أسرار في الطريق

أصاب ضياء النهار وجه النائم
فامتلأ حلمه بالحياة
لكنه لم يستيقظ.

أصابت العتمة وجه السائر
بين الأخرين في نور الشمس القوية
قصيرة النفس.

فجأة تعتمت كما عند مرور غمامة.
فانتصبت بغرفة احتوت على كل اللحظات
بمتحف الفراشات.*

ومع ذلك فالشمس قوية كالسابق
فرشياتها قصيرة النفس رسمت الدنيا.

*= للشاعر متحف شخصي للفراشات على شتى أصنافها


سكة حديد

في الثانية ليلاً. ضوء قمر. توقف القطار
في قلب السهل. على بعد مسافات انوار مدينة
تردد بارد على خط الأفق.

كمثل من غاص في قاع مرضه
وكل أيامه الماضية هي بضع بقع تتردد بسرب

بارد ومفقر على خط الأفق.
القطار توقف كلياً.
في الثانية ليلاً. ضوء قمر صلف. بعض النجوم.

*
في بعض الأحيان تفتح حياتي عيونها في العتمة
كأنما جموع كانت تغمر الشوارع
مبهورة مضطربة في دربها إلى معجزة
بينما أنا غير مرئي أبقى واقفاً محلي.

كمثل طفل غفى يصتنت ورعاً
لخطوات القلب الثقيلة.
مازال الكثير من الوقت الكثير جداً إلى أن
تسلك الشمس الأشعة بالقفول
وتنفتح أبواب العتمة.

تسع قصائد هايكو من سجن الشبيبة هيلبي

*
كرة قدم
فوضى مفاجئة. طارت الكُرة
خارج الجدار.

*
هم يكثرون الضوضاء
يحثون الزمان
لكي يستعجل.

*
في الحياة التي تشوشت
ينجو الجمال
بنقش الوشم.

*
قبض على الهارب
وجيوبه مليئة
بالفطر الغذائي.

*
ضجيج ورشة
مسيرة برج الحراسة
ارتباك الغابة.

*
إنفتحت بوابة
ها نحن في حوش المؤسسة
فصل جديد.

*
أنوار الجدار
حشرة ليلية ترى
بقعة نور عجيبة

*
ليلاً- شاحنة
تمضي, أحلام
السجناء ترتجف.

*
صبي يرتشف حليباً
يغفو هادئاً في زنزانته,
أمومة من حجر.

هامش:
عام ۱۹٥٩ زار توماس ترانسترومر صديقه طبيب النفس والشاعر اوكا نوردين, آنها, مدير سجن هيلبي بجوار إسكليستونا وسط السويد. وبعدها أرسل له معايدة لرأس السنة بطاقة بريدية تحمل ۸ قصائد هايكو. وفي ۲٠٠۱ طبعت القصائد طبعة خاصة وإليها أضيفت القصيدة التاسعة التي نسي ضمها إلى بطاقة المعايدة.


قمم

متنهدة تبدأ المصاعد بالصعود
في دور عالية قابلة للإنكسار كالخزف
سيكون نهار ساخن في الخارج على الإسفلت
غمضت الإشارات جفونها.

الأرض هي مرتقى جبل يفضي إلى السماء
قمة بعد قمة, دون ظل حقيقي
إننا نتابعك طيراناً
من خلال شاشة الصيف الواسعة.

وأثناء الليل أتمدد كسفينة
أطفأت أنوارها. على مسافة صحيحة
من الواقع بينما الطاقم
يلهو في الحدائق العامة. هناك على اليابسة.

الذكريات تراني

في صباح يونيو مبكراً أكثر من اللزوم
أفيق. ولكن فات آوان عودتي للنوم.

عليّ الخروج إلى الروض المتشبعة
ذكرايات تقتفيني بنظراتها.

غير مرئية تمتزج جيداً
في الأسس كمثل الضب

قريبة لحد سماع تنفسها
رغم أن زقزقة العصافير تصم الآذان.

بطاقة بريدية سوداء

۱
إمتلأت المفكرة. المستقبل غير معروف
الكابل يدندن أغنية شعبية بلا وطن
ثلج يهوي في بحر هادىء كالرصاص. ظلال
تتصارع على الرصيف.

۲
يحدث إن الموت يأتي في منتصف الحياة
ويقيس الإنسان. فالزيارة
تنتسى والحياة تستمر. لكن البدلة
تتخيط بدون أي حس.

المحطة

دخل القطار حافلة بعد حافلة
ولم تفتح الأبواب. لا من الداخل, لا من الخارج
هل توجد أبواب؟ وفي الداخل جموع البشر تترنح.
النظرات تثقب الزجاج المسبوك
في الخارج يخطو شخص على مدى القطار مضرب في قبضته.
يضرب العجلات. فترن قليلاً. أما هنا. بالظبط
هنا يتعاظم الرنين جداً: كمثل صفع البرق
كأجراس الكاتدرائية, كما رنين إبحار حول الكرة الأرضية
يرفع القطار برمته. وحجارة المحيط المبتلة.
كل شيء يشدو. تذكروا ذلك. إستمروا في الرحلة.

في أعماق أوربا

إنني سفينة مظلمة تطوف بين مزاليج السّد
أستريح في سرير الفند ق. المدينة تصحو فيما حولي
ضجيج خافت ونور رمادي يغمرون داخلي.
يعلونني درجة: إلى الصباح.

أفق يصتنت. الموتى يرغبون الحديث
يدخنون ولا يأكلون. لا يتنفسون. فيحتفظ حسهم.

بعد قليل سأمضي في الشوارع كواحد منهم
تسوَّد الكاتدرائية ثقيلة كالقمر. تسبب المد والجزر.


في ملكوت عدم الثقة

مديرة المكتب تكبو إلى الأمام وترسم إيكس
أقراطها تتقلقل كأنها سيف ديموقلس.

كفراشة منمرة إبتلعت ألوان الأرض
يمتزج البديهي بالجريدة المفروشة.

خوذة لا لابس لها تولت السلطة
سلحفاة-أم تفر طائرة إلى أسفل المياه

للأصدقاء فيما خلف الحدود

۱
كتبت لكم ببخل فائق. أما ما لم يسمح لي كتابته
تكدس وانتفخ كمنطاد من أيام غابرة
ومر مؤخراً في سماء الليل.

۲
الأن, الرسالة عند المراقب. فهو يعلق المصباح
لتقفز كلماتي في ضوئه كما القرود على القضبان
تنفضه. تستريح للحظة, وتكشر أنيابها.

3
إقراؤا بين السّطور. سنلتقي بعد مائتي عام
عندما تنتسى مكبرات الصوت في الفندق
ويسمح لها بالنوم لتنقلب لأخطبوطات متحجرة.

مخفر

يأمروني بالخروج إلى كومة الحجارة
مثل جثة ذات نسب من العصر الحديدي.
الأخرون ظلوا نائمون في الخيمة
متمددون كمثل محاور دولاب.

في الخيمة تتحكم الصوبة: أفعى كبيرة
بلعت كرة نار تلهبها.
أما هنا في الخارج بأمسية ربيعية. سكون
بين الحجارة الباردة المتوسلة للنور.

هنا في البرد إبتدأ طيراني
كأنني ساحر. لأطير إلى جسدها
المبقع بالبياض كزخرفة على المايو-
كنا في قلب الشمس. كانت الرطوبة ساخنة.

أمضي أمام لحظات ساخنة
ولكن ممنوع أنا من التوقف فيها.
من الفضاء يصفرون لي بالرجوع –
أزحف خارجاً عن الحجارة. هنا والآن.

مهمتي أن اكون في المكان فيه يتواجدون
حتى بوظيفتي الرصينة لحد الظرافة –
في تكوين يشتغل على ذاته.

فجر. جذوع الشجر متناثرة
تكتسي ألآن لوناً. زهور
الربيع ملدوغة الصقيع تسير
أكاليل خلف شخص ضاع في العتمة.

ولكن التواجد في المكان يتواجدون فيه. والإنتظار.
إنني وجل, مُصِّر, مضطرب.
الحوادث المقبلة, موجودة!
أحس بها – هي في الخارج:

جموع الناس تضج من خلف الحاجز.
يُأذن لهم بالعبور فرداً فرداً فقط
وهم لا يريدون الدخول. لماذا؟ هاهم قادمون
فرداً فرداً. فأنا المفرق!.

صيغ شتوية

۱
غفيت في سريري
واستيقظت تحت غطاء جليدي

في الرابعة صباحاً
وعظام الوجود العارية
ترافق بعضها ببرودة

غفيت بين السّمام
وفقت بين العقبان

۲
بنور المصابيح يزهو الجليد
على الدرب كالدهون الحيوانية

هذه ليست أفريقيا
هذه ليست أوربا
هذا ولا أي مكان سوى "هنا"

والذي كان "أنا"
هو فقط كلمة
بثغر عتمة كانون الثاني

۳
جناحات المؤسسة
مصطفة في العتمة
تضوي كشاشات التلفاز

صوتها المتخفي
في البرد القاسي
يبعث بنبرة تخصه
أنا واقف تحت سماء منَّجمة
وأحس كيف تزحف الدنيا
دخولاً وخروجاً بمعطفي
كما في وكر نمل.

٤
ثلاث سنديانات سوداء في الثلج .
جلفة, لكنها حاذقة. من قوراريها العملاقة
سيعلو زبد أخضر في الربيع

٥
يجتاز الباص بزحفه مساءاً شتوياً.
يضوي كسفينة في أدغال التنوب
يعلو فيها الدرب ضيقاً, عميقاً وميتاً.

الركاب قلائل. البعض شيوخ والبعض صغار جداً.
لو وقف وأطفأ أنواره
لإضمحلت الدنيا.


عصافير صباح

أوقظ سيارتي –
زجاجتها الأمامية مغطاة بلقاح الزهر.
أضع نظارتي الشمسية
يتكدر شدو العصافير.

شخص ما يشتري جريدة
من محطة القطار
قرب شاحنة كبيرة
إحمّرت كلياً من الصدأ
وامضة لنور الشمس.

هنا لا من فراغ في أي مكان.

حرارة الربيع يجتازها بهو بارد
فيه شخص يندفع
ليروي ما قيل إساءة له
حتى إلى هرم الإدارة.

من باب الطبيعة الخلفي
أتى قعقع
أسود وأبيض. عصفور هِل*
والشحرور يترنح هنا وهناك
لحتى يصبح كل شيء مخطوطة فحمية.
ما عدى الثياب البيضاء على الحبل
فرقة لدنة.

هنا لا من فراغ في أي مكان.

عجيب الإحساس كيف تنمو قصيدتي
بينما أنا ذاتي أتقلص
تنمو فتمسك محلي.
تدفعني جانباً.
ترميني من العش.
قصيدتي الجاهزة.

*= بحسب الأساطير الإسلاندية هِل هي إلاهة الجحيم.


*
خطوط الكهرباء
في مملكة الجليد
شمالأ من كل الموسيقى .

*
شمس بيضاء
تهرول وحيدة إلى
جبال موت زرقاء.

*
علينا أن نحيا
مع العشب الناعم
وسخرية السرداب.

*
ليل يجري
من الشرق إلى الغرب
على وقع القمر.

*
هنا الإلهة.
وبنفق شدو العصفور
باب مسدود ينفتح.

قلب الشتاء
زهو أزرق
يشع من ثيابي.
قلب الشتاء.
أغمض عينيي..
فثمة دنيا صامتة
هناك الأموات
يختلسون الحدود.

Tomas Transtromer

الشاعر السويدي الكبير توماس ترانسترومر يعتبر أكبر شاعر بلاده في منتصف القرن العشرين. ومن أعظم شعراء أوربا كلياً. منذ صدور كتابه الأول "۱۷قصيدة"- عام ۱۹٥٤ وضع بصمة قوية في أعماق الشعر السويدي. وكان أثرها كبيراً.
ولد ترانسترومر عام ۱۹۳۱ في استوكهولم لوالدة مدرسة ووالد صحفي. وبعد طلاق والديه وهو لا يتجاوز الثالثة من العمر, عاش وحيداً لأمه. وفي سيرة حياته: الذكرايات تراني" عام ۱۹۹۳. يروي بأنه منذ صغره أراد أن يصبح عالماً. اما فدراسته الجامعية تضمنت الأدب, علم النفس والأديان. وعند نهايتها, عمل خلال خمس سنوات كطبيب نفس في سجن الشبيبة. وثم خمسة وعشرون عاماً في المؤسسات البلدية بنفس الوظيفة. وهذا يتجلى في بعض قصائده بقوة. وخاصة قصائد الهايكو التي أرفقتها لهذه الترجمة.
فرج. ب