة
فلنقل لم تحتمل هذه الضربة القاضية التي جعلتها تخسر الجدار الوحيد
الذي تستند عليه ورأس الحربة الوحيد الذي تحقق به سعادتها الدائمة في
خلق الفتن وإشعال حرائقها لذلك انتفى مبرر وجودها في هذه الحياة
فانتقلت الى العالم الآخر وهي تصب لعناتها حتى آخر لحظة على ابراهيم
بسبب الجريمة النكراء التي ارتكبها بحقها ، ويخيل لي ان جدتي لم تولد
ولم تعش إلإ لهدف واحد ، ان تشعل الحرائق اينما حلت واينما ذهبت ، فاذا
زارت احد ابناءها فان المصائب تبدأ منذ بداية خروجها وأعتقد انني
الوحيد الذي احبها من أعماقه ربما لأنها كانت تربت على رأسي بين الحين
والآخر وهي تنظر ساهمة في البعيد وتنسج خيوط معركة جديدة تعد لها العدة
مبكراً قبل ان يعود ابراهيم من العمل ، وكنت انظر بدهشة لإصبعيها اللذين
لا يتوقفان ابداً وهما يعملان كمروحة تعمل بطاقة هائلة
08-أيار-2021
05-آب-2008 | |
27-تموز-2008 | |
16-تموز-2008 | |
06-تموز-2008 | |
04-تموز-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |