اخترت الضلال ....
2009-04-22
هربت من حرارة أسواق دمشق ولهيب إسفلتها. اخترقت شارع الحميدية لاهثاً أمتصُّ ما بقي من سيجارتي الوطنية لأجد نفسي أمام " الجامع الأموي " الكبير. تنفست
الصعداء. في الباحة الخارجية أمامه .
باعة كتب مستعملة وبضائع تلتهمها أعين السيّاح ... روائح الزيت الحار والفلافل
وبقايا ما علق في الجو من زيوت عطرية رخيصة يبيعها الأطفال هنا وهناك .
حاولت أن أبحث في سورالمسجد العتيق عن نصل سيف أو قطعة من رداء تركها أجدادي صدفة هناك .
لا يزال رأسي يغلي من حرارة الجو الذي لم تطفئه رطوبة السوق المسقوف .
خلعت حذائي.. تأبطته متذكراً نصيحة صديقي الذي يعود معظم أيامه حافياً إلى المكتب حتى أصبح مدمنا على الأحذية الصينية الرخيصة ومروجا فذا لها , مستعرضا حذاءه أمامنا مطلقا تلك العبارة المشهورة :
- بـ 200 ليرة بس .... تخيل يا رجل " والله كنت اتبهدلت بلاها " .
لا يكترث لسخريتنا، يتأمل لمعان حذائه الصيني الجديد الذي سيفقده حتما في
صلاته القادمة .
رجال ونساء وأطفال ... مشروبات وأطعمة... غرباء... عرب وعجم.
بحثت عن زاوية باردة أطفئ فيها حريق المدينة ولهاثي بين وزاراتها، ولاأكون ملفتاً للنظر فيها .
لم أكد أستقر في زاويتي الباردة الرطبة حتى فوجئت بمن يناولني المصحف. ترددت قليلا مراجعا تلك الخطب العصماء التي ألقاها عليّ صاحب الأحذية الصينية عن الطهارة والوضوء ونار جهنم التي ستشوينا لو اقتربنا منه , كنت كلما نظرت إلى المصحف على طاولته يقول لي :
- لا تحاول ... أنت " غير طاهر " . حسب رأيه .
أبتسم له بخبث رافضاً الدخول في متاهات مائه وحركات وضوئه. .
كنت سأرفض، لكني سرعان ما أبعدت الفكرة عن رأسي عندما وقع نظري على لحية
رمادية تعلو المصحف .
أمسكته وفتحته معلناً خشوعي أمام اللحية , كوّرت جسدي الضئيل وقرأت.
لم يخرجني من توهان عيوني أمام كلمات " الملك " إلا لمعان ضوء كاميرا حاولت أن
أتفاداها متفحصاً المكان حولي علّي جالس على أثر أو أي شيء له سحر تلتقطه عدسة تلك السائحة بعد نظرتي السريعة للمكان اكتشفت أني أنا الأثر الشرقي الذي أثار نهم تلك الروسية أو البلغارية التي تفحّصتني بعينيها كعمود رخام منقوش أو لوحة فسيفساء
.. ثم التقطت الصورة .
كانت كدمية الشمع مرتدية الجلباب الذي يوزع على باب المسجد وكنت كفأر خائف ,
تائه أضاع الثقب الذي دخل منه .
الورطة الحقيقية كانت أذان العصر , لم يبقَ لي شيئ أتكور فيه. طمأنت نفسي ببقعة
السواد التي تظلل زاويتي ولعنت تلك السائحة التي أثارت بعض العيون حولي وخرجت .
انتهى الأذان معلنا بدء الصلاة. عين على المصحف وعين تستكشف نظرات من يمر بي .
فكرت بأن أتسلل هاربا , لكني سألفت الأنظار أكثر ... فمن هذا الفاسق الذي
يخرج عند بدء الصلاة .
حاولت أن أشغل نفسي بالطريقة التي سأقنع فيها دار النشر طباعة ديواني اليتيم
بدون أن أبيع هاتفي الجوال أو أستدين من أحد .
أبو أحمد بائع الكتب المستعملة وعدني أن يضع بعض النسخ على بسطته الأزلية التي
تحتل نصف ممر المشاة في حديقة " الدبابير " بمدينتي بعد مناوشات وتوزيع سجائر على الحاضرين . أول جملة قالها لي :
- ديوانك ... لا تؤاخذني يا أستاذ بس " شو أعمل فيه؟! " . الشعر مكوّم
عندي بالبيت محدا عم يشتريه .
لانَ بعد السيجارة الثالثة , ووافق بعد أن وعدته بأن أفكر في تغيير اسم الديوان
" اخترت الضلال " عنوان ديواني اليتيم الذي لم يقرأه إلا بعض الأصدقاء وشخص
التقيته في مقهى القطار لفت نظره المخطوط على الطاولة .
- أنت " ........" الشاعر ؟
كنت سأجيبه بسخريتي المعهودة من السؤال الذي يتكرر دائما .... ولكني بلعت ريقي مع إجابتي اللاذعة تابع تقليب الصفحات دون أن ينظر إليّ وسألني :
- أين تنشر , لم أقرأ لك من قبل ؟
- الديوان هو أول محاولة لي , لم أنشر إلا في الصحف المحلية فقط .
فقدت الرغبة في الكلام والشرح والحوار , طعم القهوة الحامض ونظرات الجرسون التي لم تفارق طاولتي وحرارة الجو لم تشجعني على بدء نقاش أعلم أنه سيتبخر مع أول قدم نضعها خارج القطار .
اكتفيت بالابتسام واكتفى هو بتأمل غلاف المخطوط .
موعدي مع دار النشر اقترب والصلاة لم تنتهِ , غبت في " سورة يوسف " أقرأ. لم
أنتبه لانتهاء الصلاة وبدأ تشكل تلك الحلقة حولي والتي كنت ركنها الأيمن .
اكتملت الحلقة وتوسطهم الشيخ وبدأ بالبسملة وأنا أنظر بدهشة غير مصدق لما حدث لأن الانسحاب الآن مصيبة .
بدأ يعظهم ويتكلم ناظرا إليّ وإلى الجماعة ليعود مرة أخرى بعينيه إلي طالبا بإشارة مخفية " أو هكذا أحسست " تلك الايماءة الخفيفة من رأسي والتي تعني فهمي لما يقول حسب ما رأيته من بعضهم .
أحاول أن أهرب من شرودي وأبحث عن عنوان جديد غير " اخترت الضلال " في حال سألني أحد عن عملي أو تجاذب معي الحديث .
كلما وصل إلى الدعاء كنت أظنه انتهى، ولكنه يبدأ من جديد ناظرا إلي طالبا الايماءة
... أحرك رأسي مثل الحصان إلى أن وصل " إلى المشركين وأعدائنا من الكفرة .. "
, ينظر إلي ويتكلم.
أهز رأسي موافقا تائها أبحث عن نفسي بين كلماته . لعلّه كشفني. أختلس النظر إلى المجموعة التي تلتف حولي باحثا عن أي إيماءة تشير لي .
... ووصل لليهود. تنفست من فمي وأنفي مخرجا نفسا لا أعلم كم كتمته داخلي ...
انسحبت ببطء ممسكا حذائي بينما كان مشغولا بسؤال .
خرجت من الأموي نصف هارب. لم أنتبه إلا متأخرًا أني لا زلت متأبطا " ضلالي "
ومصحف المسجد
08-أيار-2021
22-نيسان-2009 | |
27-كانون الثاني-2009 | |
15-تموز-2008 | |
27-حزيران-2008 | |
18-آذار-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |