جينيانولوجيا الليبرالية العربية
2007-08-01
تمهيد:
كثر الكلام الساخر من كل شيء يمت إلى تقاليد الشعوب العربية عند نخب الليبرالية العربية بأساليب الطنز والتقزز اللذين يعبران عن تأفف الأغنياء الجدد تأففهم من أصولهم وقراهم التي لم يغادروها إلا منذ قليل سعيا إلى تصديق أنفسهم بأنهم صاروا من أشراف الحواضر ! ثم صاروا يصفون المحافظين على التقاليد أو المتعاملين معها بحذر والمدركين لشروط الإصلاح المستقل وغير المغترب بكونهم مدمنين على التخلف والشعبوية. لكن لا أحد منهم يفهم أن المدافعين عن قيم الأمة لا تهمهم التقاليد لذاتها بل لأمر يخفى عن سخيف .
الفكر ومهمل الذكر من أنصاف المفكرين: لأنهم في الحقيقة يعلمون شروط الثورة الثقافية السوية ما هي وكيف تكون فهذا الموقف الساخر من التقاليد فضلا عن تفاهة ما يدل عليه من تنكر للذات لن يغير من جلدة أصحابه مهما زينوا لأنفسهم انتسابهم السطحي للحداثة والأنوار. إنه موقف يدل بلا وعي منهم على جهلين راسخين في العقول الكليلة التي أدمنت على العيش ذليلة فلم تعد قادرة على فهم شروط العزة الأصيلة. وهما جهلان لم أكن أتصور مثقفا يفهم معنى التقاليد ما هي يمكن أن يقع فيهما حتى لو اقتصر على قراءة محاولات ابن خلدون في فهم مقومات الدلالة منها. فليست التقاليد بقابلة للتفاضل بذاتها فيكون بعضها أرقى من بعض إلا عند السخفاء الذين يظنون تغيير العادات بمجرد المحاكاة محققا للمعجزات.
فالتفاضل لا يكون بين أنظمة من التقاليد بمعزل عن صلتها بحال أهلها وفاعليتهم أيا كانت هذه التقاليد لأنها من حيث هي تقاليد معزولة عن محددات ظرفها متساوية القيمة أعني صفرتها. ومن يفهم ذلك يعلم أن ما يقبل التفاضل من التقاليد له صلة بأمرين يثبتان أن العامة المتشبثة بتقاليدها الذاتية أكثر فهما للوجود الأصيل وأقرب ألف مرة لروح العصر من الدعاة إلى استبدالها بتقاليد مستوردة لا تحقق التقدم بمجردها فضلا عن إفقادها لمتعاطيها الوجود الأصيل كما يبدو لكل ملاحظ لسلوكهم الذليل أمام أي أجنبي خاصة إذا كان من ذوي الرساميل. والمعلوم أن تنميط السلوك الحضاري ووحدانية النماذج الحياتية من أعراض اليعقوبية الفرنسية والثقافة الإنجليزية أو الألمانية منهما براء.
التقاليد أفق رمزي لفهم الوجود
ولنذكر بمدلول الأمر الأول الذي تتفاضل به التقاليد. فطبيعة تكون التقاليد تجعلها بالضرورة على ضربين: 1- تقاليد ذاتية تعبر عن تكوينية تآنس أهلها في سكناهم العالم تآنسا مستقلا 2- وتقاليد مستوردة تعبر عن استحلال قسري هو عين العبودية الروحية. لذلك فنسبتها إلى قيام الإنسان النفسي والوجداني كنسبة الأعضاء إلى قيامه الجسماني والحيواني: فهل يوجد إنسان له ذرة من عقل يفضل على الأعضاء الحية البروتاز الآلية ؟ لا شك أن البروتاز تعطيه مظهر السلامة العضوية بالمقارنة مع مثاله الذي يستمد منه تقاليده المستوردة لكنه يبقى فاقدا لمقومات الوظيفة الفعلية للأعضاء الحية: لذلك تراه مثل الليبرالي الغربي في الظاهر وهو في الباطن مثل دمى العرض في واجهات البازار الغربي. ويكفيك النظر إلى صور أبشع الرائدات منهم تزين مقالاتهن في مواقعهم وصحفهم زاعمات السخرية بخير البرية لتعلم مبلغ المسخ (التزويق) الذي يغطي البثور (لإخفائها) تصديقا لقول صاحب المقدمة قوله المأثور في المغلوب من نوابش القبور!
وأما الأمر الثاني الذي تتفاضل به التقاليد فهو المناسبة الدالة على وجود الإنسان السوي في العالم أعني الوجود ذا الفاعلية الناتجة عن أفق فهم لمنزلته فيه أصيل. فالتقاليد الصادقة ليست في تعبيرها عن الذات شيئا آخر غير المقومات الرمزية التي يمثلها أفق الفهم الوجودي والتي يفقد الإنسان من دون طابعها الذاتي لا الأجنبي شروط قيامه السوي والصادق: فهل يوجد إنسان عاقل يفضل الوجود الزائف على الوجود الصادق فيقبل أن يقاس وجوده بمقدار التماثل مع سيده بدل أن يكون معياره سيادته على ما صنعه بيده ؟ ولعل أكبر علامات هذا الفارق هو ما انتهى إليه أمر حثالة اليسار بعد أن قلاهم الأفاضل والكبار منذ نهاية الحرب الباردة أفاضلهم الذين كانوا أكثر مثالية من الإسلاميين الذين يتهمهم الليبراليون العرب اليوم بالظلامية والإرهاب.
فقد كانوا مستعدين للعمل حتى الموت من أجل قيم سامية يؤمنون بها وكل من بقي منهم فيه نبض حياة هجر الحثالة الليبرالية وبات يتقزز منهم لأنهم لا يعبدون إلا هواهم وليس لهم من رب إلا دنياهم. هؤلاء الدعاة للمحاكاة تراهم غير مستعدين للتفريط في شعرة من صنمهم الطيني حتى لو هدمت كل قيم العالم أمام ناظريهم: يكفيهم الالتذاذ بحكاك أجرب أفلاطون حكاكه الذي حصروا فيه جل حقوق الإنسان التي لا تتعدى التصرف في الأبدان بلهفة العنين والعطشان والجوعان والعريان وبروح الخذلان ومنطق البهتان في مواقع آخر الأوان التي يمولها أغبي الأغنياء من أبناء العملاء.
هؤلاء هم من يجندهم الاستعمار الأمريكي لتخذيل ثورة الأمة فيستعملهم في حربه النفسية على مقومات الحصانة الروحية بمزاعم الثورة على التقاليد بالقيم التنويرية. لكن هذا الفهم الرديء للتقاليد ومقوماتها الدالة وعلة هذه الحمى التي يعيشونها منذ أن بدأت بوادر النصر تلوح في جل ساحات القتال مع الشباب المؤمن لا تفسير له إلا بظاهرة نطلق عليها اسم عقدة الخواجة عند النخب المستلبة. وهدفنا أن نفهم جينيالوجية هذه العقدة في التاريخ الفعلي وفي ترسبات وعي أصحابها المريض بعد أن حللنا فينومينولوجيا ما أدت إليه من دنكيخوتية تنويرية عند النخب المتحالفة مع المرتزقة الاستبدادية.
عرض المناطق الخضراء
كلما قرأت لدناخيت (جمع دنكيخوت) النخب العربية التي تدعي خوض المعركة التنويرية والتحديثية من منطلق المعايير الأمريكية إلا وأزداد عندي اليقين بغرقهم في حال الحيران البائس والهيمان اليائس: فلا أجد لهم مثيلا إلا بين محابيس المنطقة الخضراء في بغداد الغراء بعد أن ضيق عليهم الحصار أبطالنا الأبرار. لذلك فسلوكهم مثل سلوك كرازايات بغداد مفهوم إذ هم يشهدون هزيمة جيش الاحتلال الذي يحميهم في سجنهم. لكن الفرق هو أن سجن هؤلاء مسور بالاسمنت المسلح والهروب في آخر لحظة ممكن إلى معازل شبيهة بمعازل الحركيين من الجزائر في فرنسا ومن فياتنام في أمريكا وسجن أولئك مسور بالكلام المملح والهروب في آخر لحظة مستحيل. لذلك فمآلهم هو مآل مفكري الحركيين الذين هم أساتذة الليبراليين العرب ومستقبلهم الزاهر. لذلك فإنه يحق لهم أن ييأسوا وأن يفقدوا صوابهم لما يتوقعونه من هذا المآل بعد ما قبلوه من إذلال لتواطئهم في تهديم مقومات بلدهم تواطؤا لا يليق بمن له أدنى خصال الرجال.
سيحل بدناخيت نخب التحديث التابع ما حل بكل من هو في المنطقة الخضراء قابع. فرضيتي في هذه الإشارة هي أن هذه الحمى التي اعترت نخب الليبرالية العربية كما يتبين من مواقعها ذات التمويل السخي من المستعمر الذكي أو من العميل الشقي ذي العقل الغبي ليس لها من تفسير إلا بنفس الظاهرة في سلوك محابيس المنطقة الخضراء ردا على نجاح المقاومة الظافرة. فرضيتي لفك اللغز الذي يحويه هذا السر هو أنهم يعيشون نفس العرض المرضي: إنهم باتوا يرمون في عماية منذ أن تيقنوا من خسران معركة الفكر والجدال كما خسر نظراؤهم معركة الحرب والنزال بعد أن هزم حاميهم وغلقت الأبواب عليهم فقلب سافيهم على عاليهم.
هم من أوحي بالفرضية
وعلينا أن نعترف لهم بالملكية الفكرية لهذه الفرضية. فالغريب أن فرضية العمل هذه ليست مفروضة عليهم من خصومهم بل هي من وحي المبدأ الأساس الذي تنطلق منه كل حججهم ضد خصومهم. فهم الذين يحاولون تعزية أنفسهم واصفين الحزب الذي يصارعونه بأنه ليس إلا من دهماء شعوبهم وغوغائها كطالبان أو كسكان الأدغال في كل بلد لم يحتمل العار فثار ضد الصغار من بقايا الاستعمار. تلك هي حجتهم الكبرى للتحقير من الشعوب مبتدعين اللاحقة الساخرة "ستان" يذيلون بها اسم بلدهم في هذيان سحري وتعويذة حداثية ك"غزة-ستان" و"جنوب-ستان" قاصدين بذلك اجتماع الضلامية والأمية في ما يرمز إليه عندهم طالبان في أفغانستان. ويكفي أن تسمع المتكلمين بهذا الهذيان برطن البيان ولحن اللسان أنهم مقتنعون بالعكس تماما لعلمهم بأن خصومهم قد فاقوهم علما وألمعية منذ أن شرع رعاة فكر الصحوة وقادة عملها في تصحيح ما حرف به النهضة أصحاب عقدة الخواجة تحريفا جعلها تصبح استعمارا بالوكالة تحققه الحثالة من أشباه الرجالة.
وليست الفرضية وحدها من وحي المعين الذي تنبع منه حججهم بل إن ما يصحبها من التزام يعترفون به مصدره منه كذلك: فهم يزايدون على المسيحية الصهيونية في العداء لمرجعية الثقافة العربية الإسلامية. ليست حربهم مقصورة على الإرهاب-إذ إنهم والقاعدة سواء مصدرا وموردا كما بينا في مقال الدنكيوختية العربية حتى وإن عجزوا عن الإرهاب المادي فمارسوا الإرهاب الرمزي الذي هو أشنع وأفظع إرهاب الاستفزاز الدائم لشعوبهم بما يسعون إليه من تحديث غايته روحي الاستعباد ومادي الاستبداد- بل تتعداه إلى ما صار بعضهم وأكثرهم جرأة وصراحة يعتبره منبع الإرهاب: نصي الإسلام نفسيهما أي القرآن والسنة.
والغريب أني لم أسمع أحدا منهم يتفوه إلا بما هو خير في التوراة والتلمود رغم أن ما فيهما مما يعيبون على مرجعية المسلمين يفوقه بملايين الأضعاف وهم يتبعون أحزابا وفرقا تدعو بدعوتهما بل وتؤسس دولة عليهما صارت قبلة أكثرهم وقاحة في العلن وهي قبلة أقلهم "بقاحة" (بالمصري الفصيح) و"قباحة" (بالتونسي الصريح) في الخفاء: ألست تراهم يتقربون إلى المرجعيات التوراتية والأنجيلية إلى حد الذيلية في المؤسسات المزعومة علمية وهي في الحقيقة مجرد نواد ليلية وأوكار استخبارية ؟ لكنهم يتجرأون على مقدسات الأمة لخلوهم من الهمة والذمة حتى عند ممن يلبس منهم العمة ! وليس ذلك إلا من ثمرات هذه العبودية للهوى. ومن علامات قابليتهم للهوان على أدنى أنواع الإنسان ما يتصورونه شنآن من قيم القرآن في ثرثرة البهتان بأقلام أبشع النسوان !
عقدة الخواجة كيف نفهمها
ما أريد أن أبينه في هذه الإشارة هو أن العرض المرضي هذا ليس مجرد ارتسام أضفيناه عليهم يمكن أن يتحرروا منه بل هو تعبير حقيقي على حال فعلية يعيشها هؤلاء الحمقى ولا يستحون من الاعتراف بل والمفاخرة بها. وليس عجبا فهم قد فقدوا ما كانوا يزعمونه ريادة لمجرد استحواذهم على القيادة باسم التحديث والتنوير الذي لم يبق منه إلا علامات التزوير وسوء التدبير وعقيم التفكير. ذلك أنهم استبدلوا بالإيديولوجيا فكر الحداثة ومقوماتها من العلوم والفنون العصرية فلم يبق لهم إلا الثرثرة بمبتذلات هذه الإيديولوجيا مواصلين الصورة السخيفة التي أطلق عليها بعض المصريين عقدة الخواجة: مجرد الدعوة للاستمتاع بنمط الحياة الغربية دون شروطه الإبداعية صار بديلا من التنوير والتحديث الذي كانت النهضة تسعى إليه من منطلق الإصلاح المستقل ذي المنابع الذاتية. تصوروا الشروط التي جعلت تلك الحياة تصبح ممكنة للغربي قابلة للاختصار تيسيرا للانتقال من العمل المنتج إلى الاستهلاك المبذر بخلاف ما فهمت نخب آسيا. جهلوا أن هذه الشروط هي التي تمكنه من مواصلة الريادة والنمو فلم يدركوا أن انعدامها وتوهم نتائجها ممكنة من دونها يجعلانها العائق الأكبر للنمو والتحرر المستقلين حقا أعني عندما لا يكونان مجرد طلاء يستبدل الجهد الطيب بخبائث التسيب.
لن نجادلهم في شيء مما يعتقدون ولا مما يتخرصون به إذ يتصورون أهل الصحوة دروايش أو مهابيل في حين أن التاريخ الكوني يدور حول أفعالهم وهم لا يتجاوزن التعبير عن العجز بسميج أقوالهم. لذلك فهم يركزون نقدهم على بعض الشعوذات وينسون أنها أمور تلازم منها كل المجتمعات (مثل الفتاوى التي يضخمون من دلالتها وينسون أن أمريكا التي يحلمون ليلا نهارا بالعيش حتى في مزابلها أكثر شعوب الدنيا شعوذة دون أن يحول ذلك دونها والتقدم) وأن ما عندهم منها خزعبلات لا تختلف عنها إلا بنوع جعله من المعبودات في عرف كل الأمم السيدة من المرذولات. ونحن سنذكر هنا –بعد وصف التناظر بين خزعبلات فقهائهم وشعوذات المتخلف من فقهاء خصومهم في مقالنا حول فينومينولوجيا الدنكيخوتية العربية- بالمراحل التي آلت بهم إلى الهزيمة فجعلتهم محابيس المنطقة السوداء التي يعلمون أن سقوطها آت لا ريب فيه وهي المراحل التي لم يعقلوها ففقدوا كل قدرة على تقدير الأمور وباتوا يحاربون نواعير الطواحين. وسنوردها بترتيب تكوينيتها في واقعنا التاريخي وفي جينايولوجيا معتقداتهم الساذجة:
المرحلة الأولى:
هي نشأة عقدة الخواجة قبل بداية الاستعمار. فأصحاب هذه العقدة لم يدركوا أن الغرب الذي أعجبوا بمظاهر نهضته دون فهم ويريدون فرض تصوراته لم يحقق عصره الكلاسيكي (الثورة العلمية) وعصره التنويري (الثورة السياسية) وعصره التحريري (الثورة الاجتماعية) بما يشهدونه في زياراتهم السريعة لبعض حواضره أو بما يراه الآن بعض السخفاء في بضع دور السينماء. لم يبن الغرب نفسه بعقلية التسيب والاستهلاك التي لا يكتفي الليبراليون العرب بعيشها في حياتهم الخاصة بل يريدون فرضها على الشعوب.
ولعل عقدة الخواجة هي الرمز الأفصح على هذه النزعة التحضيرية المزيفة التي تخلط بين هذا المرض وقيم التنوير والتحديث. لم يفهموا أن هذه القيم تكون بالضرورة مزيفة ما لم نعمل على جعلها بالتدريج تنبع من تطور ذاتي يقطع الوقت الضروري لعمل الوقت في التحول الثقافي المستقل. لم يفهموا أن الغرب حقق ثوراته بعقلية أشبه بالعقلية التي يحاربونها أعني بعقلية بدأت مع الصحوة الدينية الغربية وكانت سمتها الأساسية هي الصرامة التربوية شديدة المحافظة سمتها التي ظلت ينبوع الإبداع الغربي إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية: ولا عجب فليس من اليسير لمن فقد كل "فيبر" حي (بالمعنى الفرنسي الدقيق) أن يفهم ماكس فيبر !
كيف لا يفهمون أن ما حدث في ثورة 68 الأوروبية وما بلغت إليه حركات النزعة النسوية إلخ... بعد الحرب العالمية الثانية لا يساعدانهم في دعاواهم لأنهما من أكبر الأدلة على أنهما كانا رد فعل على منطق الصرامة والانضباط الخلقيين والقيميين اللذين حققا معجزات الغرب وليس التسيب والاستهلاك الذي يحلم به أصحاب عقدة الخواجة. إنهما دالان على السعي إلى التحرر من هذا المنطق بعد أن حقق ثمراته وتوفرت شروط الاستفادة من جهد خمسة قرون. أما عند نخبنا الدنكيوختية –التي تنسى أن منطقهم هذا يحول دون تحقيق أدنى واحدة من الثورات الأوروبية التي تؤدي إلى ما يحلمون به من عقلية استهلاكية لو آمن الآسيون بها لكانوا دجاج النخب العربية لا نمور القارة الأبية- فإنه يكون أفضل مثال على ما نعنيه بعقدة الخواجة التي أصابت جدود هؤلاء النخب واستفحلت عند ذراريهم المدللين الذي يقبلون أن تستعبد شعوبهم فتدوسها دبابات الكاوبوي لإشباع نزواتهم: فالحريات عندهم تقتصر على توفير ما يشبع البطن والفرج والسماح بكل ما تعتبره ثقافتهم من الموبقات وهي لهذا تعد ثقافة تخلف وظلام يستحق كل الشعب المؤمن بها حكم الإعدام في حين أن للأمريكي الحق في يحكم العالم ليفرض عليه تقاليده التي يندى لها جبين الكرام.
فليس ما جعل الغرب الأصيل يصل إلى ما هو عليه من قوة مادية ورمزية مكنته من السيادة على العالم هو المطلوب عند الدناخيت العرب بل إن سلوك طغاته الذين استعمروا العالم وامتصوا خيراته في مستعمراته هو الذي أنتج نموذج الخواجة الذي يحيا برفاه متعال على الحاجة ومتحرر من الانضباط والأصالة الغربية التي حققت التحديث والتنوير. لم يبق عند أصحاب العقدة منا إلا هذا المثال السيء يحاربون به كل من يسعى إلى تحرير البشرية من الطغاة. لكن الشعوب العربية لها إباء تسمده من إيمانها بقيم الآباء. الشعب ثار فرفض ممثلي الصغار والعار المتحالفين مع أدوات الاستعمار والقادمين على دبابات الدمار والمغرقين بلاد الإسلام في بحار الدماء والزارعين أرضه بالشهداء تؤيدهم كتابات التزوير حول قيم الأنوار وأساليب التحقير من شأن الثوار.
أولئك هم الدناخيت. فهم أشبه بمن هم من رهطهم الذين رهنوا الأوطان في بداية النهضة (بلاط تونس ومصر في بداية النهضة) لبناء قصور تشبه قصور من أعارهم المال فاستعمر البلدان وجعل أهلها أذلة وأفسد الوجود والفكر إفسادا قلب في أذهان أشباه المثقفين العلاقة بين العلة والمعلول: فباتوا يعتبرون قوة الغرب معلول رفاه نخبه ومتعهم البهيمية وليس العكس. فهل يمكن أن يكون من أصابته هذه العقدة من ذوي العقول؟ أليس هو مخبول إذ يزدري الشعب فيظنه مجرد بهلول؟ وهل يمكن ألا يكون مزطول من يمول مواقع لها الفكر المرذول؟ فالفكر الذي من هذا الجنس لا تتعالى عند أصحابه الحريات عن الدنيات إذ هم مستعدون لتفضيل استبداد العبيد على حرية العباد وبيع التليد على الجهاد وبلاهة الهوى على السداد وسفاهة الرأي على الرشاد.
المرحلة الثانية:
هي أن أشباه المصابين بعقدة الخواجة انضووا في نظام المستعمر فأعدهم ليكونوا وكلائه في البلاد عندما غلب على أمره في حرب التحرير التي خاضها أهلها الذين رفضوا العار ولم يكونوا قابلين بالاستعمار. ولم تنج موجة الانقلابات على وكلاء الحكم الاستعماري لأنها سرعان ما أصابتها العدوى فأصبح أهلها لا يطمئنون إلا إلى المؤمنين بعقدة الخواجة ممن صاهروهم وتقاسموا معهم غنيمة الوكالة على الوطن في خدمة المستعمر غير المباشر. وكان الهدف هو القضاء على مقومات الأمة بالتحديث القسري الذي أفسد شروط النهوض الحر والمستقل فباتت الشعوب المستفزة ترفض كل علاج لشأنها ولا تطمئن لأي داع مهما كان صادقا بردة فعل تشبه النكوص إلى آليات الدفاع الدنيا في كل كيان حي تكالبت عليه الأعداء من كل جانب وخاصة ممن يزعمون تحديثة رغم أنفه.
المرحلة الثالثة:
محاولة نقل "إيدس" عقدة الخواجة إلى كل شباب الأمة بما يسمونها إصلاحات تحديثية للثقافة العربية أهمها قتل اللغة الوطنية ومسخ التاريخ القومي وتركيب البروتازات بدل إعادة تأهيل الأعضاء الذاتية. من ذلك ما يسمونه بتطوير المجتمع المدني المستورد تصورا وتمويلا بديلا من المجتمع الأهلي الذي يحاربونه لظنهم أنه ظلامي ومتخلف. وبعد أن ساعد الاستعمار الأوروبي عملاءه في عملية الاستحواذ على حركات التحرير القومية بانقلابات نرى الاستعمار الأمريكي يكرر أمام ناظرينا في المشرق ما كنا قد رأينا جنيسه في المغرب للاستبداد بالصحوة وتحريفها كما حرفت النهضة هو ذا يساعدهم بموجة جديدة من الاستعمار المباشر بعد أن فشلت جهود وكلائه في تحقيق ما يحلم به: اجتثاث قيم الإسلام وتمسيح العالم بالمعنى الهيدجري للكلمة شرطا في تحقيق الكونية الغربية. لكن الله شاء أن ينفخ في المسلمين النفس الثاني من حرب التحرير الحقيقية التي يتهمها عملاء الاستعمار بالنكوص إلى القرون الوسطى في حين أنها الصحوة البديل من النهضة التي حرفوها.
لكن ما يخيفهم حقا هو ما لم يفتهم رغم سخفهم: فالنخب الأصيلة لم تبق كما كانت في بداية النهضة جاهلة بالغرب ومقومات حضارته بل هي تمكنت من أسباب الثقافة الحديثة من منظور مستقل ومتحرر من عقدة الخواجة في حين أن ذوي العقدة فقدوا ما ظنوه تمكنا لما كانت بيدهم الوكالة وهو لم يتعد عقدة الخواجة التي أعطتهم وهم الحداثة: حتى تبين لهم في مناطقهم الخضراء أن هذه النخبة وصلت إلى حالة لا تعدو مآل الحثالة التي استبدلت دقيق القمح بالنخالة وعميق الفكر بفضلات الزبالة. منذئذ بدأت عجلة التاريخ تدور في الاتجاه الصحيح: ويكفي أن تقارن أمية زعمائهم ومفكريهم وثقافة زعماء الصحوة ومفكريها سواء كانوا في الحكم أو في المعارضة وتخنث شباب المصابين بعقدة الخواجة وجبنهم بصلابة شباب الصحوة وشجاعتهم. هؤلاء يصنعون التاريخ وأولئك يرقصون في المريخ ! صف التحديث العقلاني المتروي والمستقل اختار صف الثوار على عار الاستعمار وغادر الصف الذي لم يعد فيه إلا كل ثرثار ليس في فكره إلا التكرار لما لم يعد الغرب نفسه يعتبره جديرا بالاعتبار!
المرحلة الرابعة:
وما أن فشل الاستعمار الثقافي بعد خسرانه المعركة الثقافية حتى انتقل المبدعون الحقيقيون إلى منبت المدارس الأصيلة التي حققت التحديث المستقل من منطلق التحرر من عقدة الخواجة. فالنخب المتخوجة لم تحكم بشرعية ذاتية بل بوكالة استعمارية وحتى هذه الشرعية المقدوحة فإنها لم تنجح في المحافظة عليها فتحالفت مع الاستبداد العسكري الذي ترك لها ساحة الفكر تصول فيها وتجول فخلطت بين منابع الإبداع ومجاري البول. فكان الجميع أدوات للخواجة يفسدون التحديث بالتدجيل ويقضون على الأصيل بالدخيل.
لكن الخواجة لم يعد يرضيه صاحب عقدة الخواجة رغم يقينه من أن البديل لن يقبل به: وذلك هو مأزقه ومأزقهم. فلا هم بصالحين له إذ هم فاقدون حتى لظاهر الشرعية التي يمكن أن يلعب عليها كما فعل عند تمكين نظرائهم من الاستبداد بأمر الحركات الوطنية ولا هو صالح عند النخب الأصيلة التي تحاربه في ميادين القتال وفي ميادين الجدال. إنه يعلم أننا غلبناه مع عملائه المسلحين بالتكنولوجيا في المعركة العسكرية ونحن غالبوه مع عملائه المسلحين بالإيديولوجيا في المعركة النفسية ولن نبرح حتى نحرر البشرية كلها دون استثناء مواطني البلاد الاستعمارية نفسها. فهم أحوج الناس إلى ثورة قيمية تحمي المعمورة من السموم التي فرضها صنم الحداثيين أعني ذاتوية الإنسوية التي يكلم باسمها حثالة المثقفين متصورين الوقوع تحت وطأة أمراض الحضارة تحديثا وتنويرا وهي لا تكون إلا تهديما وتزويرا.
المرحلة الأخيرة:
وهي التي نعيشها اليوم: حمى النخب الخواجية بعد أن شارفوا الهزيمة المطلقة في مجال القيم بأصنافها كلها. لم يبق شيء من الإبداع الذوقي (الفنون التي اقتصرت عندهم على المجون) ولا من الإبداع الرزقي (الاقتصاد الذي اقتصر عندهم على وكالة شركات المضاربات) ولا من الإبداع النظري (العلوم التي اقتصرت عندهم على رسائل الاختلاسات) ومن الإبداع العملي (السياسة والأخلاق التي اقتصرت عندهم على المناورات) ولا الإبداع الوجودي (الدين والفلسفة اللذين اقتصرا عندهم على التبشير بخطب البابوات) بيدهم بل هي انتقلت إلى الشجعان الذي سادوا على كل ميدان. إنما الدناخيت أصبحوا حفاة عراة في الفلاة ! لذلك تراهم يلجأون إلى الاستعانة بمن هو مثلهم ليس بمنجاة: فلا أمريكا ولا إسرائيل ولا حتى الشيطان بقادر على منع سقوط المناطق الخضراء والغبراء لأبناء الطلقاء. لا آلة أمريكا العسكرية ولا تمويلها للحرب النفسية بشافعين لهم. ذلك أن مجتمعهم المدني البروتاز رقصة جاز وديموقراطية مجاز في مناطق سوداء لن يحميها جنرالات أمريكا حتى بنصيحة موفاز !
خاتمة
وهذا المآل المحتوم ليس هو شيئا آخر غير السنتين الكونيتين اللتين عرفتهما أمم قبلنا ولعل آخر من عرفها هو أوروبا. 1- فالنهضة الفعلية لم تحدث في الغرب 2- إلا بعد انتصار الإصلاح الأصيل الذي قضى على أصحاب التدجيل الذين كانوا يزعمون تمثيل التنوير والعقلانية بتقليد الرشدية تماما كما نرى دجالينا من دناخيت العرب يوهمون الناس بأنهم عقلانيون وهم مقلدون لقشور الحضارة وأحط ما فيها من حقارة فتخلط الحقيقة والاستعارة ولا تميز بين الحب والدعارة.
لذلك فسقوط المناطق الخضراء في الساحتين السياسية والثقافية هو الشرط الضروري والكافي للشروع الفعلي في النهضة الحقيقية تحقيقا للقيم الكونية التي تشترك فيها كل الحضارات. وهي متعالية على التقاليد التي تختلف بها لأمم بعضها عن البعض: حقوق الله وحقوق الإنسان. فالأولى من دون الثانية يمكن أن تصبح مصدرا للطغيان اللاهوتي. والثانية من دون الأولى يمكن أن تصبح مصدرا للطغيان الناسوتي. وكلاهما مر به الغرب لظن نخبه أن الثاني يحرر من الأول فكان أبشع منه. وقد حان تحرير الإنسانية منهما معا: وذلك لا يكون إلا بفهم ثورة القرآن الكريم فهما جديدا وتجديديا يحدد شروط استعمار الإنسان في الأرض واستخلافه عليها ليكون راعيا لها لا طاغيا عليها.
08-أيار-2021
02-آب-2008 | |
01-تموز-2008 | |
19-نيسان-2008 | |
07-نيسان-2008 | |
01-نيسان-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |