أختي والقطة
2009-09-25
أختي..أحببت أن أصفها لكم فمذ عرفتها طفلة، وهي في بالي سنونوة تحترف الرحمة ، وتفترش نفسها سقوفًا لاحدود لها..
هي اقتنت قطة؟وما في ذلك؟هي ليست طفلة تسحربقطة صغيرة تموء في حديقة قربية من بيتها، أو تحت نافذتها كما يسحر الأطفال بالقطط، وبالكلاب عادة.. أختي امرأة كاملة ..أمٌّ تجاوزت الأربعين.. لها زوجها الذي تعيش بجانبه،ولها أولادها الأربعة.. وما في ذلك إن أحبت سيدة كبيرة قطة، واقتنتها في منزلها ، وهي في مثل هذا العمر وعلى هذا المستوى من الإدراك!..
مازلت أرى فيها حتى اليوم تلك الطفلة التي كانت تهرول لمساعدة أية امرأة تزورنا، وأطفالها الصغار،وعندما كنا نتفقدها غائبة من حضورنا نعرف أنها كما اعتدناها تتواجد في حديقتنا الكبيرة تحمل الماء ،والطعام للبستانيّ، وتتحادث، وإياه في وقت قيلولته بأحاديث تفوق عمرها، ولطالما أثنى عليها من يقدمون إلى بيتنا لتميزها في النشاط، والحركة، والتهافت إلى مساعدة الغير..
أستحضرها الآن في خيالي كائنا جميلا ممتلئ الجسد بشكل كروي لطيف تفيض حيوية تغمر ما حولها.. وجهها أيقونة صافية الملامح متناسقة التقاطيع، وأجمل ما فيها أنفها الذي يتحدى فيه المبدع أمهر مقلديه.. أحبت أختي كل صغير من الأشياء، والزينة، وحتى في الحب هي لم تتطلب الكثير.. ولطالما كنت أحذرها من مغبة ذلك!..
كان يومًا.. حدثتني فيه عن لحظة قديمة في حياتها.. قالت لي عنها إنها ما زالت محفورة في أحاسيسها كنقش لعاشق في صخرة تحسسها بعيدة عن الفضوليين..أن شابًّا كان يسكن بجوارنا كان يخصها بقطع من الشوكولا يضعها لها على سور بيتنا ويمشي ..هي هكذا ببساطة طيبة كانت، وما تزال تكتفي بالقليل..أنا أثق أنّ في أعماقها كمية من الحرمان لا تحصى..أعرفها أختي الصغرى..إنسانة مكتنزة حتى الانفجار..
ما الذي حول حرمانها إلى انشغال بقطة صغيرة تراقبها،وهي تكبر..تغسلها،وتطعمها وتجود عليها بما لا تسخى به على نفسها؟ ولطالما تساءلت،وأنا أعرف أجوبة أسئلتي عن بيت القطة، وركنها تحت النافذة،وطعامها الذي باتت تهتم به.. ألا يكفيها انشغالها الدائم ببيتها ،وبعائلتها لتضيف إلى ذلك اهتماما غريبا بقطة!..
شعرت مرة أنني بحاجة إلى محادثتها، وكنت حينذاك أقود سيارتي في طريق مملة حتى الإشباع.. وقد كنت أعرف أن أختي لا تغادر البيت إلا لمامًا في مثل ذاك الوقت.. فاجأني صوتها تنبعث بالقرب منه أنغام موسيقية ناعمة، ومواء خفيّ..
- أين أنت؟ أحس أنك لست في البيت في هذه الساعة؟
- بوداعة وهدوء معتاد منها.. جاءني ردهـا:
- أنا في الطريق إلى العيادة..
- أيّة عيادة ؟ أبك شيء؟
- لا ..إنها القطة" لولي "..أشعر بها تتألم ..ولذا أصطحبها إلى الطبيب..
لم أستطع إلا أن أتجاهل استغرابي الذي ألح عليّ في تلك اللحظة ؛فأنا أعرف الردّ مسبقًا..
- كيف عرفت أنها مريضة، وتحتاج إلى الطبيب؟
- أحسُّ أنها تتوجع ..المسكينة..هكذا في كل شهر..لا بد أنها الدورة الشهرية التي ستأتيها ليس لذاك تفسير آخر..
- أللقطط دورات شهرية أيضًا؟!
كتمت اندهاشًا في نفسي بينما هي راحت تتابع موضحة لي أمورًا جديدة عليّ عن القطط.. أمور لا أظن أنني يومًا سأحاول البحث عنها!
هكذا هي أختي ..لو لمستم حنانها لما وجدتم في الأمر شيئًا ..القطة غدت شغلها،وابتهاجها في فترة من العمر انتشى فيها حرمانها من رقدته، وأخذ ينبش له مكانًا في حياتها، فتحولت إلى كل ما يختصّ بالقطط.. في الكتب، والشبكة الألكترونية، والطبيب وحتى طباع القطط نبشت عنه لتتعرفه..
تحدثني،وأنا أحاول أن أستشفها أكثر:
- إنه شهر التزاوج عند القطط! لقد أتينا لها بهرّ كما نصحنا الطبيب لكنها رفضته.. المسكينة.. أشعر بألمها وأريد أن أخففه عنها..لو رأيتها وهي تمرغ بطنها ببلاط الغرفة لقدرت ذلك!
تخيلت أني لو حدثت أمي بما أرى،وأسمع من أختي لظنت بأنها قد جنت..
لا تحتاج أختي لتفصح عما في نفسها.. فمنذ وقت كبير وأنا أعرف أنها ستصل إلى لحظة الانفجار هذه..فما المشكلة أن يكون المكبُّ تعلقًا بقطة جميلة تكون سلواها؟! ..
أختي الطيبة البسيطة كما تبدو للعيون للوهلة الأولى تخفي وراء ما يبدو منها ذكاء لا محدودا.. ذكاء عمليًّا غريبًا لا يحوز زوجها رغم مهارته حتى جزءًا كفيفًا منه..أنا أراها تماما،وتملؤني الثقة بما أقول.. إنها حجر الأساس في بيت كان سيقدر له السقوط يومًا لولاها..
ما أفظع شعورها بالحرمان في داخلها، وما أكبر كمية سخطها!..لا تتوانى عما يطلب منها أبدا.. بل إنها قبل أن يطلب تكون المنفذة ..بيتها يموج بعوالم متنافرة الرابط فيه هي وحدها..عودت الجميع على الأخذ،وعندما لم يعد لديها ما تعطي استفاقت..أراها منذ القدم تعاقب نفسها حتى حين تعمل في البيت تمنع الجميع من مشاركتها وإن بجزء بسيط.. أشعر بسخطها، وقهرها، وتمردها، ثم تناسيها، وأراها تضحي بما يزيد وقد انتظرت كثيرا لحظة انفجارها هذه.. لكنني لم أكن أتوقع يومًا أن يكون انفجاًرا بهذاالشكل !
عدت إليها أقول:
- تعرفين أنّ وجود القطط في البيت يمكنه أن ينشر المرض بين أبنائك سيما البنات!
أعرف أنها ليست هنا، ولا يمكنها أن تكون معي.. فعندما يسيطر عليها أمر تتحول إليه بكل جوارحها، فكيف حين يكون الأمر متعلقًا بشعور حنان.. وما أعمقه فيها!
انطلقتُ أكمل طريقي المملة،وهي في بالي..تثور،وترفض ما حولها تريد أن تبتر زواجًا فيه أفرغت عمرها..كم مرة هدأتها،وأنا أرى وجهها الطفولي لا يمكنه أن يكتسي إلا بالطفولة،وهو في قمة انكبابه..
تجرأتْ مرة، وخرجتْ من لعنتها الأسرية ..كنت أعرف أنها تود ألا تعود إلى البيت .. سافرت بعد سنوات حرمان طويلة إلى الوطن، والتزمت الصمت..على النافذة كانت تفرغ أثقالها، وسحائب دخان تتوه من شفتيها الرقيقتين اللتين تنكفئان على مجمل أسرار.. كانت أيامًا جميلة ً فيها استرجعت سنونوتي المحلقة في الزمن .. تجاورنا،ونوافذ بيتنا العتيق، وتجاورت نفسانا بعد طول فراق.. كنت أتاملها، وقد زينت هاتفها بأوضاع مختلفة للقطة التي خلفتها وراءها مكرهة، وبين شفتي تستكين كلماتي مرغمة ..لا أستطيع أن أثقل عليها،وأخترق صمتها.. انقلبت أختي إلى امرأة أخرى حبلى بالرفض ..لم أرها مرة كذلك طوال سنوات زواجها الثلاثين.. كانت تعرف أنه هناك يغلي ..لكنه لم يكن في بالها.. حتى رسائله التي اكتست بالعسل لم تكن لتثيرها.. قهر السنين انصب أمامها أعمدة تكرس الكره، والنفور والثورة ..كنت أخشى عليها من نفسها في تلك الفترة..حاولت أن أسلسل معها الأحداث وأن أصل بها إلى ما يريحها،ورغم أنني كنت سعيدة باسترجاع أخوتنا المنسية في لهاث العمر، ومشاق الحياة إلا أنني كنت أجفل من أن يطول بها الأمر والبعد على هذه الحال ..لم أكن أبدا أريد لها أن تتجول بين فكي كماشة، ومع ذلك لم أكن أريد لها أن ترمي وراءها عمرها، وتعود وحيدة في عمر لا تكتسي فيه إلا بالقهر ..
استشعرتُ حاجتها لتتحول طيفا رقيقا يخرج من صدأ الأيام!..انطلقت بها إلى شاطئ البحر حيث الناس يفرغون أحزانهم؛ فتهاطل البحر،ودموعها..كانت بحاجة للصراخ.. تسابقت والنشيج؛ فتعانقت والبحرَ، ودخانَ سجائرها.. تناقشنا ..تحاورنا، وتصارخنا .. كان حوارًا طويلاً ملتهبًا أخرجت فيه ما طوته فوق حبال العمر المرير..ارتجفت كجذع نخل عتيق تخلخل َبعبور سراب.. وبين حلقات الدخان ،وأرصفة البحر كانت وجوه أولادها الأربعة تفسح لها مكانا يذري بالقهر، ويحول العطاء إلى محيط كبير يمرح فيه الحنان،وتتغيب الذوات في فتات الأيام..
استقلت أختي الطائرة قافلة إلى ديار كان بودها مرة لو تستطيع إهدارها من الذاكرة، ووراءها رفرفت سنونوات كثيرة تصارع الحرمان ،وأخرى تحرث الريح تشق في النور منصات،ووراء خط الأفق كانت أسراب من القطط تموء تستجدي الحنان..
08-أيار-2021
12-كانون الأول-2012 | |
26-تشرين الثاني-2012 | |
03-أيلول-2011 | |
01-كانون الثاني-2010 | |
27-أيلول-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |