كلمة السر ما زالت سراً / ماليزيا: من حضن الغابة إلى قمة البتروناس
2009-05-03
كان صعباً تصديق أن ذلك الشاب نصف الهيبي هو مسؤول رسمي في الحكومة الماليزية. كان يرتدي قميصاً مشجراً من (الباتينغ)، تلك الأقمشة التي يفخر الماليزيون بها ويحيطون صناعتها بطقوس شبه مقدسة، وبنطالاً لا تخطئ عين في أن مرتديه لم يبذل أي جهد في اختياره.. صعد بخطوات متقافزة إلى المنصة ليلقي كلمة رسمية كما توقعنا، لكنه باغتنا بمجموعة من النكات الذكية، معدداً بفخر الأسباب الكثيرة التي تجعلنا مجبرين على الوقوع في غرام بلده.. وفي آخر تلك الأمسية الحلمية انتزع المايك من المغنية ليترنم بأغان مرتجلة، بصوت حنون مؤثر وإن كان غير مدرب..
ليس من المبالغة القول بأن ماليزيا كلها تبدو على صورة نائب وزير سياحتها الشاب هذا. بلاد شابة، مرحة، متحررة من العقد، تصر على ارتداء حلتها التقليدية البسيطة فيما هي تصعد بخطا متقافزة إلى منصة العصر لتحجز مكانها بين الدول الكبرى..
يبدو العيش في ماليزيا تمريناً صعباً للقلب، ووحدهم ذوو المشاعر المتبلدة هم من يستطيعون النجاة من صواعق الدهشة المتواصلة.
من المطار الضخم الذي افتتح سنة 1999 وحتى الجسر الذي يربط بين برجي البتروناس التوءم (أعلى برجين في العالم ـ 452 متراً) لا تتوقف كوالالمبور عن إطلاق المفاجآت: طريق المطار المحفوف بأشجار المطاط والنخيل، قصر السلطان عبد الصمد الذي يشبه إلى حد كبير قصر باكنجهام في لندن، مول سوريا العملاق، البرج الدوار، حديقة الطيور المغلقة (الأكبر في العالم)، حوض الأسماك الذي في حجم مدينة صغيرة، حدائق الفراشات، ومحميات الغزلان (التي لا تحتاج إلى حماية أصلاً).. منارة كوالالمبور (رابع أعلى منارة اتصالات في العالم بارتفاع 357 متراً)، ومنطقة جنتنج السياحية (ينقلك إليها تلفريك يمشي بين الغيوم.. فعلاً لا مجازاً)...
غير أن ثمة ما هو أكثر إثارة للدهشة: الماليزيون أنفسهم الذين كانوا إلى سنوات قليلة سابقة يشاطروننا همومنا العالمثالثية بكل أعراضها من جهل وتخلف ولا انضباط، وإذا بهم اليوم يتحولون إلى شعب متحضر موسوس في الحفاظ على نظافة الشوارع، وفي الانصياع للقوانين وفي الانخراط بالعمل الدؤوب. وقد بحث الكثيرون عن كلمة السر التي امتلكها هذا الشعب الذي ظل نائماً لقرون طويلة في حضن الغابات، مكتفياً بقوت يومه من النرجيل والمانغو وتاركاً لقوى الاستعمار المتلاحقة الاستمتاع بكل ثرواته.
أجابني سوري يقيم في كوالا لمبور منذ سنوات: بحثت طويلاً عن كلمة السر هذه، وعندما عجزت عن العثور عليها، بت ألجأ إلى التفسيرات القدرية والغيبية. خبير نفط ماليزي قدم إجابة مختلفة: (لقد امتلكنا القرار ثم امتلكنا العزيمة على تنفيذه)، ولا أدري إن كان الخبير يعرف بيت الشعر العربي: (إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة..)، فتعمد بالتالي النسج على منواله، وأياً يكن فان إجابته لا ترقى إلى مستوى الفضول، لا سيما أن السؤال كبير ومعقد: كيف استطاع شعب مؤلف من قوميات متباينة (ملايوية وصينية وهندية)، وعاش أكثر من أربعة قرون تحت أكثر أشكال الاستعمار وحشية، وخرج عام 1957 شبه محطم، وهو يمتلك كل ما يؤهله لخوض حروب أهلية وبحار من الدم.. كيف استطاع أن يصنع، عوضاً عن هذا المصير المظلم، نهضة اقتصادية اجتماعية هي إلى المعجزة أقرب؟!
ظلال الأمس
تقع ماليزيا في قلب جنوب شرق آسيا، وهي تنقسم إلى قسمين يفصلهما بحر الصين الجنوبي، وتحدها كل من تايلاند وإندونيسيا والفلبين وسنغافورة وبروناي..
تبلغ مساحتها 326 ألف كيلومتر مربع، ويصل عدد سكانها إلى نحو 25 مليون نسمة يتحدث معظمهم لغة الملايو (وهي اللغة الرسمية فيما الإنكليزية لغة ثانية)، والعملة هي الـ (رنجيت) الماليزي (الدولار يساوي 3,5 رنجيت). تتألف من 14 ولاية أشهرها ولاية كوالالمبور التي تضم العاصمة.
يتوزع السكان على ثلاث قوميات (وديانات) أساسية: الملايو المسلمون (55%) والصينيون البوذيون (30%) والهنود الهندوس (10%) إضافة إلى أقلية صغيرة من اللادينيين (سكان الغابات الأصليين).. ويتعايش هؤلاء جميعاً ضمن إطار نظام علماني ديمقراطي وعلى أساس المساواة في المواطنة، يحكمهم دستور وضعي متطور وراسخ.
تعتمد ماليزيا اقتصاداً متنوعاً، وهي اليوم أكبر مصدِّر في العالم لزيت النخيل والمطاط والأخشاب المدارية، ورابع مصدِّر للقصدير والكاكاو، ويعد الأرز هو المحصول الزراعي الرئيسي في البلاد، كما أنها تولي السياحة أهمية فائقة فتتفنن في اجتراح المناسبات والمهرجانات وتحرص على أن تدعو إليها أكبر عدد من السائحين والضيوف.
لعبت مالاكا (يسميها العرب ملقة) دوراً أساسياً في تكوين ماليزيا، وقد سيطر عليها في القرن الثالث عشر أمير من سومطرة اسمه باراماسورا وحولها إلى مركز تجاري ومحطة أساسية للسفن القادمة من الشرق والغرب، ووصل التجار العرب إلى هناك ونشروا الإسلام سلمياً.
انقسمت جزر الملايو بين سلطنات متنازعة قبل أن تخضع لموجات الاستعمار المتلاحقة: البرتغاليون والهولنديون واليابانيون والانكليز، وفي بداية الخمسينات اجتمعت الحركات الاستقلالية المالاوية تحت قيادة تنك عبد الرحمن، وتمكنت من انتزاع الحرية سنة 1957 مجبرة بريطانيا على الاعتراف بدولة (مالايا)، وفي سنة 1961 تم انبثاق اتحاد ماليزيا (ماليزيا الآن) بعدما نجح تنك عبد الرحمن في إقناع صباح وسرواك وسنغافورة (انسحبت بعد أربع سنوات) بالانضمام إلى فدرالية مع المالايا.
تواضع.. واعتزاز
حملنا راكان الضللي، المهندس السوري المقيم في ماليزيا منذ سنوات، في سيارته إلى مقر شركة تانجانك النفطية (TANJUNG OFFSHORE BERHAD ) التي يشغل منصب المدير في إحدى شركاتها الفرعية، وقبيل الوصول قال لنا: (إن عمر بن خالد شخص بسيط ومتواضع رغم أهمية موقعه)، ولكن عبارته هذه لم تنجح في تجنيبنا الصدمة، ربما لأننا لم نأخذها على محمل الجد، وربما لأننا تشبثنا بالصورة المسبقة المفترضة لمدير شركة عملاقة بحجم تانجانك... هذه الصورة سرعان ما سقطت أمام الرجل الذي وجدناه وراء طاولة عادية في مكتب متقشف، ولولا الاسم المكتوب على أفروله الأزرق لوقعنا في خطأ محرج. كان عمر بن خالد إشارة أخرى إلى الصورة الماليزية النموذجية: البساطة الشديدة إلى جانب الثقة العالية بالنفس.
سألناه عما يخافه كرجل أعمال، فقال نصف مازح ونصف جاد: (زوجتي فقط..)! ولكن هذه الثقة لم تخف حساً واقعياً ورؤية هادئة موضوعية، إذ أصر بن خالد على عدم المبالغة بما يسمى معجزة، مؤكداً (إننا لم نصل بعد إلى الدرجة التي تتيح لنا الاستغناء عن الآخرين)، وابتسم عندما وصل الحديث إلى المنافسة مع الصين، هز كتفيه وقال باسترخاء: (لا يمكن للصين أن تنظر إلينا على محمل الندية.. لنكن واقعيين: نحن لسنا اليابان ولا الولايات المتحدة. نحن أصغر من أن نقلق الصين.. ننظر إلى الصين على أنها الأخت الكبرى، تمشي ونمشي وراءها.. إنها البلدوزر التي تشق لنا الطريق).
رفض بن خالد وجود كلمة سر واحدة أو مفتاح وحيد للتقدم في بلاده، مفضلاً عوضاً عن ذلك الحديث عن عناصر وشروط وحيثيات عديدة: الاعتماد على النفس، والعقلية المتفتحة، والقرار الحازم، وسرعة الحركة والمبادرة.. (هاكم مثالاً على استجابتنا السريعة للأزمات: شعرنا بأزمة وشيكة في الرز وكان بدهياً التفكير في الاستيراد ولكننا لم نفعل ذلك، بل ألزمنا شركات وطنية كبرى تعمل في حقول مختلفة أن تضم زراعة الأرز إلى أنشطتها وأعمالها، وقد نجحت التجربة وهاهي حقول الرز على مد النظر)..
تشكل شركة تانجانك واحداً من عناوين الحلم الماليزي، فالشركة الوليدة صارت تنافس اليوم كبرى الشركات الأجنبية، مقدمة نموذجاً ايجابياً للتعاطي مع العولمة، فالانفتاح الماليزي على الشركات عابرة القارات لم يقض على الصناعة الوطنية، بل على العكس، حفزها وأثرى تجربتها وزودها بأدوات جديدة.
في طريق عودتنا أخبرنا الضللي أن اهتمام بن خالد بنا يعكس اهتمامه بسوريا، فهو يضع نصب عينيه العمل هناك.. في قلب الشرق الأوسط.
العالم مستو
يقدم منظمو الرحلة إلى ماليزيا نموذجاً للتعاون العابر للحدود. فالخطوط الجوية القطرية تقدم التذاكر المجانية للصحفيين المختارين، وتتعهد بإيصالهم في رحلة مترفة إلى كوالالمبور، وهناك تقوم وزارة السياحة الماليزية بإكمال المهمة. ويبدو أن مكتب دمشق هو من أكثر مكاتب الخطوط القطرية تميزاً ونشاطاً، وقد حرصت مديرة مبيعاته رشا محمد، وهي امرأة تثير الغيظ لفرط حيويتها ودقتها وسرعة مبادرتها التي لا تجارى، على معاملتنا كركاب عاديين، لتؤكد لنا أن هذا الدلال الاستثنائي يشمل كل من يسافر على طائراتهم الفخمة.
أما مندوبو وزارة السياحة الماليزية فقد كشفوا واحداً من أسرار جاذبية السياحة الماليزية. لقد كانوا سائحين أكثر بكثير من كونهم موظفين، وجعلونا نصدق أنهم استمتعوا باكتشاف بلدهم مجدداً.. وللمرة الألف.
كوالا لمبور ـ سلمان عزالدين
08-أيار-2021
28-تموز-2009 | |
كلمة السر ما زالت سراً / ماليزيا: من حضن الغابة إلى قمة البتروناس |
03-أيار-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |