مجازر و جرابات و مسلسلات
2009-09-15
ـ 1 ـ
والدي معلم مدرسة، اضطر للعمل خارج أوقات دوامه الرسمية ببيع الجرابات على الأرصفة، أما والدتي فلم تكن تراني غزالاً، وكانت تمتاز بموضوعيتها الشديدة و تشتهر بها، لدرجة إعلانها المتكرر أمام الملأ دون حرج أو تكلف بأن القرد أجمل مني.
تطورت أعمالنا، وصار لدينا كشك صغير تنوعت فيه السلع التي نبيعها وشملت الدخان والعلكة والجرائد، وكان لابد بعدئذ من التوسع، فاختصصت بالسلع المهربة، أما والدي بقي على حاله في كشكه.
ـ أبي لا بد لك من العمل في التهريب.
ـ لا أستطيع، يا عيوني، يا روحي، التهريب لا يناسب وضعي الاجتماعي، لا تنس أنني معلم.
كان محقاً، فالفرق كبير بين أن يبيع أحد طلابه جرابات أو كلاسين وبين أن يبيعه دخان، وأي دخان؟ مهرب؟
تدهورت صحة والدي، فصرفنا ما ادخرناه إلا قليلاً، وما بقي أنفقناه على جنازته.
جمعت مليوني ليرة، وبنيت لنفسي منزلاً، واشتريت سيارةً، وخمسة أطقم مع قمصانها و ربطات العنق اللائقة بها.
التصدير إلى أوربا الشرقية مربح لكنه غير مستقر، فالتحولات السياسية و دخول الأوربيين و الأمريكان و الصينيين جعلت الفترة التي تاجرت فيها مع تلك البلدان أشبه بالحلم.
التحقت بسوق الهال، خمسة وعشرون مليوناً كانت حصيلة تجارتي فيه، وحين استولى عليّ الملل من صراخ جيراني ورائحة الخضار العفنة الممزوجة بدخان السيارات؛ بدأت أبحث عن عمل آخر.
حاول أبو عبدو الجوبراني أن يثنيني عن عزمي، فلم يفلح.
ـ يا أبو عبدو يجب أن تطور نفسك. أنتم تجار السوق أفقكم ضيق، إن فكرتم بتوسيع أعمالكم لا تنوعونها.
ـ لم أفهم قصدك.
ـ إذا ربحت من تجارة الخيار وتغلبت على غبائك وفكرت بتوسيع أعمالك تشتري كميات إضافية من الخيار، لكنك لا تفكر في تجارة البندورة. أفهمت الآن؟
لم أترك سوق الهال إلا جسدياً، أبقيت تجارتي فيه بإدارة أحد إخوتي، واكتفيت بالإشراف على العمل من مكتبي الفخم في أحد الأبراج.
كلفني تجهيز المكتب الكثير من الوقت و المال، ولم يبق سوى السكرتيرة. أعلنت في الصحف عن حاجتي لها، ولم يمر يوم حتى مثلت أمامي عشرات الفتيات، فاخترت ذات الثلاث لغات والجسد الرشيق.
بيع الجرابات و الكلاسين و التهريب وسوق الهال، كل تلك الأنشطة (الاستثمارية) كانت تسير بإدارتي وبجهود الآخرين، وبلغت ثروتي مائة مليون، وصار لزاماً عليّ البحث عن سبيل آخر للتجارة بعد أن سدت أسواق أوربا الشرقية في وجهنا.
علمتني التجارب كيف أكتشف مواطن الربح، و ذلك ليس صعباً أو معقداً، يكفي أن ألقي نظرة على أفراد أسرتي ليقدح ذهني بألف فكرة ربحية، فما يستهلكه أفراد أسرتي يستهلكه الجميع، لكنني استنفذت كل الأفكار ونفذتها، كنت أتاجر بكل شيء.
اعتراني الهمّ و ركبني شيطان البحث عن فكرة جديدة تزيد أموالي، خاصة أن الخمسمائة مليون التي بحوزتي تطلب الزيادة وتلح في طلبها.
ما العمل والعقارات سوقها في ركود؟ و السيارات يزاحمني في بيعها عشرات الشركات ووكلائها منتشرون في جميع أرجاء البلد.
أصابني اليأس.
اكتأبت.
نقص وزني.
تاهت نظراتي.
فشلت محاولات المحيطين بي من انتزاعي من دوامة الإحباط التي التهمتني.
ساعات أمضيها يومياً في مشاهدة المسلسلات مع أسرتي شارد الذهن غير مكترث بما يجري حولي.
وحين ابتسمت ذهل الجميع، زوجتي لم تصدق ما رأت.
ركضت كالمجنون إلى الهاتف أطلب سكرتيرتي لتوافيني في المنزل، ولم يبق إلا أن أصرخ: وجدتها ! وجدتها!
ـ الحمد لله، الحمد لله، الله يحرسك، خير .. خير.
ـ لو تعرفين يا امرأتي ماذا حصل؟
ـ خير!!
ـ من ليس له قديم ليس له جديد، كنت دائماً أراقب ما تستهلكين أنت و الأولاد لأستدل على ما يربح، والآن تكرر ذات الشيء، سوف أعمل بإنتاج المسلسلات التلفزيونية.
ـ 2 ـ
حضرت السكرتيرة، وعلمت منها أدرج موضة في المسلسلات.
ـ ألو أستاذ .. .. أريد نصين نوع فانتازيا، ونص نوع اجتماعي، وآخر حلبي.
ـ حلبي؟
ـ نعم، صرعة جديدة، تنويع يعني.
بيعت الأعمال، وربحت.
مضى على عملي بالمسلسلات خمسة عشر عاماً، و القصة معروفة وسهلة: فالموسم هو رمضان، و السوق هو الفضائيات، وكل ما يحتاجه هذا العمل الجديد مني إضافة مكتب إلى مكاتبي و موظف أو اثنين ينسقان المواعيد ويتلقيا البريد.
أبو عبدو الجوبراني زارني متفقداً أحوالي، وعندما رأى ما أنا عليه قال:
ـ معك حق، يجب أن ننوع أعمالنا، وفائض المال يجب أن لا نوظفه في تجارة الخيار فقط، بل بالبندورة و البطاطا و النعنع..والله أنت محق.
وكما يقولون: الله لا يكملها مع أحد. بدأت المشاكل.
بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية تراجعت التجارات الأخرى، فحولتُ خمسة ملايين من إيرادات المسلسلات لتجارة الجرابات، وعشرة للتهريب، و مائتي مليون لإكمال بناء العقارات التي شرعت بتشييدها قبل الأزمة. وهلمجرا…
أحاط بي القلق من كل صوب، فالأزمة في اشتداد، ولم يبق من أمل إلا شغل المسلسلات، حتى هذه السوق بدأت مظاهر الوهن تداهمها، فإيرادات الإعلانات تناقصت بسبب سياسات التوفير التي شرعت الشركات بانتهاجها، و الممثلون بدأوا يطالبون برفع أجورهم أسوةً بالمصريين و الخليجيين، حتى أن بعضهم صار يقارن أجره بأجور الممثلين العالميين، والصحفيون المكلفون إثارة الزوابع الإعلامية لتسويق الأعمال (نقشوا الحبة) وأضحوا أوغاداً حقيقيين في ابتزازهم..
كان البحث عن مخرج من هذه الأزمة الشاملة هاجساً آخذاً بالتعاظم بعد كل يومٍ يمر، وكلما اقتربنا من الموسم (رمضان) زاد في إلحاحه.
اجتمعت بمستشاريّ نقلب وجوه المشكلة، وخرجنا بفكرة إعادة إنتاج جزء عاشر من مسلسل لاقى قبولاً جماهيرياً.
اعترض الكاتب على الفكرة فالمسلسل ـ برأيه ـ استهلك، وليس من المعقول (مطمطة) أحداثه أكثر من ذلك، أما المخرجون فاختلفوا في آرائهم، واحدٌ وافق الكاتب على رأيه فيما عارضه اثنان مبينين أن في سوق بيع وإنتاج المسلسلات شيء اسمه (المسلسل الثعباني)، يمكن أن تتجاوز حلقاته المائتين، لا بل هناك مسلسلات استمر عرضها سنوات كاملة دون أن تفقد بريقها.
ـ ماذا تقصدون بالمسلسل الثعباني؟
باشر المخرجان شرحهما، أحدهما يقاطع الآخر فما فهمت حرفاً مما قالاه، وزاد من تشتتي هاتف وردني أثناء الاجتماع يخبرني فيه أخي بانخفاض أسعار الخضار في سوق الهال، وضرورة تحويل مبلغ لسد العجز الناجم عن الخسارة.
ما التقطّه من نقاش الكاتب و المخرجين ـ وسط تفكيري بمشاكلي في سوق الهال ـ أفهمني أن المسلسل الثعباني نستطيع فيه التحكم بمصير الشخصيات غياباً أو موتاً ونصوغ الأحداث فيه وفق ما نريد ويشتهيه المشاهدون.
ـ يا أساتذة! باشروا بالجزء العاشر، أنا موافق، وافوني بميزانية تقديرية للعمل بعد أسبوع.
تسرب خبر الشروع بالجزء العاشر إلى الصحافة، وبدأت الأقلام تتناول الموضوع مدحاً وذماً، نقداً وسخريةً، وكم كانت مفاجأتي كبيرة عندما أبلغني مدير العلاقات العامة لدي و المسؤول الإعلامي أنهما من سرب الخبر، ومن دفع للصحفيين لكتابة ما كتبوا، تسويقاً للعمل وإشهاراً له.
أعجبتني حذاقتهما، وكافأتهما:
ـ سأكلم المخرج ليسند لكما أو لمن ترغبون أدواراً لقاء أفكاركما الجهنمية.
ـ أستاذ: الخطة التي وضعناها لم ننفذ منها إلا المرحلة الأولى، في المرة القادمة سوف نسرب للصحافة أخبار خلافاتكم مع الممثلين، سيكون ذلك مادة رائعة لتشويق الناس.
ـ موافق.
وهذا ما كان.
أصبح الجزء العاشر من المسلسل حديث الصحافة و الناس حيثما و وقتما كانوا، في البيت و العمل والأسواق، صباح مساء، على الفطور و الغداء و العشاء، في السهرات وجلسات المثقفين، في التعزيات و الأعراس، في المطاعم و الحمامات.
ضجة إعلامية؟ لا، هو الصخب بعينه.
شغف ولهفة؟ لا، هو الهوس بأوضح تجلياته.
صار المغمورون من الممثلين يستظلون بظل مشاركتهم بالمسلسل، فتعقد معهم اللقاءات و الحوارات وتتناقل الفضائيات و الصحف و المجلات الورقية والإلكترونية خبر مشاركة فلان من عدمها فيه، أضحت العلاقة بالمسلسل معبراً للنجومية، وطريقةً سهلة لتسليط الضوء على أيّ راغب بالأضواء، وأضحى من غير الضروري أن يمثل فلان به ليصير نجماً، يكفي أن يهمس لأحد من زملائه أو من الصحفيين بامتلاكه معلومة ما عن المسلسل ليصير نجماً.
وأمسى كل حرفٍ ينطق به أحد بخصوص المسلسل (الثعباني) صاعقاً يفجر مقالات وتحليلات ولقاءات لا حدود لشظاياها.
صعقتني الميزانية، الجميع رفع أسعاره، باشرت مفاوضات تخفيض الأجور فوراً، إذ لا وقت و الموسم على الأبواب.
ولّدَ الصخب ضغوطاً كبيرة على جميع الأطراف، زادت حدة النقاشات بين الكاتب وبين المخرج، ارتفعت توقعات الناس و النقاد، و وسط هذا كانت تجارة الخضار و الجرابات تطلب مني المزيد من المال، من أين لي أجور الممثلين ذات الأرقام التي يليها ستة أصفار؟
ما زاد من إحساسنا بتفاقم الوضع اقتراب الموسم، تتقلص بعد كل لحظة المسافة الفاصلة بين الأعمال التحضيرية من تأليف و سيناريو واتفاقات مع الفنانين وبين رمضان.
كل هذه الجلبة حدثت ولم نحدد بعد الخط الرئيس لأحداث الجزء العاشر، نعيش حيرة حقيقية وضياعاً للهدف، نحن مشتتون.
عجز المخرجون و المؤلف وموظفو شركتي و أصدقائي في سوق الهال و عمال أكشاك بيع الدخان و الجرابات وكل من استنجدت به عن إعطائي فكرة لتوظيفها محوراً للأحداث.
سألت زوجتي وأولادي مستطلعاً من خلالهم رغبات الجمهور:
ـ عماذا نتكلم في الجزء الجديد من مسلسلنا؟
ولم يسعفني أي منهم بما يخالف الأجزاء التسعة الماضية.
آمنت أخيراً بما يقوله المثقفون بأن الأفكار ثمينة.
ـ 3 ـ
دلتني خبرتي على الحل، استعدت طرق إغواء المشترين بالجرابات و الكلاسين التي أبيعها، واستذكرت حبهم للتشويق و الإثارة و العنتريات، ولأن الفن الواقعي هو الأكثر جذباً للجمهور؛ قررت أن تكون محور الأحداث حارة محاصرة يدخل أبناؤها إليها عبر السراديب، فالجميع تعاطف مع ما جرى في غزة، و المجازر حازت على قسط كبير من اهتمامات الناس وتابعوها على التلفزيون.
هكذا بدأت أهتم بالسياسة، وفي المنزل خصصت وقتاً لمتابعة نشرات الأخبار، ما أفادني في اتخاذ قرار مهم وخطير، فبعد مداولات مع المسؤول عن التسويق قررت أن يغفل المسلسل الإشارة إلى بعض الدول العربية المشاركة بالحصار، و أن نتجاهل الدول التي تنعت المحاصرين بالمغامرين حرصاً على ضمان شراء فضائياتها للعمل، وكي لا يشمل حصارها لأبناء غزة مسلسلي.
حرد المؤلف لقلة أجره كما ادعى، وهدد بأنه لن يبيع حقوق ملكيته لفكرة المسلسل المسجلة في مديرية حماية حقوق المؤلف إلا لقاء مبلغ استغرق مني سنوات عملٍ طويلة في بيع الجرابات و الدخان المهرب.
اشترينا حقوقه، و (راضيناه) بوضع اسمه على الشارة تحت عنوان (فكرة فلان)، و كلفنا غيره بالكتابة، وكانت تلك من أسهل المشاكل، إذ علمتني خبرتي في السمسرة كيف أرضي الأطراف.
الممثلون بدأوا يُملون على المؤلف تفاصيل شخصياتهم، ويأمرون ويتأمرون على المخرج، فاستبعدنا من ناكفنا.
البطل الرئيس استنكف عن العمل.
بحضور المخرج علا صراخي في أرجاء المكان:
ـ شو بدو تاج راسي..؟؟ إي يلحس.
اتصلت بالبطل:
ـ أستاذ يقول لي المخرج بأنك طلبت سبعة ملايين؟
عرضت عليه خمسة، واستمرت المساومات ساعتين، ولم أنجح بزحزحته عن رقمه.
ابتسم المخرج بخبثٍ، وقال:
ـ نستطيع الاستغناء عنه.
ـ كيف تستغني عنه وهو الشخصية الرئيسة؟ وجوده سيزيد فرص بيع العمل، هذا عدا عن الإعلانات.
ـ المسلسل الثعباني جبارٌ لا يكبل أحدٌ فيه حريتنا في حذف الشخصيات، وتعيين مجريات الأحداث.
ـ كيف ستقنع الناس؟
ـ لا عليك دع الأمر لي، ليس ثمة أسهل من إقناعهم سوى معرفة حاصل جمع خمستين.
ـ لا تُمِتْ شخصية البطل، كما فعلت ببطل الجزء التاسع، انفه، اجعله سجيناً أو اسيراً لدى الأعداء، إذ ربما في الجزء الحادي عشر نتفق مع هذا الممثل، ونعيده للعمل معنا.
وكان لخبر استبعاد (البطل) فعل البنزين في النار، فاستعر من جديد لهب التعليقات و الكتابات و التقارير في وسائل الإعلام، ما أدخل الحبور إلى نفسي، فذاك وفّر عليّ الكثير مما كنت سأضطر إلى دفعه تمويلاً للحملات الإعلانية.
أجل، من حفر حفرة لأخيه وقع فيها، و ها هم الطماعون و الحاسدون بدل النيل من مسلسلي يشهرونه ويوفرون علي نفقات وجهود الإعلان عنه، وفي هذا تكمن الجدارة، وحذاقة التاجر إنما هي قدرته على تحويل المخاطر إلى فرص.
استدنت من أبو عبدو الجوبراني، وأقلعنا.
ما زلنا ننتظر بيع المسلسل لنعرف كم سنجني. وفي الموسم القادم ربما نستطيع أن ندفع للبطل ما طلبه من أجر ونعيده إلى المسلسل، فقد تنفرج الأزمة العالمية، وتتحسن أرباحنا من بيع المسلسل و الجرابات والخضار و العقارات و الدخان، وقد تعطينا فلسطين فكرة جديدة للجزء الحادي عشر، ولا أظنها تبخل علينا بها.
فلسطين معطاءة، ورمضان كذلك، إنه كريم، كريم جداً.
حسّان محمّد محمود
[email protected]
08-أيار-2021
05-أيلول-2020 | |
23-أيار-2020 | |
04-نيسان-2020 | |
21-أيلول-2019 | |
هكذا تكلم أبو طشت ـ الجزء 5 كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي. |
14-أيلول-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |