مع الشعر والى جانبه
2009-04-12
مفجوع انا بالشعر، وحزين لما آلَ إليه، ولكنني لست قادر على نعيه وركنه جانبا مثل اية سلعة فقدت قيمتها وصلاحية استعمالها، ولا يمكن لي ان اتصور حياة خارج الشعر.
كل القضايا مقبولة وقابلة للنقاش عن أزمة الشعر وكساد أسواقه وفساد ذائقته وندرة نقاده، إلا أنه لايمكن اعلان موته وخروجه من عالمنا. ان تنتهي الروح وتتصحر ينتهي الشعر ككلمة قادرة على الاختراق والتغلغل في العميق والبعيد فينا. الكلمة هي السر الأول للشعر واستخدامها ونحتها وإرجاع رونق تألقها وبكارتها هو ما يعرف بدخول الشاعر حرم الشعر ، حيث القدرة على مداعبة الحروف وتحمل طيشها ونزقها وتنافرها من أجل تنسيق باقة من الورود ووضعها بيد فنان بركن تتطلبه ويطلبها، قدرة على مداعبة الكلمة وسبر روحها وانزلاق احرفها للدخول معها حالة الرعشة والوصول، حرارة من الدفق والتهيج تثير في الكلمات غواية الوصل والاتصال، وإلا فالقصيدة تنفر شاردة لآفاق اخرى، ويصبح ارغامها على الحب اغتصاب وفعل استمناء غير قادر على الانجاب.
حاول الكثيرون وضع هذا الألق الشعري المتوهج بالكلمات الذي يرفض ان يمارس انسانيته إلا بالاستشفاف والاستشعار رافضاً الدروب المستقيمة، بقوالب ومدارس، تعلمه الأناقة والتهذيب والالتزام بقواعد المرور والجلوس والمخاطبة، ففشلو... وكان الشعر حصان جموح يفر ويهرب من مدارسه ومعلميه، باحثا عن همومه ومتعه بطرق اخرى، مدركا ان عشاقه سوف يطاردونه ويستلهمون روحه وسبر اغواره ليجلس معهم على المائدة التي سرعان ما يقرر هو طقسها وسحر تناول ثمارها، وهو يراقب تفهمه ونهل رموزه بدلٍ وترف، ويصاب بالسكر والنشوة كلما تفتق رفيقه وصاحبه عن قدرة على المضي معه بهذه الرحلة التي لا تصرح عن مسالكها ولكنها قادرة على رسم الطرقات والآفاق بسحر وقدرة على جذب الآخر معها موقنا انه في الطريق للوصول والاتصال.
يفتنني الحديث عن الشعر، واحب مصاحبته والتعلم في مجاهله، لدرجة انني صرت اعي هواجس صاحبي ومكامن جماله وطريقة عطائه، وهنا تكمن القدرة على استثارته ونصب الشراك اليه، وهذا يعني تهيأة مناخ الشعر، وتحفيز ارواحنا وفتح نوافذ على مكنونات آلامنا وجروحنا وتعريضها للهواء الطلق، ليحط الشعر رحاله بها، وحذاري من مباغتة الشعر ومباشرته، وتشويه انسيابه او الضغط عليه للي عنقه واجباره على ما لا يحبه
لهذا مقتنع انا ومؤمن بخلود الشعر، شرط تهيأة مناخه وتشريع النوافذ اليه، والزملاء الذين هالهم موت هرم من اهرامات الشعر وخسارتنا به قامة كبيرة وراحوا يتفجعون ويندبون الشعر ونعته أنه أصبح أيماً أبترا، يوجهون صفعة لنا ليس لأننا شعراء بقدر ما اننا بشر نحب ونحس ونتألم ونتذوق الجمال. مفجع ان لا يكون للشعر جارحة في حناياناو رفاً وزاوية في مكاتبنا. ومحزن اننا لا نستضيف الشعر في مجالسنا ومرابع أمسياتنا ليأخذ مكانه الذي احللنا به ضيوف ثقيلي الدم وفاسدي الذوق من الغث والمصنع الملوث بكل نفايات التنكنولوجيا الحديثة، التي لا نرفضها شرط ان تبقي للذائقة والمعنى وللروح فضاء، وبهذا نجدد ونحدث ونعمر للغة والكلمات بروجا وصروحا اسمها قصيدة الحياة، التي كلما اتسع بعدها واحسن بنائها زهت وهطلت مواسم خير وجمال .
اتذكر والدي و اغص بالكثير من الألم، أولا لأنني لم استطع السير بجنازته والبكاء على قبره ليلا وسرا كما احب ان افعل مع الذين فقدتهم. وثانيا لأنه كان مناخا للشعر والأدب، كان يقول لي اليوم لدينا وجبة دسمة من غذاء الروح ويلقمني المتنبي وهو منتشيا ثملا غارقا مستسلما لسحر الكلمة وفتنتها. رحمه الله كان مناخا شعريا كاملا وحديقة مفتوحة للطيب والجميل من الكلمات، فقيه في الكلمة وقدرة على مطاردة روحها والامساك بناصيتها برقة ودهاء.
نحن اليوم نفتقد هذا المناخ ونفتقد القدرة على الركض واللهاث وراء الشعر، وبهذه الحالة يقف الشعر كأي يتيم في هذه الأعياد المزيفة ثم ينتهج جانبا منتظرا ان يطل اصحابه لتمزيق كل هذا الزيف وتهيأة الثورة له.
نعم الشعر بحاجة لثورة على كل المدارس والمناهج والقوالب التي زحفت للسوق وتربعت على موائد ومجالس افسدت الكلمة وسرقت صدقها، لهذا لن تقوم للشعر قائمة دون الخروج على هذا السائد من ابتسار وصف للكلمات الخالية من الروح والحياة.
ان يقود الشعر يجب اعادة الحياة والروح والهواء، ولا يهم هنا متاعبها وفقرها وسرقتها بقدر ما يهم نفخ روح تحررها والهامها طرق عذابها ومفاتيح تحررها وهنا يكون الشعر في الميدان طليقا لا يسلس قياده إلا لفرسانه واصدقائه .
ليس قليلا ان نفتقد الشعر، وخسارة ان يكون الشعر اكثر البضائع كسادا، ومزري ان يكون السوق الأدبي فارغ من الشعر.
داهمتني هذه الكلمات والشعر يودع فارس ميدانه وبطله الذي شغل المنطقة العربية، الشاعر محمود درويش، الذي خسرناه جراء عمل جراحي بالقلب الم به وقاده لسرير في الولايات المتحدة الأمريكية ، فحلم بأصدقاءه الذين رحلوا وهذى برفيق دربه معين بسيسو وقضى.
قضى محمود درويش وهو في القمة يتعلي ذروة الشعر الذي رصف به الوطن جداريات وملاحم وضعت الشعب الفلسطيني وقضيته في سياق الخلق والابداع والأسطورة التي سحقت وسخفت عدوه، رغم التفوق وامتلاك احدث انواع الأسلحة. العدو الذي يغالي في العنف والاجرام كان يدرك خطورة درويش الذي كان يشفق عليه ويزدري كل الحماقات التي يستعرض بها سطوته وجبروته وضياع انسانيته.
المعادلة التي حققهها درويش معادلة نضالية بامتياز ابداعات الشعب ونضاله والشعر والشاعر، معادلة لايمكن فصل عراها ببساطة، حيث لايمكن لشاعر مثل درويش إلا ان يكون من شعب يحمل جنيات الأسطورة وينتمي لأرض هي الأجمل والأكثر عطاء وخيرا، ولا يمكن لحساسية الشعر والشاعر أن ترتقي القمة وتعتلي الذروة دون ان تكون قادرة على الأنسياب الوجداني الانساني والدخول للعميق العميق بحياة هذا الشعب، ووضع عدوه امام لعنة الواقع وجدل التاريخ. بطريقة كل مافيها قادر على الجذب ولكنه عصي على الأمساك وهذا هو الشعر الذي تحصن به درويش بمعركة مختلة التوازن ولكنها واضحة المعالم وعادلة بإشراق ينتظر الفجر.
لست هنا بمجال التحدث عن شعر درويش بقدر ما أنني بمجال العزاء والرثاء للشعر والشعراء الذين اصيبوا بنكبة وخسارة بيرق الشعر الذي حمله محمود درويش، حيث كنت مفجوعا وانا اطل على المقالات والكتابات التي اعلنت موت الشعر بعد ان قضى درويش ، وهذا كان مرعبا ومخيفا ، أن ننعي الشعر ونفتقده كخاصية وروح لأننا فقدنا شاعرا فذا ومتمكنا ، وعلينا ان نشيد متحفا للشعر ندخله إليه ، ونحدد له مواعيد افتتاح وزيارات ونزين جدرانه بالورود والأزهار .
ان يموت الشعر بمجرد موت كبير الشعر ، هذه إهانة للشعر أولا وصفع للشاعرية وامتهان للغة والمفردات والكلمات ، وكما نعرف ان للشعر ثوراره وفرسانه ندرك أيضا زمنه وتاريخه وضرورة الأنقلاب عليهما وافتضاض واقعهما ، فالشعر لا يقبل التقوقع والأنزواء ، يموت الشعر عندما تدخله القوالب وتحاصره القواعد ويذوي عندما يستغبيه القلم ويضعه مثل الأخرين على منضدة ويطلب منه الألتزام بقواعد المائدة واستعمال آدابها وسلوكيتها ، عندها لا يموت الشعر فقط بل يمسخ ويتفه .
محمد زكريا السقال
برلين / 6/ 4 / 2009
08-أيار-2021
08-آب-2020 | |
04-شباط-2011 | |
28-كانون الثاني-2011 | |
11-تموز-2010 | |
10-تشرين الثاني-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |