المرأة الغسالة - من أرشيف الكاتب الأمريكي إسحق بوشفيز سينغر
2009-08-22
بورتريه إسحق بوشفيز سينغر
لبيتنا علاقة عابرة بغير اليهود. و الرجل غير اليهودي الوحيد في بنايتنا هو ملاحظ المبنى. كان يأتي في يوم الجمعة لتحصيل الإكرامية ، إنها " جمعة نقوده ". ينتظر واقفا على الباب، و يخلع قبعته ، ثم تمنحه والدتي ستة غروشنات.
و غيره هناك من الأغيار النساء الغسالات ، اللواتي تحضرن إلى بيتنا لاستلام الغسيل. و قصتي هذه عن واحدة من هؤلاء.
كانت امرأة صغيرة القد و مسنة بالعمر ولها غضون كثيرة. و عندما بدأت تغسل لنا ، تجاوز عمرها السبعين. معظم اليهوديات اللواتي بعمرها لهن أجساد مريضة و ضعيفة و مكسورة. كما أن لكل العجائز في شارعنا قامات منحنية و تعتمدن على عكازات أثناء المسير. و لكن هذه المرأة الغسالة ، مع أنها ناعمة و نحيلة ، لها قوة منبعها أجيال من الفلاحات الصابرات. كانت الوالدة تسلمها الغسيل ، الذي تراكم خلال ما يزيد على أسابيع ، بالقطعة. فترفع حزمة الغسيل ، و تحملها على كتفيها الرقيقين ، و تذهب بها إلى بيتها البعيد. كانت تقطن في شارع كروشمالنا أيضا ، و لكن من النهاية الأخرى ، قرب محطة فولا . و لا شك أن هذا يستغرق مسيرة ساعة ونصف.
و كانت تعيد لنا الغسيل في غضون أسبوعين. لم تنعم والدتي براحة البال مع أية امرأة غسالة غيرها من قبل. كانت كل قطعة من البياضات تلمع كأنها آنية فضية براقة. و كل قطعة تبدو مكوية بعناية فائقة. و مع هذا لم يكن أجرها أعلى من الأخريات. كانت اكتشافا حقيقيا. من جهة الوالدة كان أجرها جاهزا دائما ، لأن المسافة بعيدة بالنسبة لامرأة عجوز مثلها ، و يشق عليها أن تعود مرة ثانية لتحصيل النقود.
كان الغسيل من الواجبات العويصة في تلك الأيام. حتى أن المرأة العجوز لم تكن تمتلك صنبور مياه حيث تعيش ، و هي تأتي بالماء من مضخة ، و لكي تلمع الملاءات البيضاء ، من المفروض أن تدعكها بإمعان في طست الماء ، ثم تعاملها بالصودا ، و تنقعها ، و تغليها في قدر ضخم ، ثم يضاف لها النشاء ، و بعدئذ تكوى. و تعاد الكرة بالنسبة لكل قطعة عشر مرات أو أكثر. و لكن انتظر هناك بعد ذلك التجفيف !. فهو غير ممكن في الباحة لأن اللصوص قد يسرقونه. إن الغسلة الأخيرة لا تكون إلا بالعلية و يرافقها الضغط و العصر ، و في أعقابها التعليق على حبال الغسيل. و في الشتاء تصبح الأقمشة هشة مثل الزجاج و تتكسر عند أول لمسة. و دائما عليك أن تجد طريقة للتعامل مع ربات المنزل من النساء الغسالات الأخريات إذا حضرن إلى العلية في طلب حبال الغسيل. و الله وحده يعلم كم تتحمل المرأة العجوزمن أعباء في كل مرة تهم بها لتغسل !.
كان بمقدورها أن تتسول عند باب الكنيسة أو تنتسب إلى دار الفقراء و المسنين. و لكن كانت تنطوي على عزة نفس و رغبة بالعمل ، و هذا يلقى استحسان العديد من الأغيار. لم يعجب المرأة العجوز أن تتحول إلى عبء ، و تحملت مسؤولية نفسها بنفسها.
كانت والدتي تتكلم بالبولندية بصعوبة ، و كانت الغسالة تتبادل معها أحاديث حول أمور متعددة. و لاحظت أنها مغرمة بي و من عادتها أن تقول إنني أشبه يسوع المسيح. و قد كررت ذلك في كل زياراتها لنا ، و كانت الوالدة تعبس و تهمس لنفسها بشفتين لا تفتران إلا قليلا : " ربي اجعل كلماتها تضيع في القفر هباء منثورا ".
ثم علمنا ان للمرأة ابنا غنيا. و لا أذكر الآن ما هو نوع عمله. و لكنه كان يخجل من أمه ، الغسالة ، و لم يعن بزيارتها أبدا. و كذلك لم ينفق عليها غروشنا واحدا. كانت المرأة العجوز تفصح عن ذلك بلا تستر.
و ذات يوم تزوج الابن. و على ما يبدو أنه وفق بقرينة جيدة. و أقيم حفل الزفاف في الكنيسة. و لكنه لم يرسل دعوة لأمه المسنة ، فذهبت إلى الكنيسة و وقفت على السلالم لتشاهد ابنها و هو يقود " السيدة الصغيرة " إلى المذبح.
تركت حكاية الابن العاق انطباعا عميقا في نفس والدتي. و استمرت في تناقل ذلك لأسابيع متواصلة بل لعدة شهور. لقد كان عارا ليس على المرأة العجوز فقط و لكن على رابطة الأمومة. و كانت الوالدة تقول : " ياه ، ليس لبذل التضحيات من أجل الأبناء دافع ؟. استهلكت الأم كل قواها ، و هو لا يعرف حتى معنى الوفاء ".
و كانت تشير بطريقة غاضة إلى عاطفة هي غير متيقنة منها بخصوص أبنائها : من يعلم ماذا سوف يفعلون ذات يوم ؟ . و لكن هذا ، على أية حال ، لم يمنع من أن تتفاني في سبيلنا. لو أنه في البيت أية أشياء طيبة ، كانت توفرها لأبنائها و تخترع كل المبررات و الأسباب كي لا تنتفع بها شخصيا. و هي تتذكر ترانيم ساحرة من الماضي المنصرم ، و كانت تستخدم تعابير متوارثة من أجيال قديمة كانت تنطق بها الأمهات و الجدات. على سبيل المثال ، إنها تقول لو أن ولدا اشتكى من الألم : " إلهي اجعلني فداء له ، و ليأكل من عظامي ". أو ربما تقول : " إلهي دعني أفدي أصغر قلامة ظفر منه ". و كلما تناولنا الطعام ، تقول : " لتنعموا بالصحة و العافية و لتقوى عظامكم ".
و في نهاية كل شهر تحضر لنا حلويات تقول إنها تمنع الطفيليات والديدان. و لو أن واحدا منا اشتكى من عينه كانت الوالدة تمص له عينه حتى تنظفها بلسانها. و كانت تغذينا بسكر النبات من أجل السعال ، و من حين لآخر تصحبنا لمن يحمينا من العين الشريرة. و هذا لم يمنعها من قراءة " واجبات الروح ، و " كتاب العقد و الميثاق " ، و غيرها من الأعمال الفسلفية الجادة.
و بالعودة للمرأة الغسالة. ذلك الشتاء كان قاسيا عليها. الشوارع بقبضة البرد القارس. و مهما أضرمنا النار بالموقد ، كانت النوافذ تغطى بالجليد و من حوله البلورات الثلجية. و ذكرت الصحف أن الناس يموتون من البرد. و أصبح فحم التدفئة شحيحا في الأسواق. لقد أثبت الشتاء أنه فصل صعب و توقف الآباء عن إرسال أولادهم إلى الكتاتيب ،و حتى أن المدارس الرسمية البولندية أغلقت.
في يوم من هذه الأيام ، و كانت قد وصلت بعمرها إلى ثمانين عاما تقريبا ، جاءت إلى بيتنا. كانت قد تراكمت كمية كبيرة من الغسيل في غضون عدة أسابيع. قدمت لها الوالدة كوبا من الشاي من أجل الدفء ، و معه قطعة من الخبز. جلست العجوز على كرسي في المطبخ ، و هي ترتجف و ترتعش ، و كانت تبحث عن الدفء قرب إبريق الشاي . كانت أناملها متورمة من العمل ، و ربما من ضغط الشرايين. و أظافرها بيضاء على نحو غريب. هذه الأيدي تفصح عن عناد الجنس البشري ، عن الميل للعمل ليس بما تسمح به قوة المرء و لكن فيما وراء حدود القدرات . أحصت الأم الأشياء و سجلتها في قائمة : سراويل رجال قصيرة ، صدارات نسائية ، سراويل طويلة ، سراويل نسائية ، معاطف ، بدلات ، أغطية أسرة خفيفة ، بيوت وسائد ، ملاءات ، و بذات رجال مختلفة.
نعم ، كانت المرأة غير اليهودية تغسل هذه الثياب الخاصة أيضا.
ذكرت المرأة لغسالة أن هذه الرزمة كبيرة ، أكبر من المعتاد. و حينما حملتها فوق ظهرها ، غطت كل قامتها.
في البداية ترنحت ، و كأنها على وشك أن تسقط تحت الحمل. و لكن صوت العزيمة الداخلي هتف بها : كلا ، يجب أن لا تسقطي الآن. يمكن للحمار أن يسمح لنفسه بالسقوط تحت أوزاره ، و لكن هذا غير مسموح لإنسان ، فهو تاج المخلوقات جميعا.
كان من المرعب أن تراقب المرأة الكبيرة ، و هي تترنح مع هذه الحزمة الضخمة ، ثم تغادر نحو طقس جليدي ، كان الثلج جافا كالملح و الهواء مشبعا بعاصفة بيضاء يهب معها الغبار ، و هي أشبه بقزم يضربه البرد. هل ستوفق المرأة المسنة بلوصول إلى فولا ؟.
تلاشت عن الأنظار و تنفست الأم الصعداء و هي تصلي من أجلها.
بالعادة كانت المرأة تعيد الغسيل بعد أسبوعين ، أو على أقصى حد ، ثلاثة. مرت ثلاثة أسابيع ، ثم أربعة و خمسة ، و لم نسمع شيئا منها . و كنا من غير ملاءات. و اشتدت عزيمة البرد. و أصبحت أسلاك الهاتف سميكة مثل الحبال، و شكل أغصان الأشجار مثل الزجاج. و سقط ثلج غزير حتى غطى الطرقات بطبقات متموجة ، و كان بمقدور الزحافات أن تنزلق في الشوارع مثلما هي الحال على سفوح الهضاب. أضرم المحسنون من الناس النار في الشوارع من أجل المتشردين ليشعروا بالدفء و ليقوموا بطهي البطاطا ، لو في حوزتهم منها شيء.
كان غياب المرأة العجوز بالنسبة لنا كارثة. و كنا بحاجة للغسيل. غير أننا لم نكن نعلم عنوانها. و على ما يبدو أنها انهارت ، و ماتت. أعلنت الوالدة أن حدسها ، حينما غادرت المرأة لآخر مرة عتبة دارنا ، أخبرها أننا لن نشاهدها ثانية. و عمدت إلى البحث عن بعض القمصان الممزقة و قامت بترقيعها و غسلها. و هكذا كانت لدينا مناحة ، على الغسيل و على هذه المرأة المنهكة التي أصبحت قريبة من قلوبنا خلال سنوات من الخدمة و الإخلاص.
مر أكثر من شهرين. انحسر الجليد ، و حان وقت دورة أخرى من الجليد ، و بعدها موجة برد إضافية. و ذات أمسية ، بينما الوالدة تجلس قرب مصباح الكيروسين لترفو قميصا ، فتح الباب و دخلت هبة من البخار في أعقابها صرة كبيرة. و تحت الصرة كانت المرأة العجوز تترنح ، بوجه أبيض مثل الشراشف. و كانت خصلات شعر رمادي تبرز من تحت غطائها. ندت عن الوالدة صيحة مخنوقة. كما لو أن جثة اقتحمت الغرفة. أنا شخصيا اندفعت نحو المرأة المسنة و ساعدتها في إنزال الصرة. كانت أكثر هزالا ، و أشد انحناء. كان وجهها أكثر إرهاقا ، و رأسها يتحرك من جهة إلى أخرى و كأنها تقول كلا. و لم تتمكن من نطق مفردة واحدة واضحة ، و لكنها قالت شيئا نطق به فمها المكسور و شفتاها الشاحبتان.
في أعقاب التقاط المرأة لأنفاسها إلى حد ما ، أخبرتنا أنها كانت على فراش المرض ، عليلة جدا. ما هو مرضها ، هذا شيء لا أتذكره. لقد كانت مريضة جدا حتى أن أحدهم طلب لها الطبيب ، و الطبيب بدوره استدعى الكاهن. و أخبر أحدهم ابنها بطريقة ما ، فدفع قليلا من المال لتغطية نفقات صندوق االموت و الجنازة. غير أن الله القدير لم يرغب لهذه الروح المعذبة أن تمثل بين يديه. و تحسنت حالها ، و تعافت ، و ما أن تمكنت من النهوض على قدميها مجددا ، حتى واصلت عملها في الغسيل. ليس غسيلنا فقط ، إنما غسيل عوائل أخرى متعددة.
قالت المرأة الكبيرة على سبيل التوضيح : " لم أتمكن من الاستراحة في الفراش بسبب الغسيل ، الغسيل هو الذي حماني من الموت ".
قالت والدتي كنتيجة متوقعة : " بعون الله ستعيشين حتى يبلغ عمرك مائة و عشرين عاما ".
قالت المرأة العجوز و هي ترسم إشارة الصليب و ترفع عينيها إلى السماء : " لا سمح الله ! ما الحكمة من عمر طويل إلى هذه الدرجة ؟ العمل مرهق .. و قوتي تضمحل .. و لا أرغب أن أكون عبئا على أحد ! ".
لحسن الحظ كان في اليت مقدار من المال ، عدت الوالدة ما لديها. و كنت أرزح تحت وطأة إحساس غريب : كانت القطع النقدية في يد السيدة العجوز الناصعة كأنها بالية و نظيفة و مستسلمة ، كما هي روحها تماما. نفخت على النقود و ربطتها في منديل. ثم غادرت ، على أمل أن تعود خلال أسابيع من أجل غسيل آخر.
و لكن لم يحصل ذلك أبدا. فالغسيل الذي جاءت به كان آخر عناء لها على هذه الأرض. كانت تدفعها رغبة قاطعة بإعادة المستحقات لأصحابها الحقيقيين ، و إنجاز الواجب الذي أخذته على عاتقها.
و الآن ، إن جسمها ، و الذي كان لأمد بعيد مجرد قطعة مكسورة تدعمها قوة التفاني و الواجب ، قد سقط ، و صعدت روحها إلى الأعالي حيث تلتقي كل الأرواح الصافية ، بغض النظر عن الدور الذي قامت به على الأرض، و اللسان الذي تتكلم به ، و النوع الذي تنتمي له. و أنا لا أتصور الجنة دون هذه المرأة الغسالة غير اليهودية. و حتى أنني لا أستوعب عالما لا يقدم تعويضات لمن يبذل جهدا على هذه الشاكلة.
1966
عنوان القصة باللغة الإنكليزية :
The Washwoman by Isaac Bashevis Singer
إسحق بوشفيز سينغر ( 1904 – 1991 ) : كاتب أمريكي من أصل بولندي. حاز على نوبل في الآداب عام 1978. له عدة مجموعات قصصية و روايات ، و كتاب مذكرات بعنوان : الحب و المنفى. يكتب باليديش ، لغة يهود أوروبا الشرقية ، و يشرف بالعادة بنفسه على ترجمة أعماله إلى اللغة الإنكليزية. يركز في أعماله على احتضار العواطف و التقاليد التي كانت شائعة عند منعطف القرن الماضي.
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |