حامد بدرخان في أعماله الكاملة
2009-09-05
كتب بثلاث لغات ولم يكتب بلغته
كان الشاعر حامد بدرخان 1924-1996 يعتبر أنَّ النثر والشعر يمكن أن يتعايشا في قصيدة كما في رواية. وكأنَّ أعماله الشعرية الكاملة التي صدرت مؤخراً بجهدٍ شخصي من (نازلي خليل) بعد أن كان قد فوَّضها بحق التصرُّف بعد موته في إنتاجه الأدبي وفي أمواله, وحتى في اختيار مكان القبر ومن يمشي في جنازته من الرفاق والأدباء والفنانين جاء تطبيقاً لرغبته وتنفيذاً لرأيه. لأنَّ شعره بالأساس هو ردُّ فعل مباشر على الأحداث السياسية التي يذهب ضحيتها الإنسان: تحت جدران حلبجة الشارع العريض الهادئ بلا صوت, ووجه ضمير البشرية المتفرِّجة بلا صوت.. هم كانوا خمسة آلاف ووراءهم عشرة آلاف حلَّت بهم ساعة النحس وجميعهم ماتوا، خمسة آلاف إنسان ونيف. لم يكونوا كلاباً بل كانوا خمسة آلاف وعشرة آلاف إنسان، لم يكونوا يحلمون بوهج المجد, كانوا حفاة الأقدام ونصف عراة.. النساء والأطفال ماتوا جميعهم. هطل المطر المسموم فوقهم ليس من ناطحات السحاب الأميركية بل من بغداد....!! أعرف الجلادين عبر التاريخ مثل نيرون وجنكيز خان وتيمورلنك ودراكولا...الخ, ولكن أحقر من هؤلاء هو صدام... صدام حسين. ص 499
وأنت تقرأ قصيدته هذه أو غيرها مما جاء في أعماله تشعر كم هو مشبعٌ بالسياسة, وكم هي ثورته عنيفة, وكم غضبه العقلي ضارٍ. لأنَّه لا يكتب بحسِّ الضحية, بل بحسِّ ومشاعر الناقد ضد وحشية الظالم مهما كانت قوميته أو ديانته أو طائفته أو حزبه: لا تسأليني عن عنواني أنا موجود في قلب الأرض ومجاري الأنهار وأمواج البحار, أسير بلا توقف لأنَّ جمجمتي مغروسة برمح الفجر. لقد ماتوا... سالازار, فرانكو, لون نول ومونتغمري. لا تسأليني عن عنواني.. أنا آتيك من الشمال, ومن الشرق, مثل الريح, مثل الرعد, مثل المطر والبرق مع غضبة الجماهير وصوت الشعب.
مع ذلك فإنَّ أشعار حامد تكشف عن شاعر واسع الثقافة ذي اهتمامات فكرية وتاريخية, لكن نابضة بالحياة وليست جافة متخشِّبة, تصاحبها موسيقى إدراكية ترينا مدى تأثره وانفعاله النفسي وربَّما الجسدي, لأنَّه يكتب تعبيراً عن تجربة سياسية يومية, فنقرأ أصوات موسيقى تأثره ورؤياه التي تنساب من كلماته التي لا اصطناع فيها. بالعكس فالكلمة أو العبارة اللغوية عنده تجيء مادةً خاما فيها شيء من عامية وشيء من فصحى, لترسم الصورة النقية لرؤيته بعيداً عن الأناقة الشكلية التي لا يتقنها أو يجري وراءها. فهو بالأساس لا يُجيد اللغة العربية - تعلَّمها متأخِّراً عندما لجأ إلى سوريا وعاد إلى قريته «شيخ الحديد» فراراً من المعتقل التركي على يد معلم القرية «رشيد عبد المجيد», الذي سيصبح في ما بعد رفيقه وصديقه, وتقوم زوجته نازلي خليل، التي أصدرت أعماله الكاملة هذه على نفقتها الخاصة، بفتح دارها بحلب لحامد بدرخان وتحويلها إلى منتدى فكري وإلى مقرٍ لنشاطاته الأدبية والسياسية, بل دار ضيافة له ولأصدقائه وبعيار خمس نجوم.
محكوم بالإعدام
حامد بدرخان كان محكوماً عليه بالإعدام في تركيا, فقد أسَّس حسب ما جاء في مقدِّمة الأعمال الكاملة التي كتبها (محمد جزائر حمكو جرو) مع كلٍ من ناظم حكمت وعزيز نيسين وعابدبن دينو وصلاح عدولي وأستاذه ممدوح سليم الحزب الشيوعي التركي. وقد اعتُقلَ بعد أن ضيَّقت الحكومة التركية على الشيوعيين, وزجَّ به في السجن. لكنَّه وبترتيبٍ من رفاقه استطاع الهرب والعودة إلى سوريا - كان قد وُلِدَ في قرية شيخ الحديد عام 1924 إحدى قرى عفرين في الشمال السوري, لكنَّه غادرها مع أسرته وهو طفل إلى تركيا فدرس فيها إلى أن تخرَّج من كلية الآداب بجامعة استانبول - والهرب من السجن كان قد ترك آثاراً نفسية على حياته, فقد كان يتصوَّر أنَّ المخابرات تطارده, يتصوَّرهم في كل مكان, وكان يسميهم بـ(الخازوق): جاء الخازوق, ذهب الخازوق. وهم مثل الإقطاعيين ورجال العصابات: ربَّما تنام على الكوابيس المظلمة وحياتك مهدَّدة.. المافيا, أزلام الآغا, والشرطة السرية, والخونة من القوَّة السوداء, والذين يدمِّرون ثروات الشعب... معتقلات.. منفى.. وأعواد المشانق. ص 547.
مع ذلك فقد اختلف عليه الأكراد؛ فمنهم من اعتبره ضدَّ كردستان - كان على خلاف كبير مع الشاعر الراحل «جيكر خوين» وقد شهدت شخصياً بعض فصوله في أكثر من لقاء جمعهما عملت على ترتيبه نازلي خليل, لتقرِّب من وجهات نظري كليهما - ذلك لأنَّه لم يكتب شعراً بالكردية, وكأنَّ الكتابة باللغة الأم هي دليل ولاء, مع أنَّه ترك عملين شعريين باللغة الكردية, صدر الأوَّل عام 2006 بعنوان (شيْيّهِ) والثاني في عام 2008 تحت عنوان (سَردورا جيْيانه), بالإضافة إلى خمسة عشر ديواناً باللغة التركية تنتظر النشر. ومنهم من اعتبره أكثرالكرد كردية - وهم الشيوعيون بسبب مواقفه الأممية /الكونية من القضايا الإنسانية: سأجمع كل مناضلي الأرض من رأس الرجاء الصالح إلى آخر ألاسكا. سأجمع كل الكوبيين والكوريين والفيتناميين وجميع الأحرار في العالم لمساندة قضيتي, وأضحي بدمي, وأقول لك وداعاً يا حبيبتي, فقير أنا.. ليس لدي ذهب ودولار, غنيٌ قلبي بعقيدتي, وأنا مؤمن...عنيد بالنصر, بالأيام الجميلة الآتية لنا وللعالم ص. 570 .
مات حامد..عاش حامد, الأعمال الشعرية بالعربية - وهذا حلمه - قد صدرت, وأشعاره التي جاءت فيها وإن كانت نثراً خلا من الأناقة اللغوية, إلا أنَّها تحفر في الوجدان بسبب تلك الفرقة السيمفونية التي تستوطن شعره وتعزف موسيقا انفعالاته الميلودرامية العنيفة.
الكتاب : الأعمال العربية الكاملة / شِعر
المؤلف : حامد بدرخان
الناشر : دار عبد المنعم ناشرون - حلب 2009
----------------------------------------
مختارات من شِعر الراحل حامد بدرخان
جناحا جَبَل ٍأمميّ
ضع رأسكَ على صدر الشعب
على التراب ... ولا تستغرب .
*
وصيتي مكتوبة فوق يدي
ليس لدى كاتب العدل .
*
لم أجلس مرة واحدة
حول المدافىء التي وقودها
دماء الأطفال ،
ونارها رؤوس النسور .
لم أقطف الزهور من الأغصان .
أحب الحياة .
والأبواب المفتوحة مُهابة .
*
والضوء يقصر قامات الرجال
المتحركة كالديدان .
قهقهات الطوابق العليا
تزعجني من جميع الجهات .
الريق في فمي كالمرهم .
والدموع المخزونة ،
المستورة تحت أجفاني
كعناقيد الغضب .
*
لماذا لا ينصبّ دمي
في أي نهر في العالم ؟
*
لم أعرف المرايا قط ..
سوى الينابيع الفضية .
وركبت الريح ...
*
وفي المساء
قصائد الشعراء
تنساب مثل ثعبان
على غرف العشيقات .
*
وأقضم الرخام والتاريخ ...
وأكتب بيد نارية .
*
للبحر صدر مخيف ...
الأمواج ترتفع مثل الجبال
فوداعاً للأرض .
*
رغم كآبة العالم
هاأنذا أهدي إليك
باقة من الأزهار المصبوغة
بالدم الأخضر ..
والشمس .
*
أمسح خارطة الجوع من العالم
وأفتح الباب
وأقول لك أخيراً :
في شفتي الظمأ الكوني
لعصارة الثمار الجبلية ...
حتى تحل عقدة الألم .
*
القطرات التي تتشرد من الغيوم
تنزل إلى الأرض بصرخات مدوية
تنقلب إلى الأنين
وتدندن في أذن التراب ..
والنبع .
كنت كذلك .. قطرة بين البشر .
*
أنا " ابن الملايين "
وواحد من هؤلاء الذين يمرون خمسة خمسة ،
عشرة عشرة
مائة مائة ...
ألفاً ألفاً ...
ويطلبون من الشمس
عيونهم المفقودة .
*
الطريق التي تبدأ مني تنتهي فيك
منذ قابيل وهابيل .
*
الذي يبدأ مني لا ينتهي في الجدار
بل يمتد إلى المدن .. والبحار .. والقارات
وإلى العيش ...
*
غازلت الفتيات
في عمر الصبا
عانقت الأرامل
ضاجعت المتزوجات
بعنف لا مثيل له ...
وفتشت عن قاتل لوركا .
*
أرقص ...
أرقص ...
حتى آخر باستيل
يتهدم .
*
أرقص ...
أرقص ...
للثانية الأخيرة ...
المتبقية
في حياتي
وأعطي باقات الورود
في لحظة
مماتي .
المقاطع منتقاة من قصائد ديوان على دروب آسيا الصادر عن دار الحوار
08-أيار-2021
23-أيار-2020 | |
14-كانون الأول-2019 | |
05-تشرين الأول-2019 | |
17-آب-2019 | |
04-كانون الأول-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |