الأصل في نيل المآرب بعد اعتلاء المناصب
2009-08-19
لديَّ ميلٌ في بدء السّرد لرواية طرفةٍ تحمل دلالاتٍ ومعانٍ تفيدُ ما سوف يردُ بعدها من أفكارٍ وتحليلٍ، وأحسب أنّني سوف أختمُ سردي بطرفتين عشتهما.
أمّا طرفةُ البدءِ فقد جرت في ملهاةٍ تلفازيّةٍ، حين يقوم البطل الباحثُ عن فرصة عملٍ بالعمل في مطعمٍ برتبة (مرمطون) أي المسؤول عن التّنظيف، وهي أدنى مرتبة وظيفيّة في المطعم حتى أنّها أدنى من رتبة (الكرسون) الذي يُقدّم طلباتِ الزّبن (جمع زبونٍ)، فيتعرّض له العاملون بشتّى أنواع الإهاناتِ ويتعاملون معه بفوقيّةٍ كونهم أعظمَ شأناً منه، فذا يصرخ فيه مُدّعياً أنّه مدير التّنظيف، وذاك مدير الطّبخ، وتلك مديرة (الكراسين)، وكان الجميع ينهرُهُ ويطلب منه إظهار الاحترام الواجب على من هو أدنى لمن هو أعلى، حتّى (الكرسون) كان بطبيعة الحال ينظر إلى (المرمطون) بتعالٍ لأنّه أعلى منه.
يوقِنُ بطلنا بأنّ كلّ من في المطعم مديرون باستثنائه هو، وفي نهاية دوام يومه الأوّل يأتي صاحب المطعم (المدير العام) سائلاً إيّاه عمّا أنجزه؛ فيجيبه بأنّه غسل كذا ونظّفَ ذاك ... باستثناء صرصورٍ رآه في المطبخ اضطرّ لتركهِ حيّاً. فاستشاط (المدير العامّ) غضباً وسأله مستغرباً عن سبب تصرّفه ذاك، فما كان من (المرمطون) إلا أن أجاب: خفتُ أن أقتله فقد يكون مدير الصّراصير.
لعلّ تلك التّمثيليّة تُبيّنُ ما وصل إليه السّعي خلف المناصب و التّسمياتِ الرّفيعة من تَمَكُّنٍ في ثقافة من يُحيط بنا، لقد وُفِّقَتْ في تصوير بعض جوانب العَلاقة بالمنصب (السّلطة)، وما تلك العلاقةُ في حقيقتها إلا غصناً من أغصان النّظرة المتفشّيةِ للوظيفة العامّةِ ذاتِ جذرِ اعتبارها مغنماً سهلاً لكلِّ ذي حاجةٍ ماديّةً كانت أم معنويّةً، ومقاربتُها يُفترض أن يُحرِّكَها وعيُ تعدّدِ العوامل المُشكّلةِ لها، المُحدّدةِ لخصوصيّتها، المُحفّزةِ أو الزّاجرةِ لتمدّدها.
وهي لا تُعبّر عن تخلّفٍ إداريٍّ فحسب، وقَصْرُ آثارها على المؤسّساتِ هو من باب قِصَرِ النّظرِ وقِلّةِ التّدبّرِ في فهمها، لأنّها بمنبعها و أثرها متغلغلةٌ في شتّى مظاهر الحياة الاجتماعيّةِ و شُعَبِ العلاقاتِ الإنسانيّة، في حيّز العمل، وفي فضاءاتِ الأسرة وروابطها بين الأخوة وبينهم وبين آبائهم، وفي أواصر الفرد الأخرى من صداقةٍٍ وزمالةٍ وجيرةٍ ...إلخ.
إنّها تَجَلٍّ لمفهوم السّلطة لدى الفرد، و شكلُ حضور جملة القيم السّائدةِ الوالدةِ لرؤيته و فهمه وعاداتِ وأعراف السّلوك السلطويِّ، ممارسةً للسلطة أو خضوعاً لها.
بقليل الكلام: هي ظاهرةٌ اجتماعيّةٌ، ولأنّها ظاهرةٌ: صارت محلاً لمباضع فروع علوم الاجتماع لكشف قوانينها وأسبابها و وصفِ تحوّلاتها وتوقُّعِ نتائجها والفصلِ بين عابرها و دائمها وبين عارضها وجوهرها، لذا تهافتت عليها الفلسفةُ و التّاريخُ وعلوم النّفسِ والسّياسةِ و الإدارةِ مُعْمِلَةً فيها أدواتها للنيل منها كشفاً واستفادةً واعتباراً.
أصل المشكلة يَكْمن في اضمحلالِ تفريق الحاكمين و المحكومين بين مفهومي السّلطة و النّفوذ، وإزالةِ الحدود بينهما عمداً (من قبل أصحاب المصالح) أو بغير عمدٍ (من قبل الجاهلين)، ولعلَّ أسوء الأحلاف في التّاريخ ـ الاجتماعيّ أو الأدبيّ ـ كان حلف المصالح الشّرِّيرة و الجهل.
فما هي السّلطة؟
السّلطة هي تَمَلّكُ قدرة التّحكم في تصرّفاتِ الآخرين، والنّفوذُ كذلك، إلا أنّ السّلطةَ تختلف عنه بأنّها مُشرّعةٌ إمّا عرفاً كما في سلطة شيخ العشيرة أو قانوناً كما في سلطة المدير.
انظرْ إلى قاطع طريقٍ يستطيع بقوّته إيقاف سيّارتك، إنّه ذو نفوذٍ عليك، أمّا شرطيّ المرور فيوقفك لأنّه صاحب سلطةٍ استمدّها من قانون السّير، بل إنّك تقف امتثالاًَ لإشارة المرور الحمراء برغم غياب الشّرطيِّ، لأنّ السّلطة مستقلّةٌ عن أدواتِها مُكتفيةٌ بذاتِها، وهي هنا استغنتْ عن البشر واستعاضتْ عنهم في تحكُّمها بسلوكك بآلةٍ ضوئيّةٍ تُصدر ألواناً مختلفةً تمتثلُ لها.
السّلطة إذن نفوذٌ شرعيٌّ حكماً، أمّا النّفوذ فليس سلطةً شرعيّةً بالضرورة، وهو لن يصير سلطةً إلا إذا شُرِّعْ.
مصدر السّلطة قوّة القانون، أمّا مصدر النّفوذ فقانون القوّة، لأنّ مالك النّفوذ يتحكّم ببعضكَ لاختلال موازين القوى بينكما لصالحه، إنّه يفوقُكَ قوّةً (عضليّةً أو ماليّةً أو مكانةً) وفارقُ القوّة بينكما هو ما يجعله أقدرَ منك تحكّماً بسلوكك.
ما يحصل: هو أنّ صاحب السّلطة قد يستخدم سلطته في ممارسة نفوذٍ غير شرعيٍّ، فالتّحكّم بوقت انصرافك أو دخولك إلى مقرّ عملك منصوصٌ عنه قانوناً، و المُعَيّنُ على لحظِ حُسْنِ التزامك بالوقت صاحب سلطةِ إلزامك بذلك، وسلطته تخوّله تقرير مدى احترامكَ قوّة القانون، إنّه يستطيع غضّ طرفه عن مخالفاتِكَ إن رشوته، وقد يبتزّكَ لغاياتٍ و في قضايا لا علاقة لها باختصاصه في مراقبة دوامك. وقِسْ على ما سلف في سلطة الموظّفِ على معاملاتِ المواطنين ما شاء لك القياسُ، وأطلقْ لمخيّلتكَ العنان في تصوّر أساليب ابتزاز بعض الرّؤساء للمرؤوسين، والحاكمين للمحكومين.
بالمقابل يسعى صاحب النّفوذ لامتلاك السّلطة عبر تشريعِ قوّته، فمن كانت قوّته في ماله يقوم بشراء ذمم القائمين على وظائفَ رسميّةٍ لاتخاذ ما يناسبه من قراراتٍ، أو قد يشتري موقعاً وظيفياً يُعَيّنُ فيه ليحظى بسلطةٍ ترضيه نفسيّاً واجتماعيّاً وتُلبّي رغبته في زيادة ما كدّسه من مالٍ، ومن كانت قوّته في مكانته سعى للوصول إلى منصبٍ رسميٍّ، فشيخ العشيرة يترشّح للبرلمان وينجح بأصوات الخاضعين لنفوذه.
هذه الجدليّة الدؤوبة في تحوّلاتِ كلٍّ من النّفوذ و السّلطة، وسعيهما للتماهي في بعضهما، أو قُلْ محاولاتِ كلٍّ منهما أخذ هويّة الآخر، له ثلاث خواصٍّ:
الأولى أنّه غير خصيصٍ بأمّةٍ أو شعبٍ دون سائر الأمم و الشعوب، والثّانية هي أنّه ممتدٌُّ في الزّمن مذ ظهرت فوارق القوّة في الحياة الإنسانيّة، أي مع نشوء الإنسان، إذ قبل ظهور التّبايناتِ بين قوى البشر الماليّة أو الاجتماعيّة النّاجمة عن الانقسام الذي أصاب المجتمع إلى طبقاتٍ كان النّفوذ يُستمدُّ من القوّة العضليّة. ثالثةُ الخواصِّ هي طبيعة علاقة التحوّل بين السّلطة و النّفوذ مع القانون، فتحوّلُ النّفوذ إلى سلطةٍ يمرُّ من تحت عباءة القانون، برضاه وموافقته، أمّا صرف السّلطة في مساعي استحواذ النّفوذ فعلى العكس من ذلك؛ يقوم على تهميش القانون والتفافاً عليه ومن خلف ظهره.
مما سبق يظهر دور القانون فيصلاً ومحدّداً بين المفهومين، فما القانون؟
هو معيارٌ يحدّدُ السلوكَ، تضعه إرادة المجتمع (الشّعب) من خلال مؤسّساتِ الإفصاح عن هذه الإرادة (البرلمان)، و ينشأ لحلّ مشكلةٍ أو تنظيم واقعٍ ما يدركه المجتمع ويرغب بوضع إطارٍ له. إذن لمستوى إدراكاتِ الشّعب لضروراتِه الأثر الحاسم في إنشاء المعايير(القوانين) وفي تغييرها متى اكتشف حاجته لذلك، وما مستوى إدراك الضّرورة إنشاءً للمعايير (القوانين) أو تغييراً لها إلا تعبيرٌ عن حالة المجتمع الثقافيّة أو قُلِ الحضاريّة.
وللمعايير جزاءاتٌ لقاء التّفريط بها (عقوباتٌ)، ولهذا كانت مُلزِمةً، ومن ذاك تنبع قوّتها، وتُحدَثُ لها مؤسّساتٌ تُراقب التزامنا بها، وأخرى تُحاسب أيَّ متجاوزٍ عليها، وما يُسمّى فصل السلطاتِ ما هو إلا ضمانةٌ لحسن قيام جميع المؤسّساتِ بمهامّها.
بمقتضى القانون ومنطقه وأهدافه المجرّدةِ: المدير مديرٌ في مؤسّسته، وفي الشّارع خاضعٌ لسلطة شرطيّ المرور (أداة سلطة قانون السّير)، والوزير خاضعٌ لسلطة قاضٍ إن جارَ على القانون، و القاضي خاضعٌ لسلطة الوزير إن كان بينهما تعاملٌ في نطاق اختصاص الوزير، و رئيس بلديّةٍ ما يستطيع هدم بناءٍ مخالفٍ لقاضٍ، والبرلمانيُّ بعد نزع حصانته من قبل إرادة الشّعب (تنزع الحصانة عن عضو البرلمان من قبل البرلمان مجتمعاً بالتصويت) خاضعٌ لسلطة القاضي، وهكذا يكون الجميع متساوين خضوعاً لإرادة المجتمع المُفْصَحِ عنها بقوانينه.
وما يميّز المجتمعاتِ ليس نوعيّة المعايير التي يُنتجها ومدى رقيِّها فحسب، بل درجة التزام الأفراد و المجموعاتِ بها.
أي أنّ المجتمعَ الغالبُ في علاقته بقوانينه ـ بغضّ النّظر عن درجة تقدّمها ـ فعلُ التّجاهل و الاحتقار هو مجتمعٌ متخلّفٌ وفصاميٌّ، يَدَّعي قانوناً ويمارسُ عكسه، ما يفتح له باب التّأخّرِ، وهو بتمريغ قوانينه وتلويثها بمخلّفاتِ حالةٍ حضاريّةٍ سابقةٍ للحالة الحضاريّة التي أنتجتها يستدعي القيم و الممارساتِ القبليّة و الطائفيّة لقهرِ مدنيّة المجتمع، ومخالفةُ القانون ليست سوى إعلاءً لإرادة الفرد على إرادة المجموع، و استدعاءً للفوضى مقابل التّنظيم وللجهل مقابل العلم وللبائد مقابل السّائد وللقوّة مقابل المنطق وللباطل مقابل الحقِّ وللشرِّ مقابل الخير.
على صعيد المؤسّساتِ تظهر سماتُ المجتمع ذي العلاقة الشكليّة بقوانينه من خلال مظاهرَ عدّةٍ نذكر منها مثلاً وليس حصراً: تجميدُ مجالس الإدارة، أو مصادرةُ صلاحيّاتِها، و شكليّةُ العمل بالأنظمة الداخليّة، والتّعامل معها بوصفها ديكوراً مكمّلاً، وتفريغها من محتواها النّاظم للتصرّفاتِ و الصّلاحياتِ وأسس إسناد الوظائف و التّرقّي الوظيفيِّ، و سوءُ استخدام التّفويضاتِ، و البطءُ، وتفشٍّ لظاهرة (كلامُ حقٍّ يُراد به باطلٌ).
أمّا المجتمع الذي يحترم قوانينه فمُتّسقٌ مع نفسه، وهو ما يفتح له سُبُلَ التّقدّم وتطوير تشريعاتِه إن لم تكن متقدّمةً، لأنّه ببساطةٍ: صريحٌ مع نفسه لا يُطعم أبنائه جوزاً فارغاً، يرى كلّ شيءٍ في حجمه دون تضخيمٍ أو تصغيرٍ، فيبرُزُ منه العلماءُ و الفقهاءُ و المُحدّثونَ القادرونَ على صياغة ورسم ملامح مستقبلٍ حقيقٍ بالعيش وجديرٍ بالتّعب لبلوغه.
أمّا لماذا لَحق بالرابطة مع المنصب ما لحق من تشويهٍ؛ فلأنّ مطامع حيازة النّفوذ من خلال السّلطة تجد ما يؤازرها في واقعٍ اقتصاديٍّ يضع المتحكِّمَ و المتحكَّمَ به في حالة حاجةٍ لبعضهما وفق صيغةٍٍ تسمح باستغلال كلٍّ منهما وضعيّة الآخر، فالفقر وتقلّب الأحوال وارتفاع الأسعار وانخفاض الدّخول يعمل على حفز استغلال السّلطة من قبل مالكها للعيش أو الثّراء، ومن قبل فاقدها درءاً للعوز و قضاءً للحاجاتِ، والغنيُّ يشتري القرار ليزداد غنىً و الفقير يشتري الرضا بالخضوع ليملأ معدته ومعداتِ أبنائه وإخوانه وأهليه.
كذلك تجدُ انحرافاتُ البشر بالسّلطة عن غاياتِها ما يسندها في ثقافةٍ تخالف جِبلَّةَ الإنسان وميله الأصيلَ للخير، فموظّفٌ ما يرتشي أوّلاً ثمّ يوجِد من الأعذار و يبني من المعتقداتِ ويتبنّى من القيم ما يبرّر خيانته لجوهره وفطرته الرّافضة لهذا السّلوك، ثمّ بعد حينٍ من تفشّي الأفعال الإفساديّة لا تنفكُّ ثقافة تبريرها بالانتشار، مرتكزةً على ثغراتِ الإرث الثّقافيّ باستحضار وتوظيف أمثالٍ وحوادثَ وقيمِ أوضاعٍ حضاريّةٍ بائدةٍ، برغم وضاعتها تراها ذات سطوةٍ على النّفوس اللاهثة خلف مُسَكّنٍ يريحها من آلام ضميرها التّعب جرّاء ما ارتكبته من مخجلاتِ الأفعال.
ومن ثنايا واقعٍ اقتصاديٍّ سيّءٍ وثقافةٍ إفساديّةٍ تنهل الإداراتُ وتتوحّد غاياتها وأساليبها، فيتغاضى المستوى الأعلى عن الأدنى، ويرفد الأدنى أعلاهُ بمقوّماتِ البقاء ليغدو وجود كلٍّ منهما رهناً لوجود الآخر. حتّى إذا فشا ذلك؛ وجد ذو المنصب مُسوّغاتِ نزوعه إلى الفساد، وأوّلُ نهجههِ في ذلك: إلغاءُ الفصل بين سلطته وبين شخصه تمهيداً لجعل رضا تلك السّلطة مندمجاً بنيل رضاه شخصيّاً، متحوّلاً من مديرٍ إلى سيّدٍ أو إقطاعيٍّ ومُحوّلاً العاملين من موظّفينَ إلى عبيدٍ أو أقنانٍ.
انظرْ ! إلى من يبتزُّ بسلطته سعياً وراء امتلاك القوّة الماليّة (النّفوذ الماليّ) أو وراء امتلاك الاحترام جرّاء الخوف من سوء استعمال سلطاتِه، وانظرْ ! إلى من يعطي إمكاناتِه لسلطته ويستمدّ الاحترام من شرفه وإنسانيّته.
الأوّل شريفٌ لا يستجدي نفوذاً من سلطته، بل يستخدم ما يملك من نفوذٍ قوّةً عضليّةً (صحّته)كانت أم مالاً أم مكانةً و قدراتٍ ومهاراتٍ ومعارفَ في تدعيم سلطته، مُسخِّراً نفسه وما تطويه من خيرٍ لخدمة المجتمع واجد السّلطة، و الثّاني فاقدٌ للشّرف لأنّه يهوي بسلطته إلى دياجير حيازة النّفوذ، مدنّساً قدسيّة الأمانة بوضاعة مراميه، إنّه يضع المجتمع في خدمته، مُقدِّماً نزوته على إرادة المجموع، أرأيتَ من هو أكثر شيطنةً من ذاك؟
في كلّ جهلٍ بالقانون وخرقٍ له تَعَدٍّ وانتهاكٌ لإرادة الشّعب، وحين يرمي امرؤٌ لنفسه غير ما يحقُّ لها يَلصُّ ما لسواه، و يفتئت على مجتمعه، وينتهك حرمة غيره.
من المعروف أنّ استشراءَ الدّاء يكون لضعفٍ في مناعة المصاب أو لانعدامِ الدّواء، وفيما سبق وصفٌ لبعض أوجه الغدر بالقانون وطعنه، فأين هو مما يُفْعَلُ به؟
أهو ضعيفٌ؟
أجلْ ! إنّه ضعيفٌ لسوءٍ أصاب منه نصوصَهُ الرّادعةَ أو آليّاتِه أو كليهما، فتخلّفتْ عن تقنيّاتِ سالبي السّلطاتِ، و لربّما أصاب المرض مؤسّساتِ مراقبة تطبيقه ترهُّلاً وضمورَ كفاءاتٍ، أو يكون قد نالها ما نال مؤسّساتٍ أُخَرْ من استيطانٍ للفساد فيها، وصار القيّمون عليها ممن أساؤوا استخدام مناصبهم.
ألا تشاطرني الجزمَ بأنّ جميع مشروعات ونظريّات الإصلاح إنّما هي وجهٌ ثانٍ لتطوير التّشريع وتمكينِ تطبيقه؟
في مظاهر الطّغيان على القانون:
لا يُستباح القانون دون قصاصٍ، والمدير الذي يستبدّ إنّما يُدمّرُ مؤسّسته وأفرادها، ويُطيحُ في سبيل بناء مجد نفوذه بأحلام وطموحاتِ ومقدراتِ الأكفياء من المعارضين لمحاولاتِ وضع المؤسّسة في ثقب إبرة أنانيّته إجهاضاً لما تحمله المؤسّسة من أجنّة العطاء و النموّ، وذاك هو الثّمن الاجتماعيّ لمسلكٍ كهذا.
ألم ترَ خَرِفاً يتحكّم بفيلسوفٍ، والمعدومَ خُلقاً وعلماً ذا قدرةٍ على إيذاء أرفع العلماء و المؤهّلين؟ أما تساءلتَ: لِمَ يصبح فلانٌ آذناً ويضحي موظفاً ويمسي مديراً؟ وكيف تُكَيّفُ الوظائف إحداثاً أو إسناداً تلبيةً لخصائص الفرد بدل العكس؟
ولأنّ من مقتضياتِ تحجيم القانون وفق مقاساتِ المتجاوزِ أن لا يناقشه أحدٌ، ولأنّ أهدافه الشخصيّة تتقدّم في رُتب الأولويّاتِ إلى رتبةٍ أولى، يُبعَدُ المناقشون و ذوو أهداف و رؤى التّطوير.
و في سياق اغتصاب القانون تُرتكب الجرائم وتُصاغ أعتى المؤامرات و أدهى الدّسائس ضدّ كلّ مُؤهّلٍ لشغل وظيفة المستلِب، إلى أن تضطرّ الضحيّة إلى السّير في نهج الخضوع ورفد قوى المستبدّ بقواها، و الإصرارُ على رفض الاستبداد يُقابله دفع الثّمن سجناً أو جنوناً لتلفيقاتٍ ألمّت بمن ُيصرُّ، ومن يبحث عن الرّاحة مقتنعاً بأن لا ِقبَلَ له بمواجهة عاصفاتِ الفساد يغادر إمّا إلى الخارج (خارج المؤسّسة أو الوطن) أو إلى التّقوقع و الانعزال والانزواء.
وتسود مبالغةٌ كارثيّةٌ لأهمّيّة الخبرة، وهي من أخطر الفِكَرِ تبريراً لإقصاء المتعلّمين والمؤهّلين وتقريب الجهلة ممن يسهل اقتيادهم، وهي من الخبث بمنزلةٍ تثير فيك المرارة و الحسرة على واقعٍ جُلُّ ما يهمُّ القائمين عليه: تسيير مؤسّساتهم كما اعتادوا قبل حِقَبٍ وأزمانٍ بعيدةٍ، واعتبارهم عملها إجراءاتٍ مُكرّرةً لا تُمسّ تحليلاً أو استكشافاً أو تحديثاً، فيتقدّم عاملٌ ما على مهندسٍ لأنّه حافظٌ للإيقاع ومعتادٌ عليه، و لا يتمّ التّفكير بتدريب المهندس على ذلك الإيقاع ليحاكمه بمنهجيّته التي تَعَلَّمَها وأنفقَ المجتمعُ في سبيل امتلاكه إيّاها ما أنفق، ويُكتفى بتقديس تكرار العمل خوفاً من توقّفه إن أصابه تغييرٌ منهجيٌّ أو علميٌّ كخوف الخفافيش من النّور. ألا يعكس هذا رعباً من التّطوير وعداءً للمنهجيّة منشأه جمودٌ وثباتُُ يقتضيهما الحفاظ على المنصب؟
لقد قال ماركس قولاً ذا شأنٍ يفيد في إظهار بؤس الاقتصار على الخبرة عندما بيّن أنّ الفرق بين الشّكلِ السُّداسيِّ الذي يُشكّله النّحل في خليّته وبين ذاتِ الشّكل الذي يرسمه مهندسٌ هو أنّه مرسومٌ في ذهن المهندس قبل إسقاطه على الورق، أمّا عند النحلِ فالحال ليس كذلك لأنّ النحلَ لا مخّ له، وإنّما يفعل ذلك بغريزته. بذا يكون المدير المغلّبُ التّكرارَ على المنهجيّة مراهناً على الغرائز بدل العقول، ولعلّ هذا أكثر ما يعضدُ مساعيه لحيازة النّفوذ.
الإسرافُ في تبجيلِ الخبرة؛ وثنيّةٌ إداريّةٌ منبتها ثقافةٌ سطحيّةٌ ركوديّةٌ قائمةٌ على إغفال الجواهر والانسياق خلف الظواهر، من طقوس عبادتها: تمجيد ممرّضٍ تمجيدَ الطّبيبِ لمجرّد التّشابه في لباسهما، و من مظاهر سطوتها: أن ترى الفنيَّ أعظم مكانةً من المهندس، والموظّفَ القائم بشؤونٍ يوميّةٍ أكثر أهمّيّةً ونفوذاً من واضع الخطط، وسائقَ المدير أو حاجبه مؤثّراً على مصير من يفوقونه علماً وثقافةً ومركزاً وظيفيّاً. وكلّ ذلك عائدٌ لأنّ المدير عاجزٌ عن النموِّ، ولا يستطيع العيش بين الكبار لأنه يرى نفسه جرثومةً ويراهم كحولاً، لا يُطيق أو يُحسن التّعامل مع نافذي البصيرة، فيُصغّرهم ليصيروا بحجمه أو أدنى، وإن فشلَ يُقصيهم مُبقياً على الأقزام ممن يسهل سوْقَهم أنّى شاءَ ليرى نفسه كبيراً عليهم، وهو بذلك إنّما يُقزّم مؤسّسته ومجتمعه وإنسانيّته.
ألا حبّذا يقظةً للقانون عاصفةً تودي بمن كان للتخريب منذورا.
ولست أرى لبيانِ آثار الاستهانة بتسلسل السّلطة أبلغَ من حادثاتٍ وقعتْ تحمل بين طيّاتها عبراً إداريّة فضلاً عن طرافتها أختمُ بها كما ابتدأت بطرفة (مدير الصراصير).
الحادثة الأولى جَرتْ حين شغلتُ وظيفةً في مؤسّسةٍ موسومةٍ بالتّميّز والعصريّة.
كان مدير المؤسّسة سخيّاً في إطلاق صفة مديرٍ، مثلاً: رئيس دائرة كذا كان يُسمّيه مدير الكذا، ورئيس الشّعبة الفلانيّة في دائرة الكذا .. اسمه مدير الفلانيّة، ورئيس المرآب (ذي السّيّاراتِ التسع) هو مدير المرآب، باختصارٍ: في ظنّ مديرنا العام كان لدى المؤسّسة ذاتِ الثلاثمائة موظّفٍ ما ينوف عن عدد مديري وزارة.
غضضتُ النّظر بداية الأمر عن مجّانيّة التّسمياتِ الوظيفيّة الرّفيعة عند مديرنا، وأَمِلْتُ بتثقيفٍ إداريٍّ له يضع حدّاً لذاك، ولكن هيهات! فقد كان في مكانٍ قصيٍّ من تواضع المتعلّم.
وبرغم مخاطر إثارة نرجسيّته أقدمتُ تثقيفاً له حين بدأت نتائج تعميم صفة المدير تظهر على سير العمل وفي علاقاتِ شاغلي المستوياتِ الوظيفيّة، إذ بما أنّ الجميع مديرون فقد حثَّ هذا على تحدّي المرؤوسِ لرئيسه، وذاك الرّئيسُ تجاوز مديره، فما عاد لأحدٍ سلطةٌ على أحدٍ.
ما زاد الطين بلّةً أنّ تلك المؤسّسة كانت في طور التّأسيس، ومعظم موظّفيها مستجدّون على العمل الوظيفيّ، ممّا يعني أنّ سلوكاً تنظيميّاً فوضويّاً كهذا سيكون بمثابة النّقش على الحجر في حياة وثقافة تلك المؤسّسة.
أمام هذه المعضلة، وتلافياً لآثارها المدمّرة لجأت إلى مسارين من التّحرك، الأوّلُ: التّوضيح لكلّ شاغل وظيفةٍ حقيقة علاقته بالمستوى الأعلى والأطرَ والالتزاماتِ القانونيّة النّاظمة لتلك العلاقة، أمّا المسار الثّاني: فكان مع المدير العامِّ، شرحاً وتفسيراً له، متحّدثاً إليه عن تسلسل السّلطة في البلد، و عن علاقة السّلطاتِ ببعضها، وخطر وخطأ استسهال لقب مديرٍ وخلعه على من لا يُمَكِّنه القانون من هذا اللقب، وذلك بجلساتٍ ومناسباتٍ مختلفةٍ، حتّى أيقنت أن لا رجعة لمديرنا إلى ما ذهب إليه، وأنّه أدرك الحقيقة.
ثمّ أتى يومٌ لا أتمنّاه لكلّ باذل جهدٍ وذي حرصٍ، فقد هاتفني طالباً حضوري إلى مكتبه لمعالجة مشكلةٍ ما، وحين دخلت عليه كان لديه عدّة أشخاصٍ من بينهم شاغلي ثلاثة مستوياتٍ رتبويّةٍ أدنى من مستوى وظيفتي وتابعين تنظيميّاً إلى مديريّتي، وفي ذاك الاجتماع عاد ونعتَ الجميع بالمديرين، فمن كنتُ رئيسَ رئيسِ رئيسِه صار ندّاً لي، فتناطحوا وتجرّأوا على سلطاتِ بعضهم، بينما الحيرة واليأس تنهش رأسي، ثمّ خرجوا باتّفاقٍ شكليٍّ على المسألة موضوع الاجتماع، شامتين بي، مسرورين ضمنيّاً لأنّه بدّد مخاوفهم ـ التي غرستها أنا ـ من أنّهم ليسوا مديرين.
ثانيةُ الحوادث هي: أنّه كان عاشقاً للتوقيع باللون الأخضر، برغم حظر القانون ذلك عليه، فهو ليس بوزيرٍ أو ممن حدّدتِ النّظمُ جواز استخدامهم ذلك اللون،حتى أنّ المِقْلَمةَ المنتصبةَ أمامه على سطح مكتبه كانت تحتضن ستّةَ أقلامٍ خضرٍ وقلماً أحمراً وآخر أزرقاً ولست متأكّداً من وجود قلم رصاصٍ بينها.
وفي يومٍ ذي تعميمٍ حاضٍّ على التزام المديرين العامّين عدمَ التّوقيع بالأخضر، ثارَ وغضبَ، وصار كمن اعتدى غاشمٌ على أرضه وعرضه، فسطّرَ مستفسراً عن شمول هذا التّعميم له، ولمّا استوثقَ سخرية من سَطَّرَ لهم من استثنائه لنفسه النّابع من إحساسه وقناعته بالتّميّز عن سواه ممن حُظّرَ عليهم استعمال الأخضر توقيعاً؛ وجد حلاً وسطاً بين قطبيّ الرّحى التي وضع نفسه بينهما ( أقصد بين الالتزام بالقانون وبين نرجسيّته الجريحة)؛ فقال لي:
ـ لن أُوقّعَ بالأخضر على الكتب الخارجيّة، وسأستمرّ بالتّوقيع على الكتب الدّاخليّة باللون الأخضر.
حينذاك خرجتُ بفكرةِ هذه المقالة من عبارةٍ ردّدتها سرّاً وقتَها، جهراً الآن، تقول:
من يطمع بسلطة غيره يشتري ستّةً من الأقلامِ خضرٌ لونها، وذو سلطةٍ مشروعةٍ لا يشتري؛ يكفيه منها واحدٌ، تعطيه إياه السلطة من مالها.
تمت
[email protected]
حسان محمد محمود
08-أيار-2021
05-أيلول-2020 | |
23-أيار-2020 | |
04-نيسان-2020 | |
21-أيلول-2019 | |
هكذا تكلم أبو طشت ـ الجزء 5 كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي. |
14-أيلول-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |