'الواقع' وثن الفكر العربي الجديد
2007-07-20
لا يكاد يفتح أحد المفكرين العرب فاه أيا كان الاتجاه علمانيا كان صاحبه أو أصلانيا إلا ويقرع سمعك بهبل الجديد مع جوقته أو صيغة النظرية والعملية: الواقع ودوره سواء في فكره الوضعي أو في فقهه الشرعي. فكيف نفهم المنزلة التي بات يحظى بها هذا الوثن وهل يدرك المتكلمون باسمه وظائفه الوثنية في خطابهم وفي الوجود ؟ ذلك ما أريد أن أدقق معناه فأحدد تصوره وأحصر دلالته قدر المستطاع بعلاج نسقي يبين خواء هذا المعبود الذي بات مطلوب كلا الحزبين المرضعين لجراثيم الحرب الأهلية في البلاد العربية جراثيمها التي تعج بها مزابل الفكر المنحط السائد على معركة نقد التراث المزعومة توظيفا بالسلب عند العلماني أو بالإيجاب عند الأصلاني.
وسنقفو أثر هذا الصنم لحصر مقوماته بالمقابل مع الدلالة الخفية والوظيفة المنسية لتصور الواقع في العلم والفلسفة والدين مقوماته التي تعارض تمام المعارضة ما آل إليه أمره في التمثلات العامية للمعاني العقلية. وأملنا من القارئ أن يعذرنا فلا يتهمنا بالتعسير في ما يتصوره قابلا للتيسير: المسألة بذاتها معقدة ولا ذنب لنا في محاولة اقتصاص كل تشاجناتها بالمستطاع من التحرير الذي يقتضيه التحليل العقلي الخبير. وهذه هي مسائل البحث:
مجال الدلالة ببعديه القرآني الخاص واللساني العام.
التأسيس النظري في الفكرين الأصلاني والعلماني.
التأسيس العلمي في الفكرين الأصلاني والعلماني.
نتائج التأسيسين على إبداع الأمة الرمزي والفعلي.
سبل التحرر من هذا الوثن وآثار التأسيسين.
مجال الدلالة القرآني واللساني
البعد القرآني الخاص:
بخلاف المعتاد فإننا نبدأ بمجال الدلالة القرآني الخاص لعلتين:
فأما العلة الأولى فهي ما يلاحظه أي متصفح لمعجم لسان العرب من تعذر الجمع بين المعاني الكثيرة والمتناقضة لمادة "و.ق.ع." في اللسان العربي من دون شواهد متواترة كافية تمكن من حصر الاستعمالات الأساسية للمادة ومشتقاتها شواهد من نصوص موثوق بها من الآداب العربية. فالدلالات التي ينسبها لسان العرب إلى مادة "و. ق. ع." المجردة تبدو عديمة الأصل الجامع لأنها أولا لا تكاد تحصى ولأنها ثانيا غير مصحوبة بشواهد استعمال مقنعة تمكن من تحديد المعاني.
وأما العلة الثانية فهي أن القرآن يمكن أن يعوض فقدان الشواهد لأنه يعتبر حتى عند من لا يؤمن به ويكتفي بتنزيله منزلة النص الأدبي المجرد بديلا ممكنا من الشواهد المتواترة على استعمالات كثيرة لهذه المادة. فهو النص الوحيد الموثوق به أكثر من أي مصدر آخر خاصة وكل علوم العربية فضلا عن جمع الأدبيات واللسانيات العربية متأخر عنه في الزمان فضلا عن كونه النص الذي ترد فيه مادة وقع ومشتقاتها أكثر من عشرين مرة. فمادة "و.ق.ع." وردت فعلا أربعا وعشرين مرة في القرآن الكريم منها ثلاث عشرة مرة في صيغة فعلية (9 في الماضي و2 فعل في المضارع و 2 في الأمر) وإحدى عشرة مرة في صيغة مشتقات (7 اسم فاعل مذكر و2 اسم فاعل مؤنث صار علما على القيامة و1 اسم مرة و1 اسم مكان).
والدلالة مرواحة بين الوقوع بمعنى السقوط (مثل قعوا أو وقعت السماء عليهم إلخ..) والوقوع بمعنى الحصول المجرد الفعلي أو المنتظر (وقع بهم أو وقعت الواقعة) أو بمعنى وجوب الحصول (وقع عليهم القول من جنس حَق عليهم القول) وتكون ثلاثتها بذاتها أو بمحلها أو بفاعلها أو بمفعولها أو بموضوع فعلها. وكل هذه المعاني لا تتضمن المقابلة بين ما في الذهن وما في العين فضلا عن المقابلة بين الحقيقة والوهم بل هي تعني وجود علاقة بين حدث وزمان أو حدث ومكان بصفات الحصول المجرد أو الحصول المنتظر بإطلاق أو بتعيين متردد بين الإمكان والوجوب. وبذلك فإن هذا المعنى المتواتر في الورودات القرآنية يؤول إلى خمس دلالات عنصرية هي: 1- الحصول المجرد 2- والحصول الموجه (الإمكان والوجوب والامتناع) 3-واثر الحصول في موضوعه موجها حسب ظرفيه 4- الزماني 5- والمكاني. وهذا الحصر شبه النسقي يجعلنا نكتشف المسلك الهادي Der Leitfaden في الشبكة الدلالية التي يمكن أن تتمحور حولها معاني الواقع فييسر علينا الولوج إلى نظام المجال الدلالي في اللسان العربي الذي يبدو شبه مستحيل لفرط تنوع عناصره واختلافها.
البعد اللساني العام:
رغم ما ذكرنا من تعدد معاني المادة وتعارضها إلى حد يكاد يلغي كل إمكانية لتحديد نواة دقيقة توحد بينها في مجال معين فإن أغلبها يدور حول فعل محدث للصوت وأثره سواء أخذ من حيث ذاته أو من حيث فاعله أو من حيث مفعوله في متلقيه أو في موضوعه أو من حيث جهة فعله المترددة بين الإمكان والوجوب أو من حيث ظرفيه الزماني والمكاني. لذلك فإن محاولة حصر هذه الدلالات ليست مستحيلة إذا عدنا إليها من الفكرة الأولى التي أوحت بها معانيها في النص القرآني معانيها التي توجهنا إلى مزيدات المادة الأبرز في الاستعمال السائد على الأدب العربي عامة وعلى القرآن الكريم خاصة المزيدات الدالة على مستويات التجريد اللساني لأنها علامات تصوير المادة القصدي.
وقد يكون من المفيد أن نستعمل طريقة في الحصر المنهجي لخارطة مجال الدلالة تبدأ بحدي المعنى الأقصيين كما يبرزان من أهم مشتقين مزيدين من المادة ثم نرتب ما بينهما كما يفعل الفلاسفة عادة في كل عمليات الحصر الشارط للسبر والتقسيم أو عند تحديد العلاقة بين متعين الصورة في لامتعين المادة: مثل العلاقة بين متصل الصوت والنغمات أو الحروف أو متصل الفضاء ومنفصل الأشكال إلخ. فمعنى الإيقاع الناتج عن إدراك نظام النقر الموقع للحن هو بداية المعنى المركزي الذي نطلبه أو الحد الأدنى الذي يمكن اعتباره جامعا لكل الزيادات التي تحدد معنى مادة وقع. ومعنى التوقع الناتج عن مفعول إدراك الموقع في نظام الإيقاع- في معناه المجرد الذي قد يكون جوهر القانونية في الفكر العلمي والفلسفي من حيث هو دالة بين متغيرات الثابت فيها هو علاقة الدالة- على وقوع ما نتوقع مواقعه يمكن اعتباره الحد الأقصى لهذا المعنى المركزي لأنه ينطلق منه إلى مستوى تجريد أرقى.
وبين الحدين يمكن تعيين وسط هو الوقع الذي هو في نفس الوقت الصوت الذي يحصل عند الوقوع عامة أو النقر خاصة وأثره في المتلقي بمعنى أول أو بمعنى المعنى. وبذلك نستطيع الوصل بين البداية وهذا الوسط وصلا ينتج عنه معنى وقع الإيقاع في النفس المعينة ومعنى معناه في عالم التصورات المجردة التي نفترض لها محلا عقليا هو في الفكر الديني الإسلامي اللوح المحفوظ في الفكر الفلسفي الكلاسيكي عالم المعقولات. ومن الوصل بين الوسط والغاية وصلا ينتج عنه معنى وقع التوقع في النفس المعينة ومعنى معناه في عالم التصورات المجردة بمحله العقلي المشار إليه سواء من المنظور الديني أو من المنظور الفلسفي.
فتكون المعاني كالتالي: 1- الإيقاع أو نسق النقر الذي يضبط مدد الزمان ويقيسه 2- والتوقع أو نسق التنزيل في المحال التي يقع فيها النقر نسقها الذي يضبط المكان ويقيسه. وذانكما هما الحدان الأقصيان لمعنى الواقع أعني نسقي ظرف الزمان وظرف المكان 3-أما الوسط بين الحدين على نفس البعد منهما فهو الوقع أو النقرة الناتجة عن السقوط في معناها الأول أو معنى معناها 4- وبين الحد الأول وهذا الوسط نجد معنى الوقع الرمزي أو وقع الإيقاع أي معنى المعنى أو التأثير مرموزا إليه بأثر إيقاع الوقع الذي هو مادي ويعني الطرق والصقل والتثقيف والتحديد 5- ثم بين الوسط والحد الأخير نجد معنى المعنى الثاني أو وقع التوقع أعني نظام العلامات كما يحصل في توقيع المرء لشيء أو عليه شرطا في كل توقع.
وإذن فالوقع هو النواة المركزية للمعاني لكونه يتضمن المعنى (وهو مادي صرف) ومعنى المعنى (وقد يكون ماديا أو معنويا صرفا) في نفس الوقت. وعنه يتفرع معنيان هما الإيقاع ووقعه وكلاهما يمكن أن يكون ماديا كما في الموسيقى ووقعها أو معنويا كما في الترتيب الذوقي عامة دون تعين في مادة بعينها ووقعه الجمالي. وهما يتفرعان عنه رغم كونهما شرطا في نقله من معناه الأولى إلى معنى معناه. ويتفرع عنه معنيان آخران بتوسط المعنيين السابقين هما التوقع ووقعه وكلاهما لا يكون إلا معنويا لأنه فعل عقلي صرف مشروط في كل فاعلية إنسانية نظرية كانت أو عملية لما له من صلة ببعد الزمان المقبل ومن ثم بما لا يمكن أن يوصف بالواقع في معناه العامي عند مفكرينا العلمانيين أو الأصلانيين. لذلك كان المحل الغائي في الحالتين هو محل المعقولات فلسفيا واللوح المحفوظ دينيا مرورا بالمحل الأقرب أعني النفس البشرية وليس ما يتوهمه علمانيونا أو أصلانيونا في تخيلاتهم العامية لصنم الواقع الخارج عن العقل والنص والمحتكم إليه بالخروج من العقل والنص: ليس من خروج منهما إلا بالمعنى المجازي الذي يصف موقفهم بكونه خروجا عن العقل والنص بمعنى فقدان معايير العقل والنقل النقية وضوابطهما السوية.
جهل العلماني والأصلاني بطبيعة التأسيس النظري
لكن المعاني المتداولة عند موثني الواقع سواء كانوا من العلمانيين أو من الأصلانيين ليس فيها أي رائحة من كل هذه الدقائق بل هي لا تتجاوز الفهم العامي لتصور الواقع. فهي تدور كلها حول أمور ليس لها علاقة بمعاني الواقع في اللسان العربي ولا بمعانيه في القرآن الكريم كما بيناها في المسالة السابقة بمرحلتيها بل هي مستمدة من تضمين خفي لمعاني الكلمات الأجنبية التي يترجمون بها في لا وعيهم كلمة الواقع: فيغصبون فقه اللغة العربية على أن يتكلم إفرنجي. ألست ترى بعضهم يكلمك على فقه الكلمات العربية باثميولوجيا ما يتصوره مقابلا لها في اللسان الفرنسي أو الإنجليزي ؟ وحتى في هذه العاهة فإنهم يذهبون إلى أفسد ضروبها وأقلها قربا من الدلالة التي تستمد من العربية. فبدلا من Virklichkeit التي يمكن أن تقربهم من المعنى العربي لأنها تفيد الفاعلية الحقة أو الأثر الذي بالفعل تراهم يذهبون إلى الاستمداد من اثميلوجيا كلمة فرنسية ذات أصل لاتيني Resيعني الشيء هي ريال Réel ويأخذونها في معناها الغفل بمعنى الشيء المادي الخارجي بمعنى "الأمر" أو الشيء المجرد جاعلين ما لا يطابق هذا المعنى الغفل وهما في أقصى أحكامهم صرامة على ما ليس بواقعي عندهم وفي أدناها صرامة يقابلون بين ما في الذهن وما في العين اعتمادا على خرافة رد الفكر إلى المرآة المنفعلة التي تعكس الواقع حتى وإن حرفت العكس بعض المواقف الإيديولوجية التي يزيحونها بوهم: 1-التحليل النفسي أو 2-التأويل الاجتماعي أو 3- النقد الثقافي.
وتلك هي ثلاثية الأدوات التي يزعمون استعمالها دون سلطان حقيقي عليها. ذلك أنهم لو كانو
08-أيار-2021
02-آب-2008 | |
01-تموز-2008 | |
19-نيسان-2008 | |
07-نيسان-2008 | |
01-نيسان-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |