ما زلت أذكر أبياتاً شعرية حفظتها في الطفولة, وسمعتها بصوت فيروز الرائق: لمَ لا أحيا وظل الورد يحيا في الشفاه, ونشيد البلبل الشادي حياة لهواه لمَ لا أحيا وفي قلبي وفي عيني الحياه... سوف أحيا.. سوف أحيا.. هل هناك أقصر من عمر وردة! هي تدرك نهايتها السريعة, لكنها ودون تردد تنفق كل أرصدتها العطرية للآخرين! بعض المبدعين يشبهون تلك الوردة, ما تلبث براعمهم وأزهارهم بالتفتح ونشر العبق, حتى تختطفهم يد الموت, فلا يزيدهم الغياب إلا حضوراً.
في التاسع من تشرين الأول الجاري أسدلت الستارة على احتفالية تونس والعالم العربي بالذكرى المئوية لولادة ( أبو القاسم الشابي ) شاعر الحرية والخلود الذي اعتبر أحد رموز المدرسة الوطنية, في مرحلة مثلت منعطفاً حاسماً فى تاريخ تونس, حيث قضايا الحرية والاستقلال تتصدر اهتمامات النخبة المثقفة, كما اعتبر أيضاً واحداً من رواد الشعر الحديث وشعر المقاومة في فترة الاحتلال الفرنسي لتونس, وقد وصفه أحد النقاد بأنه “مدرسة في الشعر العربي أساسها أدب إنساني يصل إلى عمق الحياة”.
وبهذه المناسبة كانت قناة الجزيرة الفضائية قد احتفت بأبي القاسم الشابي, فخصصت له فيلماً وثائقيا حاول من خلاله الصحفي جمال العرضاوي مخرج ومعد الفيلم، أن يحاور ما وصفه ب " الحضور الطاغي لنص الشابي والغياب الظالم لنصوصه". و أن يستطلع آراء العديد من الأدباء والمفكرين ( آمال موسى, المنصف الوهايبي, محمد بنيس ... ) حول إعادة قراءته وتخليص إرثه من الجمود الذي ضخّم شيئاً وغيّب أشياء . وقال العرضاوي إن "الشابي المجهول لا يقل أهمية عن الشابي المعروف", وعن أهمية قراءة الشابي بعد مئة سنة على ولادته قال : "الشابي حاضر بيننا الآن وكأنه قد رأى ببصيرته ما يحدث في عالمنا اليوم من ظلم واستبداد, وفي المقابل ما تقوم به الشعوب من أجل كسر قيودها", وعرض الفيلم مساء الجمعة الماضي على الجزيرة, وفي الإطار ذاته كان بريد تونس قد أصدر يوم 24 شباط 2009 طابعاً بريدياً تخليدا لمئوية
مولود المرض والحزن
في بلدة الشابة التابعة لولاية توزر في تونس, المعروفة بكثرة العلماء و الشعراء فيها, ولد أبو القاسم الشابي (24 شباط 1909 - 9 تشرين أول 1934م) وكان يشكو انتفاخاً وتفتحاً في قلبه. إن التطور الطبيعي للمرض مع الزمن, والصدمة التي تلقاها بموت محبوبتة الصغيرة, و إهماله لنصيحة الأطباء في الاعتدال في حياته البدنية والفكرية, وزواجه فيما بعد, كل ذلك لعب دوراً أساسياً في تكوينه النفسي والاجتماعي, وهو ما دفعه ربما ليكتب في يومياته ( يوم الخميس 16-1-1930 ) : " ها هنا صبية يلعبون بين الحقول, وهناك طائفة من الشباب الزيتوني والمدرسي يرتاضون في الهواء الطلق, والسهل الجميل ومن لي بأن أكون مثلهم ؟ آه يا قلبي ! أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية ". رغم قلبه الضعيف وجسمه النحيل, امتلك الشابي روحاً متمردة ثائرة, استطاعت بإكسير الإرادة والحلم أن تحيل الكآبة والحزن واليأس إلى قصائد خالدات, ما إن يصاب شعب باستكانة حتى يتذكر: إذا الشعب يوماً أردا الحياة... فينطلق ليروض إرادة القدر, إنه الشعر الذي قال عنه الشابي هو: " كل ما تسمعه وتبصره في ضجة الريح وهدير البحار وفي نسمة الورد الحائرة, يدمدم فوقها النحل ويرفرف حولها الفراش وفي النغمة المرددة يرسلها الفضاء الفسيح”, و أن من غايات الشعر إكراه العالم على الخروج من مجال الضرورة إلى مجال الحرية, وإلاّ فقد قيمته وبات بلا معنى. الشابي ورغم كل الحزن والكآبة التي تخيم على كثير من شعره, لم يعتمد الرثاء كغرض من أغراضه الشعرية، إلا في مناسبات محدودة فرثى أباه وجبران خليل جبران, وكذلك فعل الشابي مع المديح الذي تعوّده الشعراء العرب.
ثمة دراسة لظاهرة الكآبة عند أبي القاسم الشابي, وقد رأى معدّها في كآبته بعداً فلسفياً و صوتاً باحثاً عن الحقيقة, فالشعر عنده كان وسيلةً للتنفيس, ومنطلقاً لأشجانه, و تعبيراً عن أحلامه التي أورثته الحزن و الكآبة, فعرض للكآبة بوصفها منطلقاً للأمل و سبيلاً إلى الإبداع الشعري عند الشابي. من المتعارف عليه أن الكآبة تشكل عنصراً رئيساً في المذهب الرومانسي, و وقد عاشها الشابي وتقلب في فراشها, ليغدو رمزاً من رموزها في الأدب العربي, ولو نظرنا إلى فهرس أحد دواوينه لتبينَ لنا ذلك الشعور المزدحم بالألم و الحزن: ( من وراء الظلام – خلّه الموت – في الظلام – مأتم الحب – الكآبة المجهولة – أيها الليل – شكوى اليتيم – السآمة – الدموع – أغنية الأحزان – المسافر الحزين – الكآبة المجهولة – نشيد الأسى – بقايا الخريف – في فجاج الآلام – إلى الموت – صوت – تائه – الجنة الضائعة – الدنيا الميتة – شكوى ضائعة.... ) كما سنجد كثيراً من ألفاظ الموت و الضياع و التيه و الرثاء و الظلام و الخريف و الألم, وللكآبة عند الشابي أسباب ذاتية منها مرضه, ووفاة والده, وأسباب خارجية كضعف الأمة وهو ما شغله وأثر سلبياً على صحته وقد قال: أيها الشعب ,, ! ليتني كنت حطاباً فأهوي على الجذوع بفأسي....
للزمن في شعر الشابي أربعة أنماط وفقاً لتلك الدراسة: الزمن الجسدي, الزمن الموضوعي, الزمن المجرد, و الزمن المنشود, ولكن مهما تعددت أشكال الزمن لديه, يبقى الحلم وما يتصل به من عدم تحديد و تفكيك لأنظمة الواقع بأكملها في علاقتهـا بالمادة هو الزمن الحقيقي.
حين يكتب ينعكس الواقع في شعره ثورة، وصرخة في وجه سكان القصور أو المستعمر المستبد أو الشعب إذا ما تبلد إحساسه تجاه الوطن " فيتأسس الزمن الشعري لديه على التوتر و التواتر, و لا ننس التناظر في علاقة الكلمات فيما بينها من مذكر و مؤنث, فحساسية الشاعر لا بد تتفطن لهذه العلاقة الكيميائية في صميم اللغة بين الأسماء المؤنثة و الأسماء المذكرة, بل الأصوات المؤنثة و الأصوات المذكرة و تمزجها, ذلك المزج الذي هو من صميم الطبيعة و الوجود. .بل يذهب الشاعر إلى صدام المفرد بالجمع لخلق علاقة من التضاد المحبذ في الإيقاعية "
كان عالم الطفولة بالنسبة للشابي هو عالم الألفة المتناقض مع عالم الواقع عالم الغربة و الفرق بينهما هو " فرق في خصوصيات الزمن, فبقدرما يكون الزمن ممتدا، شاسعا، لا زمنيا تكون راحة الذات الشاعرة و سعادة الروح التي من طبعها اللاتحديد و الخلود و بقدر ما يكون الزمن إنسانيا ، دنيويا محدودا يكون اختناق الشاعر وعزلته". كانت لحظة العودة الى عالم الطفولة أو عالم الطبيعة هي اللحظة الأثيرة لديه, لأنها العودة الى الأصل, إلى وطن الروح. ان الزمن المنشود هو زمن الحقيقة، الزمن المطلق حين تتخلص الروح من صراعها مع الماضي والحاضر و المستقبل و تعلو فوق قوانين المادة الزائلة, " إنه زمن التحرر الذي لا يتم إلا بالتجاوز, فتتحقق الذات على مستوى فردي (الأنا) و جمعي ( النبي و الشعب ) و كوني ( الشاعر ذاكرة الوجود) و هذه هي وظيفة الشعر في اللغة ووظيفة الشاعر في الحضارة" .

سوزان ابراهيم
النشر الورقي جريدة الثورة