الشوط الرابع* لأحمد حسين (دراسة في علاقات القوة)
2007-10-28
الطيارة تطير إلى فوق. هكذا يقول منطق الأشياء في الواقع الدنيوي. لكن عندما تطير الطيارة إلى تحت، فنحن عندئذ في واقع تخييلي. ربما يستلهم أدوات الدنيا، أو بعضها، لكنه لا يزال محاولاً التعالي على سلطتها القاهرة. واللغة هنا أداة هذا التعالي. هكذا يفعل راوي أحمد حسين في (الشوط الرابع) ، كما نرى في هذا المفتتح:
"- طيري يا حبيبتي... طيري.
وطرتُ أنا. حقيقة طرت. وضحكتُ من الأشجار والحجارة من حولي، وقد دبّت فيها الحياة، وأخذت تتواثب مسرعة إلى أوكارها. وبدا لي أن أصرخ بها لأزيد من ذعرها، ولكنني لم أكن مستعدًا لأن أفلت، ولو للحظة، واحدة ألذ إحساس عرفته... الإحساس بأنني أطير.
كل شيء يتحرك ما عداي. ومع ذلك فأنا وحدي الذي كنت أطير.لم يكن عليّ إلاّ أن أحفظ رجليّ، في وضع لا تصطدمان فيه مع "البدّالتين"، اللتين كانتا تقومان بحركة غير مرئية. و حتى هذا الجهد الصغير، فقد كانت تمتصه تلك الموهبة السحرية، التي كانت تحوّل الثقل نفسه إلى قوة دفع، ويصبح هو الآخر دفعًا جديدًا، يزيد من سرعة العجلات المجنونة، ويجعل الطريق المنحدر، الذي شقه الجيش البريطاني، أقصر ما كان في حياته.
وانشقت عنه الأرض عند قمة المنحدر:
- بسكليت؟؟؟ يا ابـ...ن العرص!!".
لكن اللغة، في النص الإبداعي، لا تتعالى على الواقع من تلقاء ذاتها، ولا بفعل العقل الواعي ـ خصوصاً في المفاصل الرئيسية ـ بل إنها، حين تفعل ذلك، تكون منطلقة من اللاشعور، الممثل الحقيقي للحياة الخافية في أعماق المبدع.
الحرية = الحياة. والقهر = الموت. ولا يضمن الحرية سوى القوة.
هذه هي الثيمة الأساسية التي يدور حولها النص، من مبتدئه إلى منتهاه. وسنرى الآن كيف راودت هذه الفكرة الوسواسية، بإلحاح، لاشعور الراوي.
عندما طارت الدراجة الجديدة بالصبي، دبت الحياة في الأشياء الجامدة. يقول: (وضحكتُ من الأشجار والحجارة، من حولي، وقد دبّت فيها الحياة). فلماذا كان ذلك كذلك؟. سوف نكتشف أن الصبي شعر بالحرية فجأة: الحرية في أن يفعل بدراجته ما يحلو له، وقد كان متخوفاً، بفعل خبرات سابقة، من أن لا يتمكن من ذلك.
الحياة متوثبة هنا. والسعادة غامرة، كما نراها في الكلمات المطبوعة. لكن الطيارة تطير إلى تحت، باتجاه (قمة المنحدر)، التي يؤدي إليها (الطريق المنحدر، الذي شقه الجيش البريطاني). ونحن عندما ندرك أن الكاتب هو أحمد حسين، المفكر والمناضل القومي، الذي يعيش على أرضه، في دولة ليست هي دولته، نفهم تماماً لماذا كان على أي طريق، يشقه الجيش البريطاني، أن يتوجه نحو المنحدر. فالجيش البريطاني هو الذي أنشأ هذا الواقع المرفوض، الذي يجد أحمد حسين نفسه يعيشه. فالكلمات هنا خارجة بالفعل من لاشعور الكلمات، التي طال كبتها ورميها في الأعماق المظلمة السفلى للكاتب. وفق هذه الآلية:
التركيب النحوي الحقيقي للكلمات، في الأصل، هو أن دراجة تطير على طريق شقه الاحتلال، سوف يكون اتجاه طيرانها إلى تحت. فالعلاقات، بين المقهور وقاهره، لا يمكن لها أن تقلع نحو أي أفق.
لكن هذا التركيب النحوي لا يصلح لإقامة واقع تخييلي سردي، بسبب ضرورات فنية، تطلب من العقل الواعي الاستجابة لشرط الإيهام بالحياة.
لهذا فقد قام العقل الواعي بكبت الرغبة الأولى (التركيب النحوي الحقيقي للكلمات) وقال لها: استقري هنا في الأعماق. فهناك حارس على الباب (العقل الواعي) يمنعنا من الخروج. وها هو جوهر عملية الكبت هنا.
ولأن "ما يُقمع يظل باقياً ـ عند أسوياء الناس وشواذهم ـ ويظل قادراً على النشاط النفسي"(1) فإن إعادة تأسيس استمرارية الخطاب الواعي ـ إبداعياً ـ سيتيح للاشعور أن يثور ويرتقى إلى السطح، متفلتاً من رقابة اللغة. وبذا تكون مهمة التفسير، عندئذ، قراءة كل هذا التاريخ السري للكلمات المطبوعة.
لهذا كان من الطبيعي ألا يوصل هذا النوع من الطيران إلا إلى الشر والقبح، ثم الصورة المعهودة للشيطان في الوعي الجمعي: (وانشقت عنه الأرض عند قمة المنحدر: بسكليت؟؟؟ يا ابـ...ن العرص!!).
ليس أحمد حسين مجرد كاتب عادي، ليستخدم الكلمات في سياقها النفعي فحسب، ولا هو قليل الجرأة في مواجهة الواقع الحقيقي وتحليل علاقاته. إنه كاتب مبدع أداته اللغة، وجريء في قدرته على البوح. وهذان شرطان ضروريان لإنتاج أي نص متقن. ولا شك أن النص المتقن لا يستطيع إرهاق نفسه بالزركشة الكلامية ـ كما يفعل الكثيرون من الكتاب اللاتاريخيين ـ بل يهتم بالنفاذ إلى حقائق التجربة البشرية، في موقف بعينه، معادياً القيم الآفلة ـ أو التي يبذل المثقف الموضوعي مسعاه ليضمن أفولها ـ ومنحازاً إلى القيم الجديدة الصاعدة، التي ينبغي لها أن تحقق العدالة(2). ولقد يمكن أن تكون إحدى الوسائل التي يلجأ المبدع، من هذا النوع، إلى استخدامها في هذا السبيل، نزع الأقنعة عن جملة الحيل، التي تتخفى وراءها علاقات القوة، في النص. فلننظر الآن كيف يحلل أحمد حسين علاقات القوة في هذا المقطع:
"وطغى الحسد على الخوف... يتكلم كرجل حقيقي! كلماته لا تهتز أبدًا. لماذا لا أستطيع أن أتكلم مثله! أمي تقول بأنني أكبره بنصف سنة على الأقل، وذلك يعني أنني أكبره بأكثر من سنة. وأنا أطول منه وأعرض، ومع ذلك فلم أقل له كما قررت الليلة الفائتة:
- تريّح! ما فيش ركوب.
وهو كالعادة لا ينتظر.. امتدت يده واستولت على الدراجة، وقبل أن أنجح في استجماع قدْر من الشجاعة لأقول له:
- دير بالك... أوعى تخرّبه..
كان قد طار.
"يا ابن الشرموطة... يا ابن القوادة... يا أخو العاهرة... يا للي إمّك بتضرب في البساتين". ونجحت الخدعة. وتوقفت الدموع التي كادت تنفجر.
وكان هو يصغر رويدًا رويدًا، حتى أصبح نقطة معتمة قرب أسفل المنحدر. ورغمًا عني كانت تعود إليّ شجاعتي الكاذبة... كنت أتشبث بالاستسلام فليس هناك من فائدة على الإطلاق. سوف أفرغ من شجاعتي كما تفرغ الجرة حينما تنكفئ على بابها.
إنه ابن كلب، لا يجرؤ أحد منا على أن يتحدّاه. وما دام "مصطفى" و"شاكر" و"خضر" يخضعون له، فليس هناك معنى لأن أتصدى له أنا. إن ترتيبي من حيث القوة يأتي بعدهم.. نظام متفق عليه بين "الجماعة". كل يعرف حدوده ولا حاجة لاستباق الأمور، فأي تغيير يقتضيه الواقع لا بد أن يحدث تلقائيًا، واللحظة المناسبة تأتي دائمًا... وفي وقتها الصحيح، كأن هناك عاملاً خفيًا يسيّر الأمور".
نلاحظ أننا هنا أمام نوع من الكتابة التعبيرية، التي تعكس العالم من خلال الذات، لتصور صراعاتها النفسية. بحيث نستطيع الزعم بأن الكلمات هنا مقتبسة مباشرة من العقل: لا من منطقة اللغة فقط؛ ولكن من الوعي كله. ولا ريب أن أفضل تقنية يمكن لهذا النوع من الكتابة الذاتية استخدامه سوف تكون تيار الوعي: تلك الطريقة في السرد التي يلجأ خلالها الراوي إلى تقديم محتويات الوعي، في مرحلته غير المكتملة، قبل أن تتشكل للتعبير عنها بالكلام المنظم، عن قصد. إننا إذاً ـ مع راوي أحمد حسين ـ في مرحلة ما قبل اللغة(3).
وإن حديث ما قبل اللغة الصيق بالنفس، يناجيها وينطق بلسانها، قبل أن تؤثر عليه وقائع التاريخ. في هذه المنطقة بالذات تتحرر الأنا من القهر، وتمارس حريتها المطلقة في التعبير، مما يمكن له أن يشكل خطاباً يتسم بالصدق الواقعي، إن اعتبرنا الصدق موافقة الواقع في لحظة ما: (إنه ابن كلب، لا يجرؤ أحد منا على أن يتحدّاه).
وإذ لا تسمح علاقات القوة، لهذا الصدق الواقعي، بالإعلان عن نفسه، فلقد يتراجع إلى أغوار النفس، بعد أن يأمره الوعي الظاهر بالصمت، مؤكداً له ـ بلغة فرويد ـ أن الذات ليست سيدة بيتها الخاص، بل إن السيد هو القوي (وما دام "مصطفى" و"شاكر" و"خضر" يخضعون له، فليس هناك معنى لأن أتصدى له أنا). ومن المؤكد أن الوعي الأدبي ـ من منظور جمالي ـ مفطور على الإعجاب بما هو قوي جسدياً. وكلنا يعرف كيف وصفت العرب قديماً الشاعر الجميل بأنه "شاعر فحل". والحكاية معروفة، في كتب الأدب.
لقد تحول خوف الشخصية، من الخصم القوي، إلى إعجاب مبطن، لا يظهر إلا في خطاب الذات. وإذ لا يمكن للذات أن تعلن صَغارها على الملأ، فإنها تقنع نفسها بأن هذا الشعور فطري، تمنعه الثقافة المتمثلة هنا في الأم (لماذا لا أستطيع أن أتكلم مثله! أمي تقول بأنني أكبره بنصف سنة على الأقل). لكن من هو الذي قال بأن الثقافة أضعف تأثيراً من الفطرة؟. أو على الأقل هكذا يقول الصراع الدائر داخل وعي الفتى ـ الراوي ـ حين يثور، مستحضراً كل أنواع الشتائم التي كان قد قرر بالأمس أن يوجهها للخصم، في مسعى تمثيلي يعيد إنتاج التجربة، وفق علاقات متمناة، تكبح نهر الدموع، الذي أوشك على السقوط.
يمكن لنا هنا رؤية صراع بين إرادتين أصيلتين، في وعي الفتى: إرادة التحدي، وإرادة الاستسلام. ولسوف يستعين وعي الفتى، في هذا الصراع، بتحليل آلياته التي خبرها منذ زمن بعيد. لسوف يستعين بالمعرفة كقوة: معرفة أنه لا يمتلك إلا شجاعة كاذبة: (ورغمًا عني، كانت تعود إليّ شجاعتي الكاذبة). وهنا لا يمكن فهم هذا التقريع للذات، إلا باعتباره أداة استنهاض، أداة قوة، تستعين بخبرات مؤلمة سابقة، وتستحضرها، بهدف تحذير الذات مما هو متوقع، فيما لو استسلمت لمنطق القوة. ومعلوم أن استعادة خبرات الألم نوع من التطهير، يمهد لاستعادة الحياة السوية، فيما يشبه مشهداً تمثيلياً في تراجيديا إغريقية(4).
في العالم الذي يسعى المثقف الموضوعي إلى تغييره، تقوم العلاقات وفق تراتبية تنازلية من الأعلى إلى الأدنى. ومن المنطقي، والحالة هذه، أن يبدأ الصراع داخل الذات، في المنطقة الآمنة نسبياً، حيث تتوفر حاضنة الثورة، التي تبدأ في التصاعد، إلى أن تبلغ من القوة ما يدفعها إلى الظهور. يبدأ الوعي في إقامة العالم مرة أخرى على رأسه، ومن ثم يبدأ في تحليل العلاقات، وفق هذا النموذج:
وعندما أحضر لي والدي الدراجة كنت أعرف سلفًا من سيكون لهم الحق في استعمالها، فلن يكون بوسعي أن أرفض طلب أي واحد من الأربعة، ابتداءً منه.. من "عوض" إلى "خضر" في ركوبه، ولكنني لم أكن أشعر بشيء من القلق بالنسبة للثلاثة الآخرين. فهم لا يبالغون في تقدير حقهم المكتسب.. شوط واحد لكل منهم.. وانتهى. أمّا هو فقد ظل يبعث القشعريرة في جسدي معظم الليل. وحينما غفوت أخيرًا أفقت بعد قليل وأنا أبكي.. فقد حطّم الدراجة.
(...)
لم يكن هناك فاصل في نظره بين ما يملكه هو أو يملكه الآخرون. وليس هناك من مجال للمناقشة على الإطلاق".
لكن الوعي وحده لا يصنع الثورة؛ إذ لا بد من إرادة التحدي. وإرادة التحدي بحد ذاتها قوة. لكن أحمد حسين ـ المبدع ـ لا يمكن له أن يصنع عالماً مثالياً، في قصة تخييلية: فقد مضى عهد الفروسية، منذ حطمت علاقات العالم الحديث سيف دون كيشوت، وجعلته يتكسر على طواحين الهواء. إن العالم الحديث عالم (شديد قسوة العقلانية). وكل مبدع يسعى لإقامة عالم يحاكي أفعال الكتابة التاريخية، لابد له أن يوهم بالإمكان الظرفي: أي أن يضمّن عالمه ما يتوافق مع علاقات الدنيا، في الزمن المحكي. ولذا فلا يمكن لـ(صالح) ـ الشخصية الرئيسية ـ أن يصحو من نومه ذات يوم، فيجد نفسه قادرة على سحق الخصم القوي (عوض)، باستخدام التمنيات الجميلة، بل لا بد من أن تحيا الشخصية واقعها، وتتصرف وفق ظرفها الموضوعي، كما يحدث في الدنيا، فيبدأ بالتأسف على واقع أتاح له كسباً لا يستطيع المحافظة عليه، قبل أن ينتقل إلى تمني زواله، خوفاً من أن يجد نفسه مضطراً إلى قبول تحدٍ، هو أكبر من قدراته المحسوسة. يقول الراوي:
"ولأول مرّة شعرت بالأسف لأنني أملك دراجة. وتمنيت أن يحطمها فعلاً، أو أن أتركها له وأقول لأهلي إنها تحطمت. وشعرت بحاجة شديدة إلى البكاء، وكنت على وشك ذلك".
لكن تطورات الواقع الدنيوي لا تترك مجالاً للضعيف، إذا ما أراد المحافظة على إنسانيته، إلا أن يواجه منطق القوة بما يكافئه. وهنا نرى أن التحدي ـ كما هو في الدنيا ـ يُفرض في الغالب على الضعيف فرضاً، إذ ينحاز العالم، الذي يرى الجمال في القوة، إلى الجانب القوي، غير متيح للضعيف إلا أحد خيارين: المواجهة أو الموت. ألا نرى أن منطق القوة ما زال هو هو منذ عهد قابيل وهابيل!.
يمكن للشخصيات المثالية أن تختار واقعاً غير دنيوي. لكن هذا يحدث فقط في موضعين: الأساطير والأديان. ومعلوم أن كليهما يحيل إلى علاقات لاتاريخية. أما في السرد الدنيوي فلا علاقات هناك إلا علاقات التاريخ. لذا فلقد نرى هابيل (الخير) يحاول تجنب المعركة، ولكن إلى حين. وإذ يشعر هابيل بالثورة التي أفرزتها الإهانة ـ خلافاً لما تمليه علاقات الكتاب المقدس ـ فلقد يسمع الشيطان (خضر) يوسوس له بضرورة البكاء، إذا ما أراد استعادة الدراجة من قابيل. ونحن ندرك بطبيعة الحال أن خضر لا يطلب من صالح البكاء، إلا بهدف استثارته وتحريضه ضد الخصم القوي، الذي لا يستطيع مواجهته. يقول الراوي:
"وقال بجدية:
- عيّط!
- لليش؟
- بلكي يعطيك اياه.
وشعرت بثورة غير متوقعة. كانت الإهانة جارحة إلى حد بعيد، ولعلّ البساطة التي قالها بها هي التي جعلتها مؤلمة إلى حد لا يُحتمل.. عيّط! هكذا وببساطة.. ولماذا! لكي تحصل على دراجتك من خصم أصغر منك".
لقد تمت إقامة علاقات جديدة الآن، وقابلة للتطور ـ يجب ألا ننسى أنها علاقات قوة ـ علاقات جعلت التراجع عن الثورة أمراً بعيد المنال. الكاتب هنا يستنزف العلاقات أقصى منطقها؛ أو ـ بعبارة ماركسية ـ يفعل الكاتب ذلك، لكي يضمن حتمية التحول التاريخي. فيواصل هكذا:
"وفي الحقيقة، فقد شعرت في تلك اللحظة أنني يجب أن أذهب إلى البيت وأنسى الدراجة. سيقول له ابن العاهرة حتمًا. إنها فرصته الوحيدة للحصول على الشوط. وأخذت أشعر مقدّمًا بالضربات على جلدي، وامتدت يدي تمسح أنفي وتتحسّسه".
حسناً. نحن هنا ما نزال نرى كيف يتطور الصراع، داخل وعي الفتى، تطوراً تصاعدياً، ولكن بتدرج بطيء، ينطلق من الشعور بالإهانة، إلى الشتائم المكتومة، وصولاً إلى الشعور بالأذى الجسدي المحتمل، حيث لم يزل الفتى في طور ما يمكن له أن يطيقه.
لكن منطق التحدي يواصل تدحرجه نحو النهاية المحتومة، حين يعود (صالح) إلى البيت دون دراجته. وحين يسأله أخوه الأصغر (حسن) عنها، ينزلق إلى قرار جديد: أن يذبح (عوض) فيما لو استلب منه الدراجة، مرة أخرى، خصوصاً وقد كان التزم لأخيه الأصغر بمثل ذلك في السابق، ثم لم يفعل:
"- وين البسكليت؟
"حسن"؟؟
وشعرت بأنني أنسحق وبدأ الدم يتجمع في وجهي ويضغط عيني وأرنبة أنفي بإلحاح.
- وين البسكليت؟
واختنقت وأنا أقول:
- مع "عوض".
- مع "عوض"! ما قلت بدكش تعطيه، وإن حكى بدّك تدبحُه؟!
وسمعت ضحكة "خضر" قبل أن تخرج إلى حيّز التنفيذ.
- يذبحه؟ يا عيني!
ونظر إليّ أخي الصغير متسائلاً، فقلت وكأنني أقفز من مكان عال:
- آه بذبحه.. وهسّه بورّيك.
كان هذا هو الالتزام الثاني أمام أخي... وقد كان هذه المرّة على أرض المعركة، أما في المرة الأولى فقد كان بعيدًا عنها.. كان على أرض معركة وهمية، في البيت بل وعلى الفراش".
وإذ شعر الراوي بأن هذا الالتزام وحده لا يكفي لدخول المعركة، فقد دفع الحركة السردية باتجاه تصاعدي أكثر، حين وظف شخصية (خضر) لتقوم بدور المحرض الخارجي على الفعل، فقام بإبلاغ محتوى هذا التهديد إلى (عوض) ليضمن حدوث المواجهة.
أما لماذا يفعل خضر ذلك فمعروف: لكي لا يظل يجلد نفسه على صغاره الشخصي أمام (عوض) الأقوى بين أفراد الشلة، مستمداً من هزيمة (صالح) المتوقعة ذريعة لاستمرار قبول حكم القوة. لكن ما حدث بعد ذلك كان مفاجئاً لخضر، رغم أنه متسق مع طبيعة الموقف: نفسياً وسردياً:
"وبدأ إحساسي بالخوف يتلاشى تدريجيًا، تاركًا مكانه لإحساس جديد أكثر إلحاحًا.. الإحساس بالخطر. فلم يعد الآن مجال للشك أو الأمل ...
(... )
ويبدو أنني فقدت إحساسي بأي شيء، وأنني مع الدموع التي انهمرت من عيني وجّهت قبضتي إلى وجهه. فقد صحوت على صرخته وهو يغطي وجهه بكلتا يديه بينما كانت قبضتي لا تزال مضمومة وقد كانت أشبه بالعصا. وحينما رفع إليّ وجهه المدمّى.. نزلت العصا مرة أخرى، وثالثة ورابعة وخامسة".
وذهب الإحساس بالخطر، ليحل محله شعور وحشي بالنشوة، ملقياً الضوء على الخطر الكامن، في علاقات قوة تتخلى عن منطق الأخلاق. لقد تحول المقهور إلى قاهر، لم يعد مكتفياً باسترداد ما له، بل صار يمعن في فعل نشوة مرذول، يعطي لصاحبه حقاً ليس له، إلا أن يعيد ترتيب العلاقات، في نفس المعادلة التي أراد لها أن تزول من الأصل. يقول الراوي من خلال وعي (صالح):
"وأخذ يضرب بيديه في الهواء، محاولاً أن يمسك بي.. ولكن عبثًا، فقد كانت يداي الطويلتان تدفعان به بعيدًا مع كل ضربة. وكنت لا أزال أبكي، ولكن بدون صوت. فقد كان صوت اللذة الحاقدة هو الذي يرافق ضرباتي.. حشرجة غريبة متقطعة أشبه بموسيقى وحشية ترافق كل ضربة.
(... )
- ما يموت! خلّيه.. ناولني حجر بقول لك يا حسن!
- دخل النبيـ يـ يـ يـ ...
- حرام يا صالح. حرام. بقدّيه.
وحينما رضيت أن أتركه، كان أشبه بجسم غير واضح الشكل، يغمره التراب".
"لا تصل الطبيعة إلى غاياتها إلا بواسطة الثقافة. ولا ترضي النزعة نفسها إلا عبر المؤسسة. بهذا المعنى يكون التاريخ طبيعة بشرية"(5). فالنزعة صنو الطبيعة البكر. والثقافة صنو المؤسسة، التي هي فعل حضاري وسم تاريخ الإنسان، منذ نزوله عن الشجرة.
لقد طلبت الغرائز من صالح أن ينتقم، انتقاماً يفوق كل حدود العدالة، مستعينة بالمؤسسة، التي مثلتها الأم، التي حرضت الصبي على مواجهة القهر بمثله. ولأن المؤسسة إنتاج حضاري، فلم يدر بخلدها أن يصل حب الانتقام بالصبي إلى تخوم القتل. والصبي، بدوره، لم يكن ليطلق العنان لغريزته المارقة، لولا اطمئنانه إلى أنه محمي بالمؤسسة ـ الأم ـ غير مدرك أنه متجاوز للحدود: حدود المؤسسة ذاتها.
لكن للغريزة انفعالاتها، التي تخرجها أحياناً عن رقابة المؤسسة. والنشوة أهم هذه الانفعالات. لقد انتشى صالح، بانطلاق غرائزه الكامنة فجأة، بعد إذ ظنها تحت الضبط (حشرجة غريبة متقطعة أشبه بموسيقى وحشية ترافق كل ضربة) وبدأ ينزلق نحو قتل الخصم، بعد أن رآه ضعيفاً غير قادر على المقاومة (ما يموت! خلّيه.. ناولني حجر بقول لك يا حسن).
ورغم اعتياد الناس على ربط فعل النشوة بالإشراقات الصوفية العظيمة، إلا أن ذلك لا يلغي حقيقة أن هناك نوعاً من النشوة المرذولة أخلاقياً، مرجعها إلى الغرائز الأولى، كنشوة الانتقام مثلاً. إن النشوة هنا مجرد غريزة منحطة أولى. ورغم أن الأديان السماوية كلها جاءت بنبذها، وطلب التعالي عليها، بهدف السمو الروحي، إلا أننا لا نزال نرى أسوأ تجلياتها في (خطباء الفتنة) الذين يعتلون المنابر، ويثيرون في المستمعين أحط غرائزهم وأدناها. ولئن شئت أن ترى مدى ما تثيره هذه الخطب من شر، فما عليك إلا مراقبة ما تفعله جماهير هائجة، أخرجها خطيب ديماغوجي عن وعيها (المثقف) وقذف بها في حمأة رسوباتها الطينية الأولى. فلننعم النظر، مرة أخرى، في هذا المشهد:
"وأخذ يضرب بيديه في الهواء، محاولاً أن يمسك بي.. ولكن عبثًا، فقد كانت يداي الطويلتان تدفعان به بعيدًا مع كل ضربة. وكنت لا أزال أبكي، ولكن بدون صوت. فقد كان صوت اللذة الحاقدة هو الذي يرافق ضرباتي.. حشرجة غريبة متقطعة أشبه بموسيقى وحشية ترافق كل ضربة".
ثم فلنر الآن، كيف تعاونت الألوان والأصوات مع الحركة، في إضفاء الحياة على هذا الفعل المرذول، لنتأمل قبحاً أخلاقياً مصوراً بأسلوب جمالي شخصه تشخيصاً، كأنه حاضر بيننا الساعة. ثم لا يجب أن ننسى أن المؤلف الضمني، من وراء ذلك، يريد أن يضاعف جرعة القبح في (صوت اللذة الحاقدة) هذا، مقرراً ـ وهو المتعاطف مع الشخصية الرئيسية (صالح) ـ أن يهب النهاية الجميلة، أخلاقياً، لانتصار الصفح جمالياً ونفعياً، بهذه الصورة:
"وحينما رضيت أن أتركه كان أشبه بجسم غير واضح الشكل يغمره التراب.. ومضت لحظات طويلة قبل أن يستطيع القيام ويمضي وهو يردّد صيحات متقطعة أشبه بالعواء.
(... )
وبعد لحظات، كنت أطير".
لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "إن من البيان لسحراً".
08-أيار-2021
06-آب-2016 | |
25-أيار-2015 | |
28-أيار-2014 | |
01-آذار-2013 | |
25-تموز-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |