اعترافات مدرّسة / علاقة المعلّم بالطالب: هل هي صورة واقعية من توم وجيري؟
2009-04-03
يلاحظُ الباحثُ أو القارئ أنّ علاقة المعلّم بالطالب حُظيت باهتمام خاصّ في مختلف الأزمنة والأمكنة. نقرأ عنها في كتب التراث والآداب القديمة العربية والإغريقية، ونستمتع بطرائفها ونوادرها ولآلئ الحكماء عن فضل المعلّم وآداب المتعلّم. اليومَ صارت علماً يُدرّس في الجامعات والمعاهد ترفده باستمرارٍ النظرياتُ التربوية والنفسية. وهي نظرياتٌ تجريبية تحدُّ منها الظروفُ المتغيرة لطرفي العلاقة: المعلّم والطالب، ولذلك لايمكنُ للواقع أن يحسمَ الصراعَ لصالح إحدى النظريات أو الفلسفات التربوية. فبينما شهدَ العربُ في عصرهم العباسيّ المشرق واليابانيون في عهد نهضتهم الحديثة وجودَ نظامٍ تعليميّ صارمٍ متجلّ في ُسلطة شبه مطلقة للأستاذ وازاه تقدّم حضاريّ لايُنكر، نجدُ طاغورَ شاعرَ الهند العظيم يدعو إلى نظام متحرر من القيود، وأن تصبح الطبيعة بديلاً لحجرة الصف. ومن مدرسته هذه تخرّج أيضاً كبارٌ معروفون كأنديرا غاندي.
إنّ اختلافَ وتنوّعَ الطبيعة البشرية اللذين يجعلان تجربة كل معلّم وطالب مختلفة عن تجارب الآخرين إضافة إلى البعدين الزمانيّ والمكانيّ للعلاقة بينهما، تجعلُ الإحاطة بهذا الموضوع شبه مستحيلة لأيّ باحث أو مهتم. لاتدّعي هذه المادة تقديمَ أيّة نتائج خاصة. هي شذراتٌ أو اعترافاتٌ من تجاربي كمدرّسة وممّا عاينتُ وشهدتُ، فإن كانت لاقيمة علميّة لها فهي على الأقل تسعى إلى تسليط الضوء على السلوكيات السلبية لبعض المدرّسين –ولاأستثني ذاتي- بهدف مراجعة النفس والتذكير بغاية عملنا.
في أولى سنواتي التدريسية امتنع أحدُ طلابي في الأول الإعدادي عن أداء وظائفه. فشلت محاولاتي الغبية في إصلاحه، وكنتُ أصلاً بلا خبرة حائرة ومترددة بين نظرياتِ علم النفس المغرور والواقعِ الزاخر بالتنوّع والمفتقرِ إلى الإمكانيات، وكانت مدارسنا لاتزال تعيشُ في ظلال جنة العصيّ. هكذا وجدتُ نفسي أضربُ ذاك الطالب بشدّة. تحدّيه البارد لي أثار جنوني. رغرغت عيناه بالدمع وأبى أن يهرقه أمامي. أغمضّ عينيه عليه وغارَ به بعيداً، ثم واجهني بالبرود ذاته، وكلمات خافتة ورهيبة: "لن أكتبَ الوظيفة أبدا".
علمتُ متأخرة أنّه قد تعرّضَ للخطف وهو في السادسة من عمره. تسعة عشر يوماً مارسَ فيها مجموعة من الشبان المنحرفين الاعتداءاتِ الجنسية عليه، وعندما وجدته الشرطة كان محطماً جسدياً وذهنياً وعاطفياً. لم تساعده كثيرا العلاجاتُ النفسية على التصالح مع الحياة. كلما تذكّرتُ عصاي تهوي على يديه الصغيرتين وذراعيه كرهتُ نفسي وشعرتُ بضآلتها. حاولتُ أن أكفر عن خطئي تجاهه، فجعلتُ تعزيزَ شخصيته هدفاً رئيساً لي. أثارَ اهتمامي به غيرة زملائه فاعترضوا: "أنت عم تدلليه لأنه حلو".
جعلتني هذه التجربة أتعاملُ مع طلابي بحذرٍ شديد مدركة صعوبة معرفة ظروفهم وخلفياتهم جميعاً. لكنّ التصرّفَ الحكيمَ ظلّ يفارقني بين حين وآخر، فالحياة الإنسانية نهرٌ متدفقٌ على الدوام. في عتيّه وصخبه وتيّاراته وأعماقه حالاتٌ وأسرارٌ لاتدرك. دخلتُ الصفّ مرة لأجدَ طالبين مشتبكين في
عراكٍ عنيف. لم يستجيبا لندائي بالتوقف. حاولتُ أن أفصلهما عن بعضهما ففوجئتُ بأحدهما يضربني دون وعي. أمسكتُ بذراعيه لأحدّ من هياجه وألزمه بالهدوء، فإذا به يركلني بقدميه حتى كاد يكسرُ ساقيّ، ثم ألقى في وجهي باقة عطرية ملونة من الشتائم واللعنات. هكذا وجدتُ نفسي أضربه وألقي به خارج الصف. المضحك أنه شكا ظلمي إلى المديرة فقدّمت له السكاكر والشوكولا لتسترضيه. قلتُ لها: "إبراهيم؟! أنتِ تعرفينه أكثر مني!". قالت بمسكنة: " والله هالمرة ضحك عليّ". ولم ألمها إذ كان قد ضحك منا مراتٍ عديدة، وفي إحدى لحظات هدوئه النادرة قصّ أذنَ زميله.
الحدّة والانفعالية في تعاملنا مع طلابنا تذكرني بمشهدين. الأول من الفيلم الأمريكي
وفيه يرهقُ زبونٌ نكدٌ عاملة المطعم بطلباته واعتراضاته، فتبصقُ (It Could Happen to you)
سرّاً في صحنه قبل أن تعيده إليه للمرة الأخيرة. والثاني كان في عيد المعلّم، وقد جاءت زميلتي تخبرني أنّ الطالبات يحضّرن لنا مأدبة ، وتضيفُ هامسة: "إذا أردت أن تتجنّبي التهاب الأمعاء والإسهال فاعتذري عن تناول الطعام. سألتها مستغربة: لماذا؟ أجابت: "إنّهنّ يفرمن بقدونس للتبولة على المقاعد العتيقة الوسخة". صارت عيناي دائرتين، فأضافت ضاحكة:" يحدثُ هذا كلّ عام، فهل تجرؤين أن تعطي درساً للمدرّسات حول النظافة وقواعد الصحة العامة؟".
تخيّلتُ السكاكين تهوي على مقاعدَ نقشت عليها الطالباتُ ذكرياتهن، وحفرنَ قلوباً أدمتها السهام، ونسخن مقاطعاً من الكتب تقفزُ بمهارة إلى أوراق الإجابة في الامتحانات العصيبة. تخيلتُ الكلمات المقطعة الأوصال دائخة في طبق التبولة فشحبَ وجهي وهربت. في الحقيقة لم أشكّ في محبة طالباتي لي، وأعرف أنّ تبولتهم الملوثة بالجراثيم خلت من أي مكرٍ وخبث، لكني أتساءلُ أحياناً إن فكّرت طالبة ما بالانتقام من معلمة ما على طريقة بريجيت فوندا في الفيلم الأمريكي.
تقولُ الكاتبة الكويتية ياسمين الحمود إنّ لوسائلِ الإعلام الحديثة دوراً سلبياً في معالجة قضايا المعلّم، وذلك من خلال تقديمه بصورة هزلية في الأعمال الكوميدية الساخرة كمدرسة المشاغبين وغيرها. لكنّ تراثنا يبرّئ الإعلامَ الحديث، فقد حدّثنا الجاحظُ عن عزمه على تأليف كتاب عن نوادر المعلمين يظهر فيه حمقهم وتصرفاتهم الصبيانية. الحمودُ نفسها عادت ولفتت الانتباه إلى أنماط من المدرّسين ساهمت في ترسيخ هذه الصورة (كالسادي والاستعراضي والملقن وضيق الأفق و..)
يدّعي المعلمون أيضاً أنّ قوانينَ وزارة التربية جرّدتهم من أسلحتهم فأذهبت هيبتهم وميّعت الطلاب. وتغصّ منتدياتُ المعلمين العرب الإلكترونية بقصصٍ مأساوية عمّا صارَ إليه حالهم وبمقالاتٍ عن معلمين خلف القضبان. مع أنّ هذه القوانين وُجدت لتحميَ المعلمَ أيضاً من ارتكابِ جريمةٍ مادية أو معنوية بحقِّ تلاميذه. شخصياً أرى أنها ساعدتني على اكتشافِ قدراتي الذهنية في القيادة والتوجيه.
عندما سحبتِ الوزارة العصا من يدِ المعلّم أخذ الخوفُ يعصفُ بنفوس البعض من الإقدام على معركةٍ بلا سلاح. قليلٌ منهم استقالَ أو تحوّلَ إلى عملٍ إداريّ. آخرون دفعهم الذعرُ المكبوتُ إلى مزيدٍ من الضربِ الأخرق والعشوائي أو إلى نعتِ الطلاب بأقذر الألفاظ. يهدّدُ أحدُهم طلابَه: "تعالوا نتحدّث عن أمِّ الطالب الذي فعل كذا.."، فيصمتون في درسه إلى الأبد. تشتمُ مديرة ثانوية بناتها بعباراتٍ لم يسمعنها ربما في بيوتهن، وحين تعثرُ مع إحداهن على دفتر مذكّراتٍ سجلت به يومياتها المدرسية وملاحظاتها على المدرّسين، تشهّرُ في الباحة بقلةِ أدبها وتعملُ على فصلها. وعندما تُسأل: "ألم يكن عندك في صباك دفترُ مذكرات؟" تجيبُ المديرة ضاحكة: "سقى الله". فعلاً سقى الله عهداً أوصتنا فيه مدرّسة العربي ناديا فواخيري بكتابة مذكراتنا، فقوّت إحساسَنا بالخصوصية وسقت بذورَ الإبداع الأولى عندنا.
هل تغيّرَ الزمنُ، وتغيّرت تركيبة طلابنا، فمالوا إلى الفساد كما يُقال؟! ألم يعرف فتيانُ القبائل قصصَ الحب والغرام؟! ألم يجتمع شبّانُ القرى عند الينابيعِ والغدران ليلتقوا بالصبايا ويساعدوهنّ في حمل الجرار كما يتسكّع مراهقونا اليومَ أمامَ مدارسِ البنات؟! ألم يشاغبُ تلاميذُ الكتابِ رغمَ عصا الشيخ وفلقاته المتربصة؟!. يروي الجاحظ: "رأيتُ معلّماً وهو يصلّي العصرَ فلمّا ركع أدخلَ رأسه بين رجليه ونظرَ إلى الصغار وهم يلعبون وقال: يابن البقال قد رأيتُ الذي عملتَ، وسوف أكافئكَ إذا فرغتُ من الصلاة".
يتفانى بعضُ المعلّمين بإعطاء أجوبةٍ للطلاب في الامتحانات العامة والفصلية، ولهم في ذلك مصالحٌ أو دوافعٌ اجتماعية أو نفسية. وهذا عدوانٌ آخرُ ضدّ التعلّم والعدالة. في الأسبوع الأول من التحاقي بقسم اللغة العربية أقبلت عليّ شابة تحيّيني معانقة. خجلتُ أن أظهرَ عدم معرفتي بها، لكنها فاجأتني بقولها: "لولاك ماكنتُ نجحتُ في الثانوية العامة وماكنتُ في هذا القسم". سألتها كيف، فأخبرتني أنّ مراقِبتَي قاعة الامتحان لاحظتا تفوّقي فقرأتا للطالبات أجوبتي بعد أن غادرتُ. كلّما تذكرت هذه الحادثة شعرتُ بقشعريرة وحمدتُ الله أنّ المصححين لم يضعوا صفراً لي ولمن نسخَ إجاباتي. بتُّ أنصحُ طلابي: "احموا أوراقَ امتحاناتكم من المعلّمين المراقبين ولا تسلّموها قبل نهاية الوقت".
هل يُلامُ طلبتنا إن ضلّوا وضيّعوا القيم؟! وهل نستغربُ أن يكفَّ الطالبُ عن احترام معلّمه، وأن تصبحَ غايته التربّصَ مع عصابته لضرب أستاذٍ ما خارجَ أسوار المدرسة؟!هل وصلنا إلى يبابٍ تربويّ وتعليميّ لايصلحُ معه إلا وضع آلات تصوير تراقبُ المدرّسين في صفوفهم؟!. ترعبني فكرة أننا قد نحتاجُ إلى مزيد من الشرطة.
أيراجعُ المعلّمُ نفسَه كلّ سنة وهو يحتفلُ بعيده؟ ماذا أعطى طلابه؟ وماذا تعلّم منهم؟ وكيف جهّزهم للحياة؟ هل يستنبتُ المعرفة والحلمَ والصبرَ في نفسه فيتصرّف كفارسٍ لتعليم الكلمة والحكمة وليس كسجّانٍ أو مصارعٍ يقاتلُ بالعصا؟
يتحدّث الأستاذ تورنر صاحب موقع (مايسبيس) عن حاجةِ الطالب والمعلم معاً إلى التواصل وأثرِ ذلك على حسن سير العملية التعليمية، ويشيرُ إلى أنّ نجاحَ موقعه المخصص للطلاب، والذي باتَ ينافسُ موقعَ (فيسبوك) في عدد زوّاره، يؤكّدُ هذه الحاجة.
نقرأ في تاريخنا العربي وفي الثقافة الغربية عن أساتذة تركوا أعمقَ الأثرِ في نفوس طلابهم، وساهموا في صنع مستقبلهم. لايمكنُ الحديثَ عن شخصية الإسكندر الأكبر ومنجزاته وإغفال دور معلمه الفيلسوف أرسطو، ولاتروى سيرة الأسطورة هيلين كيلر إلا وتُحال معجزتها إلى جهود وإبداع معلّمتها آن سوليفان. كذلك لم تُكتب ترجمة لعالم عربي وإسلاميّ إلا وجاء فيها: درسَ على يد فلان.
رغم التصرفاتِ السلبية لبعض المعلمين ليس من المبالغة القولُ إنهم جنودٌ يخوضون ساحاتِ المعارك كلّ يوم. فطلابنا يؤمنون بأنّهم أنداد لنا- شئنا أم أبينا- ويتصرفون وفقَ ذلك، و كثيراً ماينجحون بجرّ المعلّم إلى دائرة الصراع التقليدي لتوم وجيري، وكلنا يعرفُ من يفوزُ في هذه المعارك الكوميدية خاصة إذا تخيلنا أربعين جيري في حجرة واحدة يتضامنون ضدّ توم الهَرِم البطيء.
08-أيار-2021
26-تشرين الثاني-2010 | |
21-تشرين الثاني-2010 | |
01-أيار-2010 | |
29-آذار-2010 | |
14-تشرين الثاني-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |